الفتوة والفخر في الدوبيت السوداني …. بقلم: أسعد الطيب العباسي

 


  •  242165

 

 

asaadaltayib@gmail.com

 

 (أشعار الفتوة والفخر تثير الحماسة في قلوب الشعراء والمتلقين بشكل واضح ومدهش، مثلما تلهب أشعار الغزل والوجدانيات العاطفة بحرائق متصلة، ولعلها من أكثر الأغراض التي اهتم  بها شعر الدوبيت السوداني، فأشعار الفتوة والفخر وجدت سندها من القبلية التي تنازعتها الحروب، ومن العرقية التي غذتها النعرات والانتماءات اللصيقة والمجتمعات المغلقة وقد وجد شعراء الدوبيت في باب الرثاء متسعاً للإفاضة في معاني الفتوة والفخر كما سنرى في مرثية الشاعر بابكر ود مهدي التي قالها في عمارة بن المك نمر بل تكاد قوافي الفتوة والفخر تنتظم وتسلك في غالبية أبواب شعر الدوبيت).

نبدأ بما قاله الشاعر العاقب ود موسى العيشابي في الفخر:

        نِحَنا بنسوي وما بــنقول  سـويـنا

        نحنا نفرتِق الكرنه أم صِفوف بـإيدينا

        الزول البضيف عَـدم الشداعَه عليـنا

        يفهم مِني ويسأل من تـوارخَ النيـنه

ويتضح لنا أن الإشارة التي أتى بها الشاعر وهي (النينا) الذي هو سيف عتيق لدى قبيلة الشكرية وقاتل به حسان ود أب علي في حرب الهمج والفونج تحمل الدلالة على أن الفخر والتعبير عنه شعراً رفدته القبيلة التي تنازعتها الحروب. ويعود نفس الشاعر ليدلل لنا على أن الانتماءات اللصيقة والمجتمعات المغلقة من دواعي الفخر، وذلك عندما اشار إلى مجتمعه الذي ينتمي إليه وهو مجتمع قبيلة الشكرية بقولِهِ:

        نحنا الـود لبّونَا بشيلْ حُـمول النايبْ

        تَصْرَم عِندنا القَحبه البصيبا الصايـبْ

        نحنا أولاد شِكير جورنالنا كُـلو نَقايبْ

        ديمه نلولي في المِحن الكُبار وغَرايبْ

        ونجد أن أشعار الفخر تبرز القيم التي تعتز بها القبيلة، كالشجاعة والصبر والكرم وإجارة المستجير وحماية الضعيف. يقول الشاعر العاقب ود موسى:

        نِحنا سهمنا دايماً في المصادِف عالي

        نِحـنا العِـندنا الخُلق البِِتاسع  التالي

        نِحنا اللي المِحن بنشـيلا مـا بنبالي

        بِنلوك مُـرهِن لامِـن يجينا الحـالي

ولعل ادعاء التفوق رسالة أخرى تحملها أشعار الفخر، كقول الشاعر ود الصِقري الذي افتخر بقومه فقال:

        نِحـنا صَـواقع البَرق  الشَـلع  ضَحـوِّيه

        ونِحنا الفوق نِحاسـنا بِنلـعبْ الصَقـرِّيه

        نِحـنا صَغـيرنا مَـاموناً  يلاقـي المِيـه

        نِحنا قرارنا مالكِنو مِنو البِرفع علينا قضيه وترتبط أشعار الحماسة والفخر والفتوة في أحايين كثيرة بأخبار الحروب والمعارك فتبرز البطولات والمواقف التي تشي بالقوة والشجاعة كما قال أحد شعراء البطانة:

أمانه عليك بطانة اب سن بتنبي الكاعه

يوم اكلت كباد ساكت رخم وضباعه

يوم محمود وناس عوض الكريم سمساعه

واقفين في الشمس دايرين يغطوا شُعاعا

وفتوة وفخر الهمباتة تتجلى كثيراً في أخبار معاركهم التي تنشأ مع مغامراتهم غير أنها تبرز أيضاً في محابسهم عندما يسقطون في أيدي السلطات، يقول أحدهم:

زنزانة الرماد قاطعه البصيص والضو

وفيها مسجنين ناساً أسوداً حو

أرجا الباري شن ما يريد عليك يسو

وإن وقع القدر تلقانا يابسين كو

وللحماسة والفخر مواقع متميزة في شعر الدوبيت، وهي مدار من المدارات الخصبة للمجادعات والمساجلات والمجاراة، ونسوق لذلك مثالاً، فقد دار في جلسة ضمت الشاعر المعروف عكير الدامر والشعراء حمدان ود حاج والطيب حاج عبد القادر ومحمد خير الدوش، مساجلة سلكت فيها مربعاتهم في شكل من أشكال الربقية توخوا فيها موضوعاً واحداً هو الفخر وقافية واحدة وهي النون.

قال عكير:

        نِحنا إن هـجنا تتضلل لِيـوث الكـرنا

        جايعات السباع في العوق  بتتذكَّــرنا

        نحنا الفوق كـراسي المملكة اتحكَّـرنا

        نِحنا أعـدانا تثبِت فضلنا وتـشكَّـرنا

وقال حمدان ود حاج:

        نِحنا أسود غُوب كَضَبْ  البداني وكـرنا

        ومـا بِكـتر سُرورو اللَيهو نِحنا  فكرنا

        شوفـتنا القبـال تبيـنا جـانا سكرنـا

        نِحنا إن هجنا سبحان من  يصفي عكرنا

وقال الطيب ود حاج عبد القادر:

        أحـمر لونـو مـن دم الرجال دُكَّـرنا

        وتتبعنا السباع في رواحنا وإن بكَّـرنا

        ويـن يجد المجال عازِلناشِنْ  أنكـرنا

        تعـرفنا الدهـور تثبت نبانا ذِكِــرنا

 

وقال: محمد خير الدوش:

        نحنا أسود خُشش كَضَبْ البقـول أحقـرنا

        عاليات نفوسنا لى غيرنا  تَّبْ ما صِـغرنا

        ويـلو عـدونا لو فيهو يـوم فَـدْ غـِرنا

        غير رب العباد الموت مين مِنو قِدر يفرقنا وعندما نلج الآن عبر بوابة الشعر الوطني والسياسي على ظهر راحلة الدوبيت، نجده وجها آخر لعملة الحماسة والفخر والفتوة، ولكنه يحمل دلالات أعمق وتصديات أوسع وشمولية محببة. تقول مهيرة بت عبُّود وهي تشجع الابطال ليذودوا عن حمى الوطن ويبذلوا لأجله كل مرتخصٍ وغالٍ:

        حسـان بـي  حـديدو الليله إتلثَّمْ

        الدابي الكمن في جُحـرو وشمَّ الدَّمْ

        مامـون يالملك  ويـا نقـيع السِّمْ

        فـرسانا بكيلو العين وبفرجو الهمْ

وقالت:

        الليله استعَدُّوا وركـبوا خيـول الكَرْ

        وقِـدامُـن عقـيدُنْ بالأغـرْ دَفـرْ

        الليله الأســود الليـله تتــنتـَّرْ

        ويا الباشا الغشيم قول لي جِدادك كرْ

وشعر الدوبيت الوطني والسياسي الذي بث الحماسة في القلوب ودافع عن تراب الوطن ووقفت قوافيه لتسجل انتصارات هذا الشعب وتشيد بأبطاله ومواقفهم، لم يكن بعيداً عن مشاعر الفرحة التي انتظمت كل أفراد الأمة عندما رفرف علم الاستقلال.

فقال شاعرنا القومي حسن خلف الله يحيى:

        أطـرب يا شـباب الليله رَفـرف عَلمـكْ

        غـاب عَـلم القبيل كَتَّلْ جـدِودك  وظَلمَكْ

        دير كـاس الطرب واشفى جـرحك وألمكْ

        سـطر للوراك تاريـخ نزيــه بي قلمكْ

وعندما نستقرئ التاريخ ندرك أن السودان ومنذ أن أخذت تطأ أرضه الطاهرة ثلة اللصوص ومحترفي السياسات الاستعمارية البغيضة، أضحى كياناً من المقاومة والرفض، وقدم أرتالاً من الشهداء في سبيل مقاومة الدخيل واسترداد الحرية. وقد قال: شاعرنا ود رانفي مذكراً أهل السودان بأولئك الذين دافعوا عن الأمة على صهوات خيولهم وسيوفهم، وهم يواجهون مدافع وبنادق الأعداء، وسقطوا شهداء فداءً لهذا السودان وترابه الطاهر، بعد أن رأى اختلاط الحابل بالنابل وفوضى الانتخابات، وما آل إليه الحال بعد الاستقلال من تردٍ سياسي وفوضى شاملة يقول:

        حِليل أهـلك حِليل البِريدوكَ  قبيــلْ

        داهجين المدافِـع بى صِـدور الخيلْ

        قَبَّال التصـاويت والبهـادِل دَيــلْ

        ما  شافوا الأضافِر في جَوامع السيلْ

وعندما وقعنا على القصيدة الجهيرة للشاعر بابكر ود مهدي والتي رثى فيها الفارس المك عمارة بن الفارس المك نمر تكرس لدينا ما ظللنا نعتقده بأن الرثاء باب يتسع للفتوة والفخر وهي مرثية رائعة ومليئة بالمشاعر وتغذي الحماسة في النفوس مما يحملنا على إيراد أجزاء منها خاصة وأنها سلكت في أصعب أنواع الشعر القومي وهو المربوقة وسنزيلها بما قالته الشاعرة بنونة بت المك نمر وهي ترثي شقيقها عمارة متخذة ذات المنوال في رثائها له حيث ذهب إلى تخوم الفتوة والفخر.

سيد نِحلْ الفراسه وتُنْدُل اللُبَّاسْ

الولدْ البِصُد الحَافِلاتْ يُبَّاسْ

وكتْ الشوفْ يشوفْ سَيفُو البِضَايرْ النَاسْ وحرسو من أب قريقِد لى سَعد كَبَّاسْ

 

صَمَدْ البِجَنْ عَرْكُوسْ

وبِلمَعْ فَوقْ ضُهور خَيلاً قماري لُبوسْ وكتينْ الرِجال تِشَامَرْ المَلبُوسْ سَيفُو بِخَلِصْ الفَارِس مع الكَرْبُوسْ

 

زَامْ أسد الكَدادْ بين القُدَينْ واللُوسْ وفي غَابْتُو الضَرِيَّه أحمَى الخَلِقْ ما تكُوسْ مَعْلُوم عِنْ مُلاقاة الرِجال كَابُوسْ وكُلْ الرِجالْ تَقولْ مِن دَربَك الحَابُوسْ

 

كَمْ شَديتْ على طَرْزَه وجَنى امْ مَحَسُوسْ ولِبْسَك تندلو ودَهَجَكْ بضربوا كَروسْ كَمْ شَقيتْ هَامه وكَمْ فَلَقتَ ضُرُوسْ وكَمْ جَدَعْ رِجالاً بَىْ ضراعَكْ المَسْيُوسْ

 

كَمْ شديتْ على كِيكاً نَوايبُو كَرَكْ

وكَمْ شَقَيتْ وكَمْ دَخَلتَ دَرَكْ

قَارْحَك عِنْ مُلاقاة الخُيولْ مَا جَكْ

حَارْسَاهُو الفَراسَه عَمارَه ود المَكْ

 

جَنَكْ مَشِيهِنْ عَكْ

والخيلْ بَادَرنْ شِبِعْ عَقِيدَك سَكْ

سَيفَكْ بِسَوِّي النَكْ

وحَرَسكْ مِنْ عَجِيبْ وادريسْ ونِمِر المَكْ

 

إنتَ العَليكْ الرَّكْ

ومِنْ حِسَكْ تَقُومْ البَاديَّه تِتْحرَكْ الولدْ البِسِومْ الرَوح ويِدَّرَكْ دَمَرَتُو العَبُوسْ خَتَّ الحِمِلْ وترَكْ

 

يا لِسَانِي جِيبْ النَّمْ

لىْ مُقْنَعْ بناتْ جَعلْ العُزازْ مِنْ جَمْ الخَيلْ رَوَقَنْ ما بْقُولْ عِدَادِنْ كَمْ فَرْتَاقْ عُقْدَتِنْ مَلايْ سِرُوجِنْ دَمْ

 

ما دَايْرَالَكْ المِيتَه امْ رَماداً شَّحْ دايراكْ يوم لُقَا في دَمِيكَ تِتْوَشَّحْ وكتَ الخَيل تِتْدَعِكْ والسَيفْ يِسَوِّي التَّحْ والميتْ مَسولبْ والعَجاجْ يِكْتَحْ

 

إن إختيار الألفاظ المؤثرة من مفردات اللغة في شعر الدوبيت خاصة في الفخر والفتوة يجعلنا نعيد ما قلناه بأنها قد ساعدت على بقائه ممسكاً بأسباب الإبتداع الذاتي وساعدتنا على التعرف أكثر على شعرائنا أنفسهم فالمرء مخبوء تحت لسانه ولكن لسان شاعر الدوبيت السوداني يحمل خصائص ومزايا لا تختلف كثيراً عما يحمله غيره من فنون القول الأخرى، إلا أنه الأبعد أثراً والأبلغ تأثيراً في نفوس السودانيين، والأكثر شيوعاً وشعبية في أواسط كل فئات الشعب المتعلمة وغير المتعلمة، لذا يتذوقه معظم أفراد الشعب السوداني ويقدرونه ويصغون إليه بكل حواسهم خاصة عندما ينشد، وللدوبيت السوداني أفضال تاريخية لا تخفى، فقد سجل الأحداث التاريخية العامة وحمل في متنه وقائعها المثيرة، ورصد آمال الأمة وآلامها وعبَّر عن خواطرها وانتشل الأحاسيس الكامنة في وجدان أبنائها، وأبان جغرافية الوطن باقتدار مدهش عجزت عنه كافة الخرائط، إذ أوضح المناحي والمدن والقرى والأرياف والأنهار والطرق والجبال والصحارى والوهاد والوديان، ومكونات البيئة بطقسها المتقلب وأنوائها وشموسها المنيرة وأقمارها المضيئة، بل سلك في مسالك علم الفلك، فعرفنا أسماء النجوم ودلالتها، ولا شك أن الدوبيت كان له عظيم الأثر في تشكيل الوجدان السوداني، كما كان أداة للترفيه والتسلية وحمل القيم النبيلة وشجع على اعتناقها.

اسعد العباسي [asaadaltayib@gmail.com]

 

آراء