بسم الله الرحمن الرحيم
من رسائل النور والظلام
alkanzali@gmail.com
ونحن نعيش بشارات الألفية الثالثة وهي تخطو أولى خطوات مهدها ونرى العالم من حولنا يسارع في نموه الاقتصادي والخدمي، وزيادة معرفته التراكمية في مجال علوم التقانة والطب، تلبية لحاجات الإنسان، وتطلعاته للرفاهية والازدهار. هذا التقدم التقني أتاح لأهل الإعلام أن يطلوا من منابر عدة على إنسان الألفية الثالثة وعالمه، فصارت لهم يد طولى تصل كل إنسان حيثما كان وحل وأرتحل. فأصبحوا جديرين بان يوصفوا بحملة مشعل التنوير الذي يحرك الأمم والشعوب نحو السلام والتوجه المعرفي والتقني لخدمة الإنسان والإنسانية. فحق لهم أن يتبوءوا مكاناً يماثل المكان الذي كان يشغله الأستاذ حامل مشعل التنوير في القرون الماضية.
في هذا الكون البديع الذي أصبح أكثر تلاحماً وتواصلاً، أقترب فيه الإنسان من أخيه الإنسان حتى كادت أن تتلاشى المسافات والأبعاد والزمن. في كون بديع مثل هذا، نحن أحوج ما نكون لأن يأخذ الحوار وتبادل الأفكار بل تلاقحها مكاناً علياً بيننا، خاصة والسودان يجتاز مطبات خطرة قد تقود لمحوه كدولة تميزت بالتنوع والتعدد والأتساع. لذا علينا جميعاً أن نبحث عن منطقة وسطى تجمعنا على كلمة سواء بيننا. والدعوة للوسطية هذه ليست دعوة لمثالية تجردنا من حق الاختلاف مع الأخر، وحق الغضب والثورة. ولكن ليكن غضبنا واختلافنا وثورتنا دون تطرف وبذاءة وازدراء. فعلينا أن نُعمل عقولنا، ولا ونسمح لمشاعرنا السالبة (هوى النفس) أن تطغى، وينفلت اللسان والقلم ليكشف سوءة الأخر، أن كانت لهذا الآخر من سوءة حقيقة أم هي افتراء عليه.، فلا يجوز لنا رفع الثوب عنها وكشف ما استتر عن الناس.
لا أريد أن أكون داعية للأخلاق والفضيلة وإعطاء الآخرين درساً في ذلك، ولكن مقالي ما هو إلا تذكرة وتبصرة لمن ارتضى (وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين). فقد هالني، بل قل أذهلني، ثم زد وقل حيرني أن تظهر العدوانية اللفظية في صحافتنا الورقية والرقمية (انترنت) متبرجة دون ورقة (توت) تستر عورتها، مما يلزم المرء بأن يراجع نفسه ويُمسك عن ما يؤذيه، ويؤذي مشاعره، ويتوقف عن قراءة الصحف الإطلاع على الشبكة العنكبوتية إن بقى الحال على ما هو عليه.
في الأسبوع الماضي قرأت مقالاً لصحفي نسحبه من أصحاب الدرجات العلا في عالم الإعلام، بصحيفة يومية جددت وجهها ودمائها (نيولوك) منذ وقت قريب، لعلها تعيد ما فقدته، وقد نجحت وأصبحت أكثر قبولاً. ورد فيها مقال الكاتب المعني، بكلمات جارحة يعف اللسان أن تجري عليه فما بالك والقلم؟! جاءت تلكم الكلمات في حق رجال ونساء منا لحماً ودماً، لهم أباء وأمهات وإخوة وأخوات وأبناء وبنات، وأهل وعشيرة، فالآذي لا يقف عندهم فحسب، بل يتعداه لأناس لا ذنب لهم، ليصل رشاشة (وكيره، من نافخ الكير) فهو مثل جليس السوء ذوو الرائحة النتنة إن لم يصبك أذاه، أصابتك رائحته النتنة، كما وصفه الحديث؟!!!
ويزداد عجبي كيف سمحت هذه الصحيفة التي يقف على رأسها أقطاب ورموز في عالم الصحافة والأعلام، وسمحت لصاحب العمود أن يكتب مقالاً بهذه الفجاجة والجهر بالسوء؟ فلم يجد كاتب المقال حرجاً أن يكتب أسماء المستهدفين كاملة دون نقصان دون أن يرجف له قلم؟!!! ولم ير بأساً أن ينسب القول لأحدهم: "بأن لا مانع لديه أن تمارس ابنته وأبنه الجنس مع من يشاء ويرضى من الفحول والإناث؟" بربك قل لي: ماذا ينفع القارئ ويفيده من هذه المعلومة، حقاً كانت أم بهتان؟!!! هذا ما وصفه الفقهاء والعلماء: "بالعلم الذي لا ينفع، والجهل الذي لا يضر". أما الراد عليه لم يأت بقول مقنعاً، بل جاء رده مفزعاً وبمفردات يعف المرحاض أن يستقبلها. يبدو أن صاحب الموقع تنبه للأمر وحذفه من منبره.
أما الحادثة الثانية فهي في نفس الموقع الذي أصبح ملجأ لأكثر أهل السودان يأتونه كتاباً أو قراءً لما فيه من مقالات وما يرد في المنبر من حوار. طرح احد أعضاء المنبر كلاماً عن شخصية سودانية تختلف أو تتفق معها لا تجد من بد إلا أن تجلها وتقدرها لألف سبب وسبب. فإن أتيته من نسبه فيكفيه فخراً أن جده هو أول من حرر السودان الحديث من حكم المستعمر. وإن دخلت عليه من عمره، فهو الآن في العقد الثامن منه. أما إذا أقبلت عليه من علمه فيكفيه فخراً أن عدد الكتب التي سطرها قلمه أشكُ أن يكون قد قرأ ما يماثلها عدداً من تجرأ بقلمه عليه حتى ولو أضفنا إليه ما قرأه في مراحله المدرسية. وما أظنه بقارئ مثلها في العدد ولو مد الله في أجله ما أمد لنوح؟ أما جئته قاصداً مكانته، فهو إمام طائفة منحت السودان دمها ولحمها وجعلت للسودان ما يفتخر ويعتز به في تاريخه. وإن كان الأمر للريادة في السياسة فيكفيه فخراً رضي من رضى وغضب من غضب، أن أخر انتخابات (غير مخجوجة) كان لحزبه الريادة والقيادة فيه. ثم ها نحن نعيش زماناً، (وليس لزماننا عيب سوانا) يتجرأ إنسان ظلوم جهول ويصف هذه الشخصية العزيزة المكرمة، التي تمشي على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. ليقول لنا بخيلاء ونفخة وحمله ريش: (أنه يتطاول على أسياده البعثيين). بخٍ بخٍ، فقد أصبح للبعثيين (رقيقاً وعبيداً) في قامة هذا الرجل؟ نعم فقد صدق الرجل لأن تاريخ البعثيين المجيد يدعو للتعايش بين الشعوب عن طريق بناء جسور من الجثث ليعبروا عليها للشعوب الأخرى. وما حرب العراق وايران، وغزو الكويت إلا شاهد لبناء هذه الجسور.
وتشهد عليهم أدبياتهم وهي تقول: فبعـث المـوت شـئ مستطـاع# ومـوت البعـث شـئ مسـتحيل، ثم يقولون. "وطنٌ تشيده الجماجم والدم# تتهدم الدنيا ولا يتهدم). وقد صدقوا فيما قالوا، فقد شيدوا أوطانهم على الجماجم والدم، وهدموها ولكنهم لم يتهدموا. بدليل أنه ما زال بيننا من يتحدث باسم البعث وهم أسياد كل من خالفهم، ونجى بجلده من سحتهم وسحلهم وقتلهم الأبرياء باستخدام أسلحة الإبادة الشاملة، والأسلحة الكيماوية التي لم تقتصر على جيش الخميني فحسب، بل تعدته ومحت حلبجة أهلها دع عنك أثارها البيئية التي تتداوى في خلال قرون.
فقد نجحوا في إشعال الحروب التي بدأت نارها في 1979 ولم تنطفئ إلى يومنا هذا. وما الظلمات والمظالم والجهنم والجحيم الذي يعيشه عالمنا العربي اليوم إلا حصاد هذا البعث؟
رجوت من صاحب المنبر سحبه تقديراً لهذا الرجل الرمز الذي هو حري بتبجيلنا وتقديرنا، وليحمي منبره من مثل هؤلاء الذين يملأون الصدر قيحاً وصديداً، ولكن لم أجد لقولي اثراً .
أما الطامة الصغرى قياساً لما سبق من قول فهي أقل شأناً، أتتنا بها صحيفة من الصحف الرياضية صدرت حديثاً وهي تعاني النقص الذي يعانيه البعثي من (السيادة والأسياد). مما يضاعف الأسى ويضع على الجرح ملحاً، أن صاحب امتيازها هو نقيب الصحفيين. جاء على صفحتها الأولى وبالخط العريض بعد هزيمة فريق الهلال بساحل العاج بأربعة أهداف، سخرت منه الصحيفة بمفردات لا يتداولها حتى الصبية المشردين (الشماشة) فما بالك بأن تكون على الصفحة الأولى وبالخط العريض. علماً بأن الصحيفة وكتابها محسبون على فريق الهلال؟ ليس بجديد أن قلنا الرياضة من مبادئها الأولى أن نتقبل الهزيمة بروح رياضية كما نتقبل النصر، لأن المنافس الأخر يتطلع للنصر مثلنا ويعمل له. والنصر ليس دائماً حليف فريق بعينه.
المقال قدم نماذج للعنف اللفظي الذي تتسع دائرته يوماً بعد يوم في مواقع متعددة ليس لي القدرة على حصرها ومتابعتها. وما هي إلا نماذج لبعض ما جاء في صحافتنا الورقية والرقمية لطرح يبذر ويؤصل فينا ثقافة العنف اللفظي. وهو أمر دخيل على أدبيات الصحافة السودانية، وظاهرة خطيرة بدأت تطل برأسها في الصحف الرياضية وامتد شررها للصحف الرقمية، وها هي تكشف عن ساقيها في الصحف الورقية. ليت القائمون على أمور منابر الإعلام هذه يضعون حداً لهذه الظاهرة قبل أن تستفحل وتصبح أمراً واقعاً، مما يترتب عليه نتائج وخيمة سيدفع ثمنها أناس ليس لهم يد في الأمر.
ولعلي اختم مقالي مذكراً بقوله تعالى: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ " وقوله " مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " وبحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ". لهذا فليتق الله فينا أهل الصحافة والأقلام وليقولوا خيراً حتى نتعلم منهم أو يصمتوا، فذلك خير، فالصحافة السودانية بتاريخها المضيء لم تكن يوماً منبراً للشحناء والبغضاء وفضح الناس وكشف عوراتهم أو التجرؤ عليهم في ذاتهم.