الغرب وأبلسة الخصوم
9 August, 2009
هلل كثير من السياسيين لتوصية « سكوت غرايشن» المبعوث الأمريكي إلى السودان برفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، ولكن وزيرة الخارجية «هلاري كلينتون» لم تمهل المتفائلين كثيرا حيث نفت صدور قرار بتخفيف العقوبات أو رفع إدراج السودان من لائحة الإرهاب. من ناحية أخرى قام «لويس أوكامبو» برمي حجر في بركة العدالة الدولية الراكدة عبر تقديم استئناف لدائرة الاستئناف بالمحكمة الجنائية الدولية حول رفض الدائرة التمهيدية توجيه تهمة الإبادة الجماعية للرئيس السوداني «عمر البشير». فما هي يا ترى دوافع «أوكامبو» السياسية من وراء إصراره على توجيه تهمة الإبادة الجماعية بالذات بالرغم من أنه من الناحية القانونية النظرية إدانة أي متهم بواحدة من التهم السبع التي وجهتها المحكمة للرئيس كفيله بحبسه مدى الحياة هذا مع العلم بأن المحكمة لا تطبق عقوبة الإعدام.
لكي نقوم بشرح محور فكرة هذا المقال لا بد من ذكر أنه أثناء محاكمة الرئيس الليبيري السابق «شارلز تايلور» أمام المحكمة الجنائية الخاصة في لاهاي قدم المدعي العام الأسبوع الماضي إفادات تشير إلى أن المتهم قام بإلتهام لحوم خصومه وأمر جنوده بأكل لحوم بشرية. هذه التهمة الشنيعة سبق ووجهت لرؤساء أفارقة سابقين من أمثال «جان بيدل بوكاسا» إمبراطور أفريقيا الوسطى والرئيس الأوغندي المسلم «عيدي أمين»، وقد روجت وسائل الإعلام الغربية لتلك التهمة لدرجة جعلتنا نصدق أن هنالك أحفاداً لهند بنت عتبة في القارة السمراء يتلذذون بمضغ أكباد خصومهم. وقد هيأت تلك التهمة الشنيعة آنذاك الجو لتسويق ضرورة دعم بعض الدول الغربية لمعارضي الرئيسين لإسقاطهما وإبدالها بحكومتين مواليتين للغرب في نفس العام 1979 .
عند إعمالنا لمعرفتنا المتواضعة بآليات اتخاذ القرارات السياسية في المجتمع الغربي تجاه قضايا مجتمعات الدول النامية في ظل عسكرة العلاقات الدولية يتضح لنا أن تهيئة ما يعرف بالرأي العام الدولي أمر ضروري لاتخاذ أي قرار دولي هام كتخفيف عقوبات على بلد ما أو تشديدها أو شن حرب عليه. ويقودنا هذا منطقياً إلى أن نجاح (أوكامبو)، وهو سياسي ضليع، في توجيه تهمة الإبادة الجماعية للرئيس السوداني سيجعل لزاما على المجتمع الدولي التحرك ضد السودان وتشديد العقوبات عليه، وفي هذه الأجواء سيكون من رابع المستحيلات على الإدارة الأمريكية الجديدة تخفيف عقوباتها على السودان بدعوى انتفاء دعمه للإرهاب في ظل اتهام رئيس البلاد بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية التي تعرف في القانون الدولي بجريمة الجرائم، وهي تهمة لمن لا يعرفها كحبل المسد إذا التصق ببلد لن يستطيع منها فكاكاً لكونها لا يجدي معها أي ترياق لمحوها من الذاكرة الجمعية للشعوب، ولنا في يوغسلافيا السابقة أسوة (سيئة) حيث زالت الدولة وتقطعت أوصالها إلى دويلات إلا أن خزي وعار تلك التهمة ما زال حاضراً في الأذهان كلما ذكرت وهو يستحي حين يقترن (رحم الله العطبراوي).
هذا التكتيك أثبت فعاليته عند تعامل السياسة الغربية مع خصومها في الدول النامية، حيث تقوم ماكينة الإعلام الغربية في ظل غياب إعلام محايد أو موضوعي وبتحريض من السياسيين بأبلسة الخصم ونزع الصفة الإنسانية عنه وتخويف المواطنين الغربيين حتى ترتعد قلوبهم وترتجف فرائصهم من ذلك (البعاتي) لدرجة تجعلهم يتخيلون اشتمام رائحة دماء ضحاياه من وراء ستار فراغاتهم المعرفية بالمكان وطبيعة الصراع، وعادة يقوم السياسيون بطمأنة المواطنين البسطاء بأن فظائع ذلك الشيطان موثقة لديهم ومسجلة في لوحهم المحفوظ، وبهذه الطريقة ينطلق مارد غضب الرأي العام الغربي من قمقمه ويصبح مهيئاً لتقبل أية خطوات قاسية تتخذها حكوماته ضد بلاد ذلك الشيطان البشري بالرغم من تضرر مواطنين أبرياء من جراء فرض عقوبات اقتصادية أو تقديم دعم عسكري للخصوم أو المشاركة الفعلية في القتال، وتتكسب الحكومات الغربية من قيامها بواجبها الإنساني المزعوم هذا ويرتفع سهمها في بورصة الرأي العام الداخلي لبعض حين. وربما ما زال ماثلاً في الذاكرة ما اتبعه الغرب مع الرئيس العراقي السابق (صدام حسين) حين تم تسويق أنه يمتلك أسلحة دمار شامل وله علاقات وطيدة بتنظيم القاعدة مما يجعله يشكل خطراً محدقاً بالغرب وحلفائه في المنطقة، فشن الغرب حرباً شعواء على العراق نتج عنها تشكيل حكومة خضراء دمن في منبت ظاهره الديمقراطية السمحاء وباطنه الطائفية الكريهة.
من المفارقات أن الغرب عادة يمارس فضيلة النقد الذاتي بعد تحقيق أهدافه السياسية في تغيير الأنظمة في تلك الدول، فيقوم بستر عورته وفضائحه التي يكشفها بعض أصحاب الضمائر الحية أو الباحثين عن الشهرة وذلك عبر تشكيل لجان تحقيق لتقوم بأداء مسرحيات تمزج بين المأساة والملهاة، وعادة تخلص تلك اللجان إلى وقوع أخطاء وتجاوزات تتم بموجبها محاكمة بعض أدوات التنفيذ دون أن يصل السوط إلى كبار المسئولين والاكتفاء بنقلهم إلى مواقع أخرى بما يضمن تجدد دماء ديمقراطيتهم المتآكلة من الداخل واستمرار ذات السياسات، ولنا في فضيحة سجن أبي غريب خير شاهد، كما يمكن أن يشار هنا إلى أنه وبالرغم من تشكيل لجنة تحقيق حول ملابسات قرار الحكومة البريطانية السابقة برئاسة (توني بلير) المشاركة في العدوان على العراق إلا أن الحكومة الحالية أعلنت بشكل رسمي ترشيحها للمذكور لشغل منصب رئيس الإتحاد الأوروبي الذي استحدثته معاهدة لشبونة مما يجعله الأوفر حظاً لنيل المنصب مقارنة ببقية المرشحين، وهي ما يمكن بتسميته سياسة تصدير الفشل إلى ميادين آخرى.
لاهاي