العماري المبدع : عبد المنعم مصطفى
alshiglini@gmail.com
رُبَّمَا كانَ طقسُك ، ناراً مُجوسِيَّةً
في شتاءِ النعاس الذي لا يُفَسَّرْ
رُبَّما كُنْتَ أَصغرْ
ممَّا رَأَتْ فيكَ تلك النبواءتُ
أَو كنتَ أكْبَرْ
غير أنك تجهل أَنَّك شَاهِدُ عَصْرٍ عتيقْ
وأن نَيازِكَ مِنْ بشرٍ تتحدَّى السماء
وأن مَدَارَ النجوم تغير!!
محمد الفيتوري
(1)
لعل النجوم ساحة مملوءة وهجاً تُرصع قُبة السماء بأضوائها ، تُزيّن الصباحات المسائية . على مدّ النهار وجزء من الليل . تتلمذنا على يدي سيدة عصيّة على ما هو مُعتاد ، تُرغم عُشاق فن الرسم الممتزج بالنحت ، أن يعيدوا فهم الحياة والمساكن من جديد وينهلوا من تاريخ فن العمارة والمعرفة بجواهر طقسها ، وقد تآخت مع كلية الهندسة ، كي يتعلم المعماريون كيف يصنعون فناً طليقاً ، ولكن وفق مضابط الإنشاء وأسس التركيب . ذات المنهاج الذي ارتضاه الإنكليز ، ليكون منهاجاً لتأسيس قسم العمارة في جامعة الخرطوم ،منذ العام 1957 على يد البروفيسور" أليك بوتر".
منْ لم يكُن على دراية بفن الرسم ومعرفة تقنيات رسم المنظور في المرحلة الثانوية ، فعليه أن يبدأ وفق منهاجٍ جديد ، كزميلتنا الراحلة الدكتورة "هدى دفع الله عبد الرءوف "، تتعلُم أنت الرسم منذ المُبتدأ ، وتتكاثف المراحل بمنهاجٍ رصين . وتُقبل أنت برؤى جديدة ، وتتعلمّ كيف يضمّ الجمال نقيضين وأكثر ، بجاذبية مُتبادلة تُشد هذا إلى ذاك أو تلكْ. وكيف أن التوازن في الطبيعة ، يصبح في منظور المعماريين يداً عادلة، رغم أن الزمان غير عادل . و تنظر أنت كيف تتفاعل الكُتلة الصمّاء مع الفراغ ، وكيف يتناغم التموّج في الهبوط والصعود . وكيف ينهض الخيط المرسوم أفقياً ، ليُلاقي خيطاً آخر رأسياً ، في وحدة الضدّين . تعلمنا العلاقة الجديدة بين الألوان ، تنداح كثافة اللون ونوعه وذبذبته ووقعه في شبيكية العين ، على ظلاله من الأبيض والأسود ، الضوء والظُلمة. الوحدة والتضّاد والتكامُل . تلك شذرات من فلسفة علم الجمال ،التي تُرشدنا . هذا موجز ما تعلمناه نظرياً وعملياً كطقوس نأتي بها ونجلس لمحراب فن العمارة منذ السنة الجامعية الأولى .
(2)
الأستاذ " عبد المنعم مُصطفى " الفنان ، هو رئيس قسم العمارة عام 1970 . تعلّمنا منه الدقة وإدارة الوقت ،و عندما يجتمع طلاب كل فصل دراسي ، لجدل ونقاش المشاريع مع أساتذتهم . يُعرض الطالب لوحات مشروعه ، منذ العتبات الأولى وإلى التفاصيل . يجلس الأساتذة في مقدمة الحشد ، ومن بعدهم بقية الطلاب . و بعد المناقشة المستفيضة ، نخرُج لنُسح للأساذة في تقييم المشروعات.
في المساء ، ونحن نجلس على مناضد الرسم المُخصصة للطلاب فيما كُنا نسميه " الأستديو" ، يأتينا الأستاذ " عبد المنعم مصطفى " بلا موعد ، مُرتدياً جلباباً أبيض وعلى كتفه العُمامة ، وتغطي رأسه قلنسوة صغيرة بيضاء . يجمعناعند طاولة أحد الطلاب . ويبدأ النقاش كأنه جاء زائراً المبنى المُراد تصميمه ، المدخل المُرشد ، الأغراض ، اصطفافها ، ومنطق تراتبها ،والعلاقات الجمالية بين العناصر . الكتلة والفراغ . وكيف تتكون المساحات التي تتبع الأغراض عند أحد مؤسسي علم وفن هندسة العمارة . ثم يدلف للواجهات ، ويسخر من التناول التقليدي ، وينبّهنا ، لعلاقات الجمال الجديدة التي تعلمناها ، وكيف تظهر تجلّيات الأذواق في الاختيارات. يدوِّن بالقلم الماركر خطوط التعديل المُناسبة ، مع الأسهم التوضيحية . يعلمنا هو كيف نُعيد صناعة المنحوتة لتُصبح مكاناً ، لعيش الناس ، وتلبية متطلبات أغراضهم . يُرشدنا لمكتبة كلية الهندسة والعمارة، كيف نختار بحذاقة ، فهي زاخرة بفنون العمارة والصور الضوئية للدواخل والواجهات والمناظير الملونة ، وتجدها أنت في الأسفار والمجلات المتخصصة أو الدوريات. تمدّ من يرغب بكل شيء .
(3)
في منتصف سبعينات القرن العشرين ،كان من المقرر أن تجتمع وفود الاتحاد الإشتراكي السوداني، تأتي من جميع مدائن السودان وقراه في مكانٍ واحد. كان الموقع الباحة أمام مبنى الاتحاد الاشتراكي السوداني - مكان وزارة الخارجية الآن- جزء من تحديات السياسة، في الماضي كان فهم القوميون العرب ،أن نُقلّد ما كانت تفعل مصر !.
تم تحديد مدة شهر لبناء قاعة مؤقتة تسع حوالي 800 من أعضاء الاتحاد الاشتراكي ، قادمون إلى الخرطوم للاجتماع المركزي . تم ترشيح المهندس الأستاذ " عبد المنعم مصطفى " ليقوم بعمل التصميم والإشراف ، فقبله شريطة إطلاق يده في التنفيذ ، وتذليل العقبات التي هي من الجهات الأخرى التي تُساعد في إخراج التصميم من عالم الحُلم إلى عالم الحقيقة .
قام بالتصميم خلال سهرة يوم واحد . كان بناء المنصة الرئيسة للقاعة ،والتي ترتفع متر ونصف المتر ، ومن جوانبها درج الصعود للقيادة والمتحدثين . المنصة تفتح على القاعة متجهة صوب الجنوب، والقاعة في مكان المساحة والحديقة التي تتنفسها وزارة الخارجية الآن . طلب المهندس " عبد المنعم مصطفى " عدداً كبيراً من "طاقات الدمورية " وأحضر ترزي في الموقع ليخيط أثواب "الدمورية" مع بعضها لتكوِّن شريطاً بعرض 90 سنتيمتر ، وبطول أكثر من 100 متر. طلب من الإدارة المركزية للكهرباء تنفيذ أعمدة على صفين ، بمسافات بينية 3 أمتار ، ويبتعد الصفان أربعين متراً عن بعضهما لتشكيل عرض القاعة . فصار هناك صفان من أعمدة الكهرباء ، شرق القاعة وغرب القاعة . وتمّ تثبيت سلكين على قمم الأعمدة تربط الأعمدة الشرقية بنظائرها في الأعمدة الغربية . السلك الواحد ينخفض عن الآخر 70 سنتيمتر ، ليمهد لشريط " الدمورية " بطول القاعة أن يتجه من الشمال إلى الجنوب ، من فوق السلك الأعلى تارة وتارة أخرى من تحت السلك ، وهكذا على طول القاعة ، ويتبعه شريط آخر طولي مُجاور بذات الغرض وهكذا إلى أن يكتمل سقف القاعة. وقُصد أن يمتد شريط "الدمورية " ، بطول القاعة ، هبوطاً وصعوداً .
وتمّ أنارة الأعمدة بمعلقات إضاءة النيون بطول 120 سنتيمتر على كل عمود . وأصبحت القاعة نهاراً بظلال الشمس من بين شرائط "الدمورية " التي تُشكل سقفاً مُعلقاً ، ظلاً خافتاً ، يُمكنك أن تجلس وتقرأ في إضاءة مناسبة إن كنتَ أحد المؤتمرين . وكلف هوّ الأشغال العسكرية بنصب المقاعد للضيوف وفرش القاعة بالسجاد . كان " عبد المنعم " هو المايسترو الذي يربط الإدارة المركزية والأشغال العسكرية والمقاول .
في أقل من شهر انتصبت القاعة المؤقتة ، ورأيناها رأي العين . كانت بحق مفخرة للإنجاز المعماري في الوقت والزمان المناسبين ، فمن المواد الأولية تم تصميم قاعة مسقوفة: 100 متر طولاً و40 متراًعرضاً.
لم يُعنَّ هوّ بالغرض السياسي للمؤتمر ، بقدر ما كان اهتمامه بالغرض المطلوب وبالتصميم المُتفرّد وتنفيذه من المواد المحلّية المتوفرة . وقد عمل أستاذنا كِتاباً صغيراً عن تلك التجربة، حوى فكرة التصميم والغرض والمدة الزمنية ومعها الصور الضوئية.
تعجب هو أيما تعجُب حين صدر قرار من رئيس الدولة حينذاك ، بتعيينه عضواً في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي !.
(4)
صمم العديد من المساكن والفيلات ضمن فهمه للحداثة ، صمّم لمجموعة المتعلمين والمثقفين في نهاية الستينات من القرن الماضي مساكنهم في عمارت الخروم والخرطوم اثنين ، أعمل فيهم مبضعه كجراح ، اتخذ هندسة العمارة غُرفة علميات ، وأجلس الأغراض لمنضدة الجّراحة . صمم الكثير من المساكن لجيل ريفي تقدم في عوالم المال والأعمال ، ربما كان أصحاب الفيلات ريفيي الأصول الثقافية ، ولكنهم استدركوا عالم الحداثة ليكون من الضرورات ، فشغلتهم عمارة " عبد المنعم مصطفى " ورغبوا أن تكون بيوتهم طيّعة التصميم ، لتوافق تطلعاتهم.
تميزت تصميماته بالحداثة ، التي لم يعُد تقيدها المحلية بكثافتها الثقافية ، وحمولات أهلها وهويّاتهم . كان يأخذ بسهولة مُبدعة ، تلك الهويّات الثقافية المُتطلعة، ليتخذ منها لبنة ، لمرآته الجمالية . كان يأخذ عناصر التجريد الجمالي ، ويُدخل عليها أسس عناصره الجمالية ، من علاقات وثيقة بين الكُتل والفراغ ، بين الضوء والظل ، بين الملمس الناعم والملمس الخشن في انتقائه للمواد المتنوعة الصلابه واللدانة وحتى الميوعة ، الأفقي والرأسي ، التوازن غير التقليدي: ( Asymmetrically ).
يكاد أنموذج عروض " الصوت والضوء" لو أنت طبّقتها على بنايات " عبد المنعم مصطفى " لتمكنت أن تكتشف سر عناصر التصميم الجمالية المختبئة تحت طيات الجُلباب الفاخر.
أنموذج من أعماله في البنايات كانت (عمارة الإخوة ) في وسط الخرطوم ، وكانت فكرته واضحة ، بذات أيمانه بأن الفن والجمال، يتعين أن يُنفق عليهما المال، ولو خالفت رؤى المعماريين المؤسسين (الشكل يتبع الغرض )، وقد نفذ هو شكل البلكونات بعضها زائف من الخارج ، في تناسق مع البلكونات الحقيقية في تناغم طبيعي . وتلك رؤى يختلف عليها الذين يقولون بأن الشكل يعيّن أن يتبع الغرض، كأستاذنا المعماري " محمد محمود حمدي ". وصمم " عبد المنعم مصطفى " عمارة ( إبراهيم طلب ) في وسط سوق الخرطوم بحري بشكل مميز آخر . والبنايتان مميّزتان في بحري والخرطوم في منتصف سبعينات القرن العشرين. طوّر أيضاً التصميم العربي الصحراوي للمساكن ،في أن تكون المساحة الداخلية رئة تضُم حديقة ونافورة ، ومن حولها المباني . وتلاعب بتكسير ضوء الشمس المباشر بحزم من المواد، ليّنة الطرق ، متنوعة الأهواء.
(5)
تخرّج في جامعة ليستر في المملكة المتحدة ، وعمل المهندس " عبد المنعم مصطفى " في وزارة الأشغال ، ونال دراسته العليا في أستراليا والتحق أستاذاً بقسم العمارة في جامعة الخرطوم . درس على يده كثير من مهندسي العمارة من الجيل الوسيط حتى منتصف سبعينات القرن العشرين ، قبل أن يصبح الرسم الهندسي رقمياً . أنشأ مكتبه قبل منتصف سبعينات القرن العشرين في الخرطوم بعد أن استقال من التدريس الجامعي ، وأقام أيضاً مكتباً هندسياً بالمملكة المتحدة .وهو واحد من مؤسسي فن العمارة في السودان في القرن العشرين . قام بتصميم العديد من المساكن والفلل والبنايات المتميّزة . لكلٍ فكرة تصميم وعناصر تختلف في تركيبها الجمالي عن الأخرى . هدم " عبد المنعم مصطفى " ما كان يُسمى بالطابع الخاص بالمصمم .كل تصميم يُبدعه هو عالم فني جديد ، فيه كل عناصر الحداثة . طوّع التصميم ليُصبح منحوتة تقف شاهدة في زمانها ، وتصلُح أن تكون تمثالاً رائعاً ، يعيش في داخله الإنسان . يعرف هو البيئة ويعرف عناصرها وكيفية تطويعها ، ومن يده تخرُج الجنان الخضراء و تفرّ طيورها الصدّاحة تُغني .
يشقى الذين تدربوا في مكتبه أو المعماريون الذين عملوا معه . كان هو طاقة عمل جبّارة ، والزمن عنده رصيف الدقّة ، كان يُلاحق المُتدربين بكثافة العمل والخروج من قيود التقليدية ، وهجر التصور الكلايسكي لعناصر الجمال ، ولكن شباب المعماريين يرشفون آخر المطاف العسل الحلو من مَنحل المبدع " عبد المنعم مصطفى " .
لم تعُد الحياة في السودان تُغري الشهاب المعماري الحداثي المُنفلت ، فضمُرَ مجتمعنا والوطن ، بعد أن سطت جماعة تُرغب أن تنزع الوطن والناس من العصر الحاضر ، وتُعيدهم إلى ماضٍ متوهَم . جهالة ، لا تُميّز الألوان ولا الأجسام . استسلم المعماري المُبدع لتيار الهجرة البديلة آخر مطاف الانتظار الطويل ، فاحدودب الضوء ولا مكان لاستقامة في ظل وجود البُقعة المُظلمة.
عبدالله الشقليني
5 مارس 2018