وَسَقطتْ الحِجَارةُ علَى السَّـفارةِ

 


 

 


أقرب إلى القلب :

jamalim@yahoo.com
( 1 )
قبل يوم من جمعة العنف على السفارتين الغربيتين، واللتين حملتهما الجماهير المسلمة الغاضبة في الخرطوم وزر الفيلم المسيء، كنت أعبر طريقاً رئيساً في الخرطوم، يعجّ جانباه بعددٍ من السفارات العربية. هالني أن رأيت ثلة من عناصر شرطة السفارات،أربعة أو خمسة، وهم في لباسهم الرسمي، يتحلقون أمام بوابة سفارة عربية حول طاولة يحتسون الشاي أو القهوة، مغرب ذلك اليوم في جلسة أنس محضورة. سيسأل البعض ممن لا تثيره قصتي هذه: وما مهام السفارات وما أهميتها وما هي مستويات الحماية التي ينبغي على الحكومة توفيرها للبعثات الدبلوماسية. . ؟
تنصّ المادة التاسعة من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية(1961م) على أنّهُ من واجب الدبلوماسيّ، وضمن واجباتٍ أخرى:
- تمثيل الدولة الموفدة لدى الدولة المضيفة،
- رعاية مواطني الدولة الموفدة في حدود ما يسمح به القانون،
- التفاوض نيابةً عن الدولة الموفدة مع الدولة المضيفة،
- التعرف بكل الوسائل المشروعة على الأحوال والتطورات في الدولة المضيفة ونقل المعلومات عنها الى الدولة الموفدة،
-  تقويم العلاقات بينهما في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. .
في المقابل تلتزم الدول الموقعة على اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية ، بحماية الممثلين الدبلوماسيين والسفراء، وبتوفير أكبر قدرٍ من المساعدة التي تعينهم على أداء واجباتهم ومهامهم في مقار عملهم وسكناهم. وأنّ الاتفاقية المشار إليها قد جرى إنجازها واعتمادها من كافة الدول تقريبا ، وعمرها أكثر من نصف قرن .
( 2 )
لعلّ مَن يتابع المُمارسات الدبلوماسية في محيطها الوطني أو في ساحاتها الإقليمية والدولية، لا يُخطيء بصره عن رصد تطورات هامة . أول هذه التطورات يتصل بسيل المعلومات، إذ ان انسيابها عبر قنوات التواصل التي أتاحتها ثورة الإتصالات والشبكة العنكبوتية والأقمار الاصطناعية، شكلّ تحدياً جديداً لا تنفصل فيه المعلومة عن وسيلة انتقالها، بما أحدث تفاعلاً بينهما لم يكن متاحاً من قبل. في الحقيقة أنك لا تجد في الكتاب أو التقرير حين يخرج من مطبعة، أو في المعلومة وهيَ تنشر في الصحيفة الورقية المطبوعة، أيّ سانحة لتفاعل آني يقع بين المعلومة ووسيلة انتقالها إلى المتلقي.
التطور الثاني  الماثل هو الذي وقع في بداية العقد الأخير من القرن العشرين، وهو زوال الاتحاد السوفيتي، وتراجع الصراع بين الشرق والغرب، ليتخذ الصراع شكلا نوعياً جديداً وبعيداً عن الجغرافيا والاتجاهاتويصير صراعاً بين الأغنياء والفقراء، ويدخل المجتمع الدولي حقبة جديدة يلفها الغموض،فيما ثورة الاتصالات واعتماد الشفافية تشيعان في الآفاق. أختزل لك هذا التطور الهام، كونه الإشعار الرسمي بطيّ حقبة "الحرب الباردة" التي سادت طيلة السنوات التي أعقبت  الحرب العالمية الثانية. 
التطور الثالث  وقع في 11 سبتمبر 2001، أول سنة في الألفية الميلادية الجديدة، إذ أحدثت الغارة التي شنتها "القاعدة" على بُرجَي التجارة في نيويورك، هزّة في العلاقات الدولية، بل زلزالا تداعياته لا تزال ماثلة، منذ انفعال الرئيس الأمريكي بإعلانه الحرب على الإرهاب بعباراته المتطرفة مختصرا رد فعل البلد القوى في العالم بقوله: من ليس معنا فهو ضمناً ضدنا!. بعد عودة العقل والانصات لحكمة الساسة الحقيقيون، تراجع عن عباراته تلك وتعديلها لاحقا بما لا يمسّ  ملفات حسّاسة تتصل بعلاقات الولايات المتحدة بحلفائها في العالم الإسلامي والشرق الأوسط، حيث نشأت حركة "القاعدة" واشتدّ عودها هناك.
( 3 )
ما أشرنا إليه أعلاه، هو واقع ماثل طرأ على ساحة العلاقات الدولية فأفرز ضرورات استوجبت البحث عن أساليب جديدة، تتواءم فيها وعبرها، الممارسات الدبلوماسية العملية مع واقع بالغ الجدّة والتعقيد .
ها نحن نرى الممارسة الدبلوماسية تفقد بعضَ تميّزها، بعض غموضها السحري . تفقد بعض ما يراه عامة الناس في مَن يمارسونها، تلك الهيبةً التي  تثير العجب حيناً، وذلك الألق الذي يثير الحسد أكثر الأحايين. لو كان التغيير مسّ هذه النواحي الشكلية، هذه القشور المرئية، لهان الأمر، غير أن ما استجدّ قد استتبع خصماً من احتكار المهنة من طرف ممارسيها. أجل، لن يكون الدبلوماسي وحده هو الذي يمارس الدبلوماسية. ثمّة لاعبون جدد جاءت بهم هذه التطورات الجديدة، وهذه  البدائع المستجدة التي طفرت إلى ساحة العلاقات الدولية في الاتصال والتواصل المباشر وامتلاك المعلومة في حينها. أنظر حولك تجد هيئات ومنظمات أجنبية غير حكومية تسعى لانشاء تواصل مع الشعوب، بعيداً عن رسميات الدبلوماسية التقليدية. تمتليء شوارع الخرطوم بمركبات تحمل لوحات تخصّ منظمات طوعية، يزيد عددها عن تلك المخصصة للبعثات الدبلوماسية التقليدية، بل لعلّ وزارة الخارجية نفسها تجد عسراً في رصد ومتابعة إستعمال مثل هذه المركبات: من يتولى قيادتها، ولأي مهمة ، وإلى أي مسافة يسمح لها بالسير. . ؟ هذا شكل من أشكال الدبلوماسية المباشرة، يتجاوز أطر الرسميات ويعبر إلى الشعوب مباشرة. تتململ الدبلوماسية التقليدية من مثل هذه الممارسات، فهي في خاتمة الأمر تقضم من احتكارٍ لحراكٍ في ساحة العلاقات الدولية،  كان وقفاً على الدبلوماسية التقليدية وحدها.

( 4 )
خلال الحرب الباردة التي صَبغتْ سنوات القرن العشرين في نصفه الأخير، كان الدبلوماسيّ  يمارس حراكه في بلدان أجنبية، بعيداً عن  تفاعلات السياسات الداخلية في بلده. برغم أنّهُ من المنطق أن لا تنفصم الممارسة الدبلوماسية عن إدارة العلاقات الخارجية، وأن لا تفارق السياسة الداخلية أبعادها الخارجية، لكن في تلك السنوات ولظروف تتصل بعسر الإتصال السريع والتأثير الفوري المباشر، رأينا الدبلوماسية المبتعثة وهيَ في أبراجها البعيدة، لا تتأثر كثيرتأثرٍ بما يقع في بلدانها  التي جاءت منها. ولا تجد أثراً مباشراً وفورياً لسياسة دولة ما، على أداء سفاراتها في الخارج، ولذا لم نرصد اعتداءات لافتة على دبلوماسيين أو على مقارٍ دبلوماسية أو قنصليات، إبّان سنوات الحرب الباردة إلا في استثناءات قليلة. ولسنا ننفي علاقة الممارسة الدبلوماسية بالسياسة الخارجية في تلك السنوات، ولكنا نلحظ أن "رمزية" الممثلية الدبلوماسية، لم تكن بالبروز الذي يحضّ على ربط أدائها بالسياسة الخارجية مباشرة، وبالتالي لا يكون استهدافها- إذا وقع على ندرة حدوثه- ممّا يتصل بهذه السياسة الخارجية عينها، بل يكون من قبيل المفاجئات غير المتوقعة. في مثل تلك الظروف، وتحت أجواء تلك المرحلة من العلاقات الدولية، كانت مهمة الحكومات في حماية الدبلوماسيين الأجانب ومقار عملهم، جدّ يسيرة ولا تشكل عبئاً إضافياً ولا هاجساً شاغلاً، على أجهزة الأمن في الدولة المعينة. لعلّ بعضكم يتذكر كيف أنّ من يعملون ضمن إدارة "بوليس السفارات" عندنا في الخرطوم في سنوات السبعينات تلك، كانوا كمن أرسلوا لاستراحة محارب! ولكن أزاء التطورات التي استجدت في العقدين الأخيرين وحدثتك عنها آنفاً ، لن يكون مقبولاً  أن نراهم كما رأيتهم أنا، تلك الأمسية في الخرطوم!



( 5 )
تنبّهتْ وزارة الخارجية الأمريكية إلى أهمية "الدبلوماسية العامة"، كآلية  تنسق نشاط الإدارة الأمريكية بأذرعها العديدة، رئاسةً وأمناً ودفاعاً وإعلاماً وماليةً، لتحسين صورة الولايات المتحدة في الخارج. . ليسَ بادعاء احتكار وهمي للمعلومة، بل باعترافٍ لازم بضرورة استصحاب ما استجدّ في ساحات التواصل التفاعلي والاجتماعي واندياح المعلومات، عبر الوسائط الإلكترونية المتجدّدة، وبقراءة ذكية لواقعٍ دوليّ آخذٍ في التحول بوتيرة عالية للغاية.
بقي على الدبلوماسية أن تتصدّى لقضاياها عبر التفاعل الخلاق والولوج إلى وسائط التواصل الإجتماعي مثل "الفيسبووك" و"التويتر" و"اليوتيوب" وغيرها، وقد ثبت جلياً ما لها من أهمية وفعالية في رسم الصورة الحقيقية في ذهن الآخر المتلقي، وما لها من أثر على تشكيل ردّ فعله على ما يمسه، سواءاً في السياسة أو الثقافة أو الإقتصاد.
توسّع تبعاً لذلك، مفهوم "رمزية" البعثة الدبلوماسية الرسمية، كونها صارت "الممثل" و"الواجهة" و"اللوقو" الذي يمثل سياسة الدولة المعينة، في تشعباتها السياسية والإقتصادية والثقافية، إنْ سلباً أو إيجاباً. لربما نتفهّم الآن  كيف تسبّبتْ قصيدة نظمها سفير عربي شاعر في صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، ومجّد عبرها شهيدة فلسطينية، إلى إخراج ذلك السفير العربي ذي النفوذٍ من لندن قبل سنوات قليلة . ثم لنا أن نفهم لِمَ جرى نقل سفيرٍ لدولة غربية مهمّة من الخرطوم مؤخراً، إذ لم يكن ما سطّر في مدونته الإلكترونية من رأي، على اتساق مع سياسة الوزارة التي أوفدته. .
إن سطوة مواقع التواصل الإجتماعي  تكسب أرضاً جديدة كل يوم بل كل ساعة، ويكفي أن نرى كيف أحدث موقع "اليوتيوب" أثراً كبيراً ببثه مقاطع مقززة من الشريط الذي أساء فيه صانعوه إلى الرسول الكريم قصد الفتنة، وما تبع ذلك من إثارةٍ للحمية وإلهابٍ للمشاعر دفاعاً عن العقيدة . الفعل المستفزّ دفع  بالجماهير – وقد جرى المساس بمقدساتها- إلى أن تتجه إلى "الرمز" و"اللوقو" الذي نبع منه هذا الاستفزاز البالغ القبح. و"الرمز" و"اللوقو"، هو تلك السفارة في شكلها التقليدي، برغم أن طبيعة المهام الدبلوماسية قد خرجت عن التقليد المتعارف عليه، سالف العصر والأوان، وصار بإمكان السفير أو الدبلوماسي، القيام بمهمته على خير وجهٍ من على حاسوبه الشخصي، قابعاً في بيته، دون الحاجة لارتداء زيّ مراسمي أو ربطات عنق، مما اعتدنا أن نرى عليه ذلك السفير أو الدبلوماسي. إنها دبلوماسية الكترونية ناعمة، ولكن أبقت على "الرمز" بائناً ترمي عليه الجماهير الغاضبة جمراتها، كلما اقتضى الأمر التصدّي لاستفزاز تسببت فيه حكومة ذلك "الرمز". لقد شهدنا كيف تسارع ردّ الفعل في أكثر البلدان الإسلامية من حولنا، وتجاوز الأمر حسابات من يَحسب، ومعادلات من يُعادل، إذ لم يَعُد سهلاً على الحكومات الرسمية، بحكم التزامها بالمواثيق الدولية، أن تحمى ضيوفها من السفراء والدبلوماسيين، كما صعب على الحكومات الأجنبية أن تحمى دبلوماسييها المبتعثين في البلدان الأخرى. ولن تكون الولايات المتحدة بجبروتها وغطرستها، إستثناءاً هنا. وإنّي إذ أحزن لمقتل أيّ دبلوماسي تماهى بشخصه في "رمزية" سياسة بلاده ، ثقافتها واقتصادها واجتماعها، فإنّ العنف لن يكون بديلاً عن الحوار بين الثقافاتِ، والتماسِ التعايشِ بين العقائد، وقد كرّمنا الله عزّ وجلّ بنعمة العقل لنُحسن التفكير به، لا التكفير به. .

( 6 )
يبقى من الضروري أن نشير إلى أنّ الأوان قد حان لإعادة صياغة  تعريفٍ جديدٍ لدور الدبلوماسية وقد تشعّبت مهامها، كما تشعّب المنضوون إليها، فيهم رسميون وأكثرهم غير رسميين: أشخاصا وكيانات مجتمعية، سفراء وممثلين وعمال مهرة وغير مهرة. فضاء التواصل وشيوع المعلومة واعتماد الشفافية، بات واقعاً يستوجب نظراً جديداً لمُسلمات جرى اعتماد حيثياتها قبل أكثر من نصف قرن، بما في ذلك ترتيبات الحماية والأمان لهذه السفارات. لن يكون مقبولا هذا الارتخاء من قبل شرطة السفارات في اتخاذ ترتيبات لحماية البعثات الدبلوماسية التي صارت "رمزاً"  و"لوقو" . نحن نعيش ونتنفس في هذا الفضاء الذي- في عفوية التفاعل ضمنه- لا يترك للرّسميات ولا للحكومات من حراكٍ لضمان الأمن والحماية، ولا حتى للأساطيل التي تجوب البحار شرقاً وغربا ، فلن يتحقق ذلك الأمان ولا تلك الحماية، عبر حشو البندقية والقتال، بل عبر إعمال العقل وعبر الحوار البناء. .


الخرطوم -16سبتمبر 2012
jamal ibrahim [jamalim@yahoo.com]

 

آراء