الــخـيــال والــحــريــة والــفــلـســطــيــنــيــون الــســتــة

 


 

 

ahmadalkhamisi2012@gmail.com

الحاجة إلى الحرية أم الخيال، وعندما أقامت إسرائيل خط بارليف بعد احتلال سيناء وصف حمدي الكنيسي المراسل الحربي ذلك الخط في كتابه " الطوفان" بقوله: " هو أقوى خط دفاعي في التاريخ الحديث"، لكن قائدا مصريا عظيما هو اللواء المهندس باقي زكي يوسف وقف طويلا يتأمل " أقوى خط دفاعي"، ثم هدمه بخرطوم مياه لا أكثر!! وذابت في وحل الأتربة خمسمئة مليون دولار تكلفة بناء بارليف. حاجة الوطن إلى الحرية حركت الخيال وجعلته يبدل الواقع بخرطوم مياه. وخلال ثورة 1919 أصدر القائد العام البريطانى أمرا بسجن كل من يذكر اسم سعد زغلول ستة أشهر وجلده عشرين جلدة، واخترع المصريون طريقة ليتغنوا باسم سعد في طقطوقة تزج باسم سعد زغلول : " يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح".. " يازرع بلدي .. عليك يا وعدي.. يا بخت سعدي .. زغلول يا بلح"! حاجة الوطن إلى الحرية أججت الخيال ليكسر الحصار، وفيما بعد سجلت المطربة " نعيمة المصرية" الأغنية اسطوانة، وبقيت دليلا على الصلة الوثيقة بين الخيال والحرية والفن. وفي فيلم لا وقت للحب بطولة فاتن حمامة ورشدي أباظة، قصة العبقري يوسف إدريس، قامت القوات الانجليزية بمحاصرة منطقة شعبية للقبض على الفدائيين فيها، وكان حمزة ( رشدي أباظة) يتجه إلى المنطقة التي كمن بها جنود الاحتلال، فتجمع أطفال المنطقة وغنوا من على رأس الشارع بزعامة الولد دقدق أغنية تبدو بريئة وفي باطنها تحذير لحمزة من دخول المكان : " إوعى تخش العشة يا ديك .. إوعى التعلب مستنيك"! وانتبه حمزة إلى النبرة المتوترة فرجع ولم يدخل الشارع. مجددا كان الخيال والفن أداة لتغيير الواقع، واستنقاذ البطل، وتأجيج روح المقاومة، ومجددا كانت الحاجة إلى الحرية أم الخيال والأغاني. وفي الحرب الأمريكية على فيتنام في ستينيات القرن الماضي، كانت كفة التفوق العسكري تميل بالكامل لصالح أمريكا، وتحرك الخيال من أجل الحرية، وكان الجنود الأمريكيون يمضون بأسلحتهم في الغابات وهم يمضغون " اللبان" الأمريكي، فكان الفيتناميون يضعون علب ذلك اللبان في أعشاش النحل على الشجر، ثم يضربون الأعشاش بالعصي بعنف، مرة واثنتين، حتى تعلم النحل أن تلك الرائحة تعني أنه في خطر، فصار يهاجم الأمريكيين بكثافة وجنون فور مرورهم في الغابات فتتساقط أسلحتهم ويقعون أسرى عند الفيتناميين! قام الخيال بدوره في هزيمة أمريكا ورحيلها ومن خلفها نحو ستين ألف قتيل من جنودها. وحين سئل هوشي منه في ما بعد : " لقد كلفتكم الحرب الكثير جدا .. ألم يكن السلام أربح لكم ؟ " قال : " نعم .. لكن الحرية لا تقاس بثمن"! الحاجة إلى الحرية كانت دوما أم الخيال الذي اخترع خراطيم المياه وأغاني زغلول وعلق علب اللبان على فروع الشجر. وعندما حرر الفلسطينيون الستة أنفسهم من سجن جلبوع مؤخرا، قام الأطفال الفلسطينيون بعمل يشبه ما قام به الأطفال في فيلم لا وقت للحب، وعندما بدأت الشرطة الاسرائيلية في البحث عن الأبطال الستة، راح الأطفال ينثرون على الطرق مناديل، ووزجاجات مياه معدنية فارغة، وملابس قديمة لكي يضللوا الشرطة وتتوه عن الأثر الحقيقي لمن فازوا بحريتهم. الحاجة إلى الحرية لا تشعل الخيال فحسب بل والحب أيضا، حتى أن عاشقا كتب على جدار منزل بمدينة نابولي الايطالية يتغزل في محبوبته قائلا : " " جميلة أنت يا حبيبتي.. مثل الفلسطينيين الستة الذين حرروا أنفسهم"! لم يعد الخيال والفن والحرية فحسب.. بل والحب أيضا ! لقد ألقوا القبض على عدد من الفلسطينيين الستة، نعم ، يمكنهم أن يمسكوا القيثارة ، لكن تبقى الغنوة ولو غاب عازفها.

*****
د. أحمد الخميسي . قاص وكاتب صحفي مصري

 

آراء