العقيد القذافي يكون سخياً لتوريط من يقبلوا إكرامياته

 


 

طلحة جبريل
26 April, 2011

 


لعل من مفارقات هذا الزمان، أن يتعرف سوداني على الكثير من تفاصيل مشكلة دارفور في واشنطن. لكن ذلك ما حدث.

كنت قد جلست إلى السياسي أحمد إبراهيم دريج في أحد فنادق فرجينيا في مارس 2007، في لقاء مطول، وهناك شهود، ومنه استمعت إلى تاريخ الإقليم وخلفية المشكلة.

علي أن أقول الآن إنني استمعت فعلاً إلى شرح عميق لمشكلة دارفور، وجذور هذا النزاع الذي وضع الإقليم عند مفترق طرق، واستمعت تفصيلاً إلى الدور الذي لعبته التركيبة السكانية والقبلية، وكذا،وكان ذلك مهماً للغاية، إلى الدور الذي لعبته تشاد و"العقيد معمر القذافي" في أزمة دارفور. وتيقنت بعدها أن "العقيد القذافي" ساهم خلال جميع مراحل النزاع في تعقيده، بل في بعض الأحيان في تأجيج الصراع.
لا يمكن بالطبع أن نعلق كل تداعيات المشكلة على المشجب الليبي وبدرجة أقل على المشجب التشادي، إذ يقيناً أن السياسات الخاطئة للنظام في الخرطوم أدت إلى نتائج وخيمة وكارثية، قادت في نهاية المطاف إلى "تدويل القضية ".
في فرجينيا التقيت أيضاً مني أركو مناوي في مارس 2008، وكان وقتها "مساعد رئيس الجمهورية"، وكان بحكم الموقع، وعلى الرغم من أنه جاء أيامئذٍ إلى واشنطن غاضباً، في غاية التحفظ، وقال حينها في معرض تفسيره لوضعه الملتبس "نحن جزء من الحكومة ولسنا جزءاً من النظام" وبدا لي يومها أنه لا يريد في الواقع أن يقول شيئاً، ربما يعرف الكثير لكنه مقل جداً وحذر ومنطوٍ على نفسه، لذلك عندما طرحت عليه سؤالاً حول علاقة ليبيا مع الحركات المسلحة في دارفور، تجاهل السؤال تماماً.
وفي يوليو عام 2008 التقيت في واشنطن عبد الواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان، وهو رجل منشرح يتحدث بتلقائية وبجرأة، ميوله اليسارية واضحة، شديد العداء "للإسلاميين" بسبب خلفيته الأيديولوجية، لكنه يقول في كل الأحوال ما يريد هو أن يقوله، وليس ما يريد صحافي أن يسمعه. وعندما سألته عن الليبيين وعلاقة حركته مع طرابلس وما إذا كان يتلقى منها دعماً مالياً أجاب، وهنا أنقل كلامه حرفياً "ربما يدفع الليبيون لآخرين ولكن ليس نحن،الذي يدفع لك يوجهك وهذا هو الثمن، ومن اشتراك اليوم يبيعك غداً، وبما ألا أحد حتى هذه اللحظة استطاع أن يشترينا بالتالي ليس هناك من باعنا" كان هذا ما قاله.
لم التق مع خليل إبراهيم رئيس حركة "العدل والمساواة"، لكن التقيت في واشنطن مع مساعده جمالي حسن جلال الدين، الذي لقي حتفه بطريقة مروعة في أم درمان، عندما حاولت الحركة تنفيذ انقلاب في الخرطوم، في ما يعرف "معركة أم درمان" وكان الجمالي، والرجل في ذمة الله، متحفظاً حول مسألة العلاقة مع ليبيا، ولاحظت أنه كان يركز في حديثه معي على أن الحركة لا علاقة لها بالحزب الشعبي ورئيسه حسن الترابي.
هذا بعض ما سجلته في أوراقي الشخصية حول تلك اللقاءات، وخاصة علاقات حركات دارفور مع ليبيا.
الثابت أن "العقيد القذافي" وفي إطار سياسته التي ترى أن من الضروري "ربط علاقات مالية" مع جميع أطراف النزاعات في أية مشكلة، كان حريصاً أن تكون له علاقة مستمرة، في صعود وهبوط لا يهم، مع "الخرطوم" وحركات دارفور، لذلك كان رده عندما طالبته الخرطوم بتسليمها خليل إبراهيم، بعد أن أبعدته تشاد "منحناه حق اللجوء السياسي ومن صالحكم أن يبقى معنا".
ليست لدي معلومات يعتد بها، بشأن ما يقال الآن، من أن بعض أعضاء "حركة العدل والمساواة" يقاتلون إلى جانب "كتائب العقيد القذافي"، لكن استرعى انتباهي ما ورد في تقرير نشره معهد "إتش إ س بي إيه" في سويسرا، ومعلوماتي عنه محدودة، بعنوان "الاضطرابات في ليبيا والصراع في دارفور".
يقول التقرير، وهنا أترجم بعض فقراته "في الوقت الحاضر جار آخر للسودان (تصله الثورة الشعبية) هو ليبيا التي يتجاور جنوبها الشرقي مع شمال دارفور، وهو أمر يحظى باهتمام الخرطوم، وهناك كثيرون يعتقدون أنه سيغير من دينامية الصراع في دارفور، بل ربما السودان كله... وترى الخرطوم أن التمرد في دارفور يحصل على فرصة جديدة للانتعاش، لأن العقيد معمر القذافي يقدم السلاح لأي شخص مستعد للقتال إلى جانبه، خاصة مع انهيار سلطة الدولة في ليبيا ويشمل ذلك بعض مناطقها الجنوبية، وهو ما سيخلق سوقاً أسود للسلاح والعربات والوقود. وتتركز الأنظار في الخرطوم على حركة "العدل والمساواة"، وهي الحركة المسلحة الأقوى، والتي تعتقد الخرطوم أن القذافي يعيد تسليحها لإعادة مهاجمة العاصمة، طبقاً لما تقوله بعض الشائعات، في الوقت الذي يبحث فيه القذافي عن مساندة أولئك الذين ساندهم في الماضي".
وفي فقرة أخرى يقول التقرير "تنفي حركة العدل والمساواة أنه يتم تعبئتها من طرف القذافي، ويعتقد دبلوماسيون غربيون بعدم وجود أدلة على ما تقوله الخرطوم، وأبلغ قادة الحركات المسلحة في دارفور، الذين ضعفت قواتهم خلال السنة ونصف الأخيرة بسبب المواجهات والهجمات الجوية موظفي الأمم المتحدة (في دارفور) أنه لم يكن لديهم قط تسليح جيد كما هو الشأن حالياً ".
وفي فقرة أخرى نقرأ في التقرير "بعد أن منع خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة من دخول تشاد (طرد من مطار أنجامينا) وأعيد إلى الطائرة التي جاء بها من طرابلس، إذ كان ضحية للمصالحة بين الرئيس عمر البشير ونظيره التشادي إدريس دبي، التمست الخرطوم من ليبيا إبعاده، وأوفدت مرتين المدير العام لجهاز المخابرات للقاء القذافي، لكنه رفض التنازل عن ورقته القوية في دارفور، معارضاً وجو قوات لحفظ السلام في دارفور، وكان مصمماً على سحب محادثات السلام حول دارفور من قطر".

ويشير التقرير إلى أن مقاتلين من حركة العدل والمساواة انتقلوا إلى منطقة الكفرة في ليبيا على الرغم من نفي الحركة ذلك، وينسب التقرير هذه المعلومات إلى "مصادر متعددة ".
الخلاصة، أن"العقيد معمر القذافي" عمل دائماً أن يكون له "موطئ قدم" في دارفور، منذ أن شرع في تدخلاته في تشاد آواخر سبعينيات القرن الماضي، وفي ظني أنه حرص باستمرار، سواء في عهد جعفر نميري أو الديمقراطية الثالثة أو منذ بداية "الإنقاذ" أن يضع ورقة دارفور في جيبه. والحقيقة التي تحرج كثيرين أن "العقيد القذافي" يكون سخياً جداً، عندما يريد أن يورط من يدفع لهم في مواقف صعبة، إذا احتاج لهم في وقت لاحق، قتالاً أو سياسة أو حتى صمتاً .
سأختم هذه المقالات بسرد واقعة باقتضاب.
كانت آخر مرة أزور فيها ليبيا في عام 2003، عندما وجهت لي دعوة آنذاك للمشاركة بورقة في ندوة حول "أدب الصحراء"، وتحمست في الواقع للذهاب إلى هناك، لأنني كنت أريد جمع معلومات إضافية حول مصير باقي "أعضاء مجلس قيادة الثورة" وأين يوجد كل واحد منهم وماذا يفعل، في سياق الإعداد لكتاب "الملك والعقيد" الذي سيصدر عام 2007 واشتمل ذلك الكتاب بالفعل على تلك المعلومات، وعندما كنت في طرابلس، اقترح عليّ أن يصدر الكتاب من "دار الجماهيرية" على أن أتلقى مسبقاً حقوق النشر التي حددوها في 25 ألف دولار، بشرط ألا تصدر طبعة أخرى من الكتاب، وفهمت من العرض أن الغرض هو ألا يصدر الكتاب أصلاً، ولم أرفض بل قلت إنني "سأدرسه"، لكن كان قراري في الواقع هو "رفض العرض"، وبالفعل صدر الكتاب وأنا وقتها في واشنطن.
وكان ملفتاً أن أحد المسؤولين في إحدى الحركات المسلحة في دارفور، هو الذي سيتصل بي في واشنطن مقترحاً "توطيد علاقتك مع الليبيين"، وكان ذلك قبل أن يصدر الكتاب.
لم أعلق على الاقتراح، بل شكرت صاحبه.
ولا أزيد.

عن"الأخبار" السودانية

talha@talhamusa.com

 

آراء