الفترة الانتقالية والإدارات الاهلية .. الرؤية الاستراتيجية الغائبة 

 


 

عثمان عطية
30 September, 2021

 

مدخل

تلعب  الادارة الاهلية في السودان دوراً محورياً كبيراً في تماسك افراد المجتمع و تساعد في تذليل الصعاب والمشاكل والنزاعات  التي تنشأ في المجتمعات المحلية كما تساعد في سبل كسب العيش والعمل علي تسهيل الخدمات المختلفة لافرادها ، بجانب هذا فان  لها اليد الطولي في حل النزاعات والخلافات التي تنشب بين افرادها من جهة، ومن جهة اخري تعبئهم للدفاع والحماية  لمكتسباتهم وحواكيرهم من المجموعات القبلية الاخري. فهي تستمد وتتقوي من نظام الحواكير ( امتلاك وتوزيع والاشراف علي الاراضي)، وهي نظام مجتمعي عشائري متجذر في المجتمع السوداني، وتختلف  وتتفاوت درجة نفوذها وتاثيرها من منطقة الي اخري ومن قبلية الي قبيلة اخري. ويعتبر نظام الادارة الاهلية من اهم خصائص وسمات المجتمع السوداني، حيث عرف السودان نظام الادارة الاهلية منذ قديم الممالك  والسلطنات الفور، الفونج، المسبعات، التنجر و الداجو بجانب ممالك العبدلاب وسنار والتي تعرف بمسميات مختلفة (الناظر، العمدة، الامير، الشرتاي،السلطان والمك...الخ) ، الا ان الادارة التركية المصرية دشنت العمل الرسمي للدولة المركزية السودانية بالاعتماد علي الادارة الاهلية وذلك لقلة تكلفتها وقبولها من مجتمعاتها، ومع دخول الحكم الانجليزي المصري  لعبت الادارة البريطانية دورا مهما في تقنين عمل الادارة الاهلية  خلال الفترة (1937- 1942م) وحتي ما يعرف بتقرير مارشال " تطوير الادارة والخدمة المدنية في السودان"  الذي اشار الي مجالس الحكم المحلية ودور الادارة الاهلية.

الشاهد ان النظم العقائدية المتعاقبة في السودان حاولت إستقلال وتوظيف الادارة الاهلية لتحقيق اهدافها العقائدية ( الثورة المهدية، نظام مايو ونظام الانقاذ البائد) وذلك بربط القبيلة مع الايدولوجية  بمعني رفع الحس العقائدي والايدولوجي علي حساب اواصر الدم والقبيلة  وهناك نماذج كثيرة نذكر منها:

خلاف الخليفة عبد الله التعايشي مع نظارة الرزيقات.

خلاف ثورة مايو مع الادارات الاهلية و حل الاخيرة 1970م واعتبارها كجهاز بيروقراطي متخلف!!؟

  خلاف ناظر عموم قبائل الهدندوة مع الامير عثمان دقنة حول حروبه مع القبائل المناصرة للطائفة الختمية.

خلاف  ناظر الهدندوة  وناظر الأمارأر مع حكومة النظام البائد حول حشد وتعبئة  قبائل البجا ضد دولة ارتريا والمعارضة السودانية  في تسعينيات القرن المنصرم.

واخيراً استعانة واستقواء المكون  العسكري الانتقالي  برموز الادارات الاهلية ومشايخ الطرق الصوفية  باضفاء الشرعية الشعبية والدينية خلال ازمته مع المكون المدني و قوي الحرية والتغيير واقصائها من الساحة السياسية وذلك  بلعب دور البديل الانسب والحارس الامين للسودان " الوصي"  وخاصة في هذا الوقت العصيب والحرج  من تاريخ البلاد؟!!

ان فلسفة ومرامي وممارسات الحكم الراشد  تستقي قوتها واحترامها وقبولها من افراد المجتمع في اعلاء صوته واحترام كرامته الانسانية  بتوفير حياة كريمة، ولا يمكن ان تنمو فلسفة الحكم الراشد وتتطور بصورة طبيعية إلا في ظل ظروف بيئية اصيلة نابعة من موروث ثقافي خالص فهي تستمد قوتها وصلابتها من طبيعة بيئتها الاصيلة المتراكمة، فهي ليست وصفة جاهزة ذات قوالب محددة مستجلبة من الخارج بقدر ما هي اصيلة وعميقة في جزورها ومنبعها، وهي ايضاً غاية ووسيلة في تحقيق العدالة وحكم القانون والمساواة والتنمية. وعلي الشق المدني وقوي الحرية والتغيير وبكل مكوناتها في التوافق والموائمة مع ارث السوداني الحضاري والاعتراف به كواجهة وعمق في تشكيل السودان الحديث واهم ما في ذلك الادارة الاهلية  فهي تمثل عمق التراث والموروث السوداني الاصيل و قلبه النابض الحي وعموده الفقري المتين، استدامة الحكم الراشد تنبجس قوتها من التراث والموروث المتراكم عبر تاريخ السودان القديم والذي عملت الانقاذ علي تشويهه وتخريبه والاستخفاف به كدولة ومجتمع وقبائل وتاريخ ودين وثقافة وهوية. الادارة الاهلية تمثل الشخصية السودانية الكامنة في نفوس افرادها و بكل ابعادها وتكوين مزاجها وضميرها الجمعي.

تاريخياً، حاولت معظم الحكومات العقائدية ( المهدية، نظام مايو" الاتحاد الاشتراكي" و حكومة الانقاذ البائدة) اقحام الادارة الاهلية في العمل السياسي عن طريق تحجيم أوتوظيف دورها لصالح برامجها ومشاريعها العقائدية والتي دائما ما تتقاطع مع اهداف القبيلة والعشيرة التي تتسم بالمحافظة والحماية، فقد حاولت الحكومات المختلفة ومنها نظام الانقاذ البائد و بشتي الوسائل استمالة رموز الادارة الاهلية  في تسويق مشروعها الاسلامو-عروبي وخاصة في ازمة اقليم دارفور وذلك باضفاء صبغة القبيلة علي الحرب وابعاد الاسباب الحقيقية الكامنة من ظلم وتهميش واهمال متعمد واقصاء للاقليم واهله، ولكنها فشلت في توظيف الادارات الاهلية وذلك لجهلها باليات عمل الادرات الاهلية ووظائفها التاريخة المحددة المتعارف عليه.

نجحت الادارة البريطانية – المصرية وقبلها الادارة التركية - المصرية في حكم السودان واستقراره باقل تكلفة وذلك بمساعدة الادارات الاهلية وشيوخ الطرق الصوفية  وذلك بتقدير وتوظيف الاعراف القبيلية واحترام من يمثلها من نظار وسلاطين وشراتي وعمد وشيوخ في بسط الامن و الادارة والقضاء الاهلي.

 والشاهد ان الدولة  السودانية عجزت من فهم ذاتها وميزتها المتفردة الاصيلة المتمثلة في النظام القبلي والعشائري والصوفي الديني. واستنكفت دولة الاستقلال في  تطوير الموروث التاريخي، الثقافي، الديني والاجتماعي العتيق والمتوارث من عمق التاريخ القديم للمجتمعات السودانية والمتمثل في الكجور، مشايخ الطرق الصوفية، رموز ونظار القبائل، السلاطين والمكوك واعطائهم حقهم الادبي والتاريخي ووضعهم في المكانة اللائقة بهم، وكان يمكن  إنشاء مجلس  يضم السادة الشيوخ والنظار بمختلف مسمياتهم، ويأطر دورهم ويحدد بالقانون والدستور، ليكونوا بذلك  قلب وروح و رمز الدولة وترياقها وذلك علي غرار النظام الملكي في بريطانية العظمي ومجلس لورداتها، فنظام الحكم في المملكة المتحدة لم يهمل دور زعماء ووجهاء القبائل ورجال الدين، ولم يتم اقصائهم ومحاربتهم، ففي وثقية العهد الغليظ " الماقنا كارتا 1225م"  احترمت موروث النظام الملكي المتوارث في بريطاني كرمز للوحدة " الملك/الملكة " ومجلس " اللوردات" الذي لا يحكم بقدر ما هو يمثل روح بريطانية وارثها العظيم.

الحكومة الانتقالية وبكل ما تواجهه من تحديات داخلية وخارجية عظيمة والتي تقوم علي اكتافها عملية التمهيد ورصف الطريق وتعبيده بوضع اللبنات المتينة لبناء حكم ديمقراطي سوداني مستدام و اصيل كان عليها استصحاب والنظر لدور الادارة الاهلية بشكلها المتعارف عليه منذ القديم،  وبتطويرطرق واساليب حديثة ومستحدثة واستصحاب روح ثورة ديسمبر المجيدة في ذلك  و منها اشراك الادارة الاهلية في عملية النهضة الشعبية المجتمعية توازيا مع دور لجان المقاومة والتغيير ومن جانب اخر مشاورتها وتعزيز دورها الشعبي التعبوئ ضد بقايا نظام الانقاذ البائد وزيولهم، والسماح لها بلعب دورا اكبر في عملية البناء واعادة البناء.

التحديات التي تواجه المرحلة الانتقالية نفس التحديات التي واجهة معظم الادارات السابقة وهي تغيب البعد الاداري في عملية الاصلاح وإعادة البناء وعدم اعطائها الوزن الحقيقي والتركيز بصورة اكبرعلي البعد  السياسي والاجتماعي والاقتصادي وكمثال لذلك التعاطي مع الادارات الاهلية كجزء من نظام الانقاذ البائد وهو خطأ استراتيجي فادح!!

فرؤية الحكومة ومن يمثلها تختلف تماما عن رؤية المجتمعات والقبائل والعشائر والتي تمثل سكان الريف حوالي 83% من نسبة سكان السودان ومعظمهم  ينضوون تحت مسمي ناظر قبيلة او شيخ طريقة!!

علي الحكومة المدنية الانتقالية  إختراق وإحتواء  هذه التنظيمات الاصيلة والمتجزرة في وجدان غالبية الشعب السوداني وخاصة في الاطراف وتطويره ورعايتها وتوعيتها وتوظيفها لخدمة الادارة والحكم بكل مستوياته المحلي والمركزي وخاصة المحلي فالبلاد مقبلة لانتخابات حرة ونزيهة وتلعب مثل هذه الادارات التقليدية الدور الحاسم والكبير في عمليتي التعبئة والمشاركة.

تحدي ومواجهة وتخوين  مثل هذه التنظيمات العشائرية والقبيلية  من قبل الدولة هو تحدي ومواجهة السودان  ويعيد بالذاكرة الجماعية للمجموعات القبلية والعشائرية لفترة الاستعمار ( التركي / البريطاني المصري)  وكثيرا ما يردد افراد ومثقفي القبائل عبارة "الاستعمار الداخلي" لكل من يقف في وجه مصالح القبيلة المعينة من حكومة الخرطوم، وغالباً ما يوصف مثقفي شرق وغرب وجنوب السودان سياسات حكومة الخرطوم تجاه اقاليمهم بعبارة الاستعمار الداخلي !!؟

الخطابات التي تستخف برموز الادارات الاهلية في اي بقعة من بقاع السودان  تعزز وتذكي من خطاب الكراهية والغبن بين افراد مجتمع القبيلة ضد  الخرطوم ومن يمثلها علي سدة الحكم، والامر اشبه ما يكون هدم اعراف واركان المجتمع السوداني " وهو مجتمع قبلي "  فناظر القبيلة لا يمثل نفسه بقدر ما يمثل مجموعة افراد مجتمع القبيلة المعينة، وهو اشبه ما يمثل رمز( الطوطم المقدس) للقبيلة وهو رمزها التاريخي والحضاري والثقافي فالنيل من شخصية الناظر هو نيل من افراد مجتمع القبيلة باسرها بغض النظر عن الدور او الموقف الذي مثله الناظر تجاه قضية محددة.!

تجاوز النظام القبلي والعشائري والاستعلاء عليه وادخاله في اللعبة السياسية ليس من المنطق ولا الحكمة. علي المكون المدني العمل علي احتواء النظام القبلي العشائري كمؤسسة سودانية قديمة وعريقة تمثل روح السودان في الادارة والحكم وليس الاستخاف والاستهزاء به كمؤسسة بالية وعقيمة ومتخلفة.

ونختم المقال بما تفضل به بروفيسور ميرغني عبد العال حموررحمه الله تعالي  في ما يتعلق بالادارة الاهلية (  ) :

 ( الادارة الاهلية جزء من نظام اجتماعي قائم وضارب بجذوره عميقا في تراب المجتمع السوداني....التوجه السليم هو العمل الجاد والدووب لتحقيق اهداف الحكم الراشد، وديمقراطية الجزور، والتنمية المتوازنة، ومبادئي الشفافية والمحاسبة والمساءلة والعمل علي كسب الادارة الاهلية وقواعدها القبلية والعشائرية لهذه المسيرة، والتي ستفضي في نهاية المطاف الي تعديلها ثم نهايتها، وتصفيتها بصورة تدريجية وطبيعية ودون تدخل خارجي مباشر).

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

عثمان عطية


attiaosman@gmail.com

 

آراء