الفن الدبلوماسي في التراث العربي: مقدمة كتاب بهذا العنوان
الدبلوماسية نشاط مجتمعي عريق، عرفته المجتمعات البشرية القديمة، وهي على حال البدائية، بدافع من حاجتها لتنظيم علاقاتها بالمجموعات البشرية الأخرى التي تجاورها أو تتعامل معها أو ترتبط بها بنوع من الارتباط. ويرى علماء الانثروبولوجيا [1] أنها عرفت منذ طفولة الانسانية واستخدمتها المجموعات البشرية (عائلات، عشائر، بطون أفخاذ وقبائل) لترتيب شئون الحرب والسلم والتجارة والعبادة والمصاهرة والاحتفالات مع المجموعات المماثلة وهناك من كتاب القرون الوسطى – جنتيلي والاسقف جرمونيوس - [2] من يعود بنشأة الدبلوماسية إلى القدرة الإلهية، زاعماً أن الدبلوماسيين الأوائل على الإطلاق هم الملائكة الذين اتخذهم الله رسلاً وموفدين من لدن قدرته، بينما يرى علماء الانثروبولوجيا أن الوظيفة الدبلوماسية قد تكفل بها على مر التأريخ رسل من البشر، جرى انتخابهم لتلك المهام لخصائص توفرت فيهم- لكونهم شيوخاً معروفين بالحكمة، أو عدائين معروفين بحسن احتمالهم لوطأة السفر أو شعراء وبلغاء يجدون الأذن الصاغية لدى العشائر الأخرى أو لكونهم يتحدثون لغات تلك العشائر، أو تجمعهم بها صلة الرحم أو صلة الصداقة. وفي تقديرهم أن الدبلوماسي البدائي كان يتمتع هو الآخر بالحصانات التي تضمن سلامته الشخصية وتكفل حرية مروره أو عبوره، وذلك نتيجة لطقوس عرفية وسحرية جعلت التعرض له أمراً من المحظورات شديدة العقوبة أو مخوفة النتائج. ويعبر المصدر السابق عن تلك الحصانة بقوله أن الرسول القديم لم يكن يقتل أو يؤكل.
وكان للدبلوماسي القديم ما يعادل أوراق الإعتماد في الدبلوماسية الحديثة، إلا أن أوراق إعتماده كانت تتمثل بزي خاص يرتديه، أو عصا معينة يحملها أو أغان ونداءات يرددها أثناء تسفاره في أراضي العشائر الأخرى. وإذا صح كل ذلك فإن الدبلوماسية البدائية كان لها نفس محتوى الدبلوماسية الحديثة من حيث كونها عملية تواصل وتفاوض بين المجموعات البشرية، يتصدى لها مبعوثون متميزون يتمتعون بالحماية والحصانة لكي يتمكنوا من أداء مهمتهم الدبلوماسية.
ولا يبدو أن عرب ما قبل التأريخ قد خرجوا على هذا النهج الذي اتبعته الأقوام البدائبة الأخرى. بل أن هنالك أسباباً خاصة بالعرب وبلادهم جعلت من الاتصال الدبلوماسي ضرورة حياتية للعرب الأقدمين. فمن جهة، كانت تنظيماتهم الاجتماعية تقوم على تمايز العشائر والقبائل والبطون، الأمر الذي يزيد من فرص التناحر والنزاع، ويستدعي نشوء الدبلوماسية لتحل المنازعات وتمنع القبائل من التفاني في حروب طويلة المدى، لاهدنة فيها ولاصلح يعقبها، مثلل حرب البسوس الشهيرة التي اشتعلت بين بكر وتغلب على مدى أربعين عاماً، وذلك بسبب من إنهيار النظام القبلى لحل المنازعات امام تعنت طرفي ذلك النزاع. ويتجلى استهجان العرب الأقدمين لذلك التعنت في المثل الذي أطلقوه بتلك المناسبة والقائل (أشأم من البسوس) وهي جارة جساس بن مرة، صاحبة الناقة التي قتل من أجلها كليب بن وائل وثارت الحرب. وبالمثل فإن الحروب التي دارت في الأشهر الحرم بين قيس عيلان وبني كنانة، أطلق عليها اسم حرب الفجار، إشارة إلى أن أطرافها قد فجروا بانتهاكهم للأشهر الحرم واستحلالهم للقتال خلال ذلك الموسم من مواسم السلام.
ومن جهة أخرى كانت جزيرة العرب أهم معبر تجاري في العالم القديم، تمر عن طريقها منسوجات الصين وحرائرها، وبهارات الهند، ولآلئ الخليج، بالإضافة إلى بخور العرب ومرهم ولبانهم. وقد استمرت تلك التجارات عبر الجزيرة لقرون طوال، مما يؤكد افلاح العرب الأقدمين في ابتكار نظام دبلوماسي، جرى عن طريقه تأمين التجارة والمواصلات بطريقة شديدة الفاعلية طوال عدد من القرون.
يقول فيليب حتى عن حياة العرب الأقدمين:
(ليس البدوى غجرياً يتجول دون هدف ولأجل التجوال في ذاته. إنه يمثل أرقى درجات التأقلم البشري مع ظروف الحياة في الصحراء. فإينما وجدت الأرض المعشبة، تجده هنالك طلباً للمرعى. والبداوة طريقة علمية للحياة في صحراء النفود، مثلها في ذلك مثل الصناعة بالنسة لدترويت ومانشستر) .
إذا كان المقصود بهذه العبارات درجة التأقلم مع البيئة الطبيعية ، فإنها تصدق أيضاَ بالنسبة إلى درجات التنظيم والتأقلم الدبلوماسي. فقد ابتكر العرب الأقدمون أنماطاً عديدة من الأعراف والطقوس ترمي كلها لحفظ السلام القبلي وتكريسه، والإقلال من مناسبات سفك الدماء. وتأتي في طليعة تلك التدابير مواسم الأشهر الحرم التي يمنع فيها القتال لأي سبب من الأسباب ويأمن خلالها الطالب والمطلوب. فهي بمثابة عطلة من القتل والطلب والثارات، مداها الزمني أربعة أشهر أي الثلث من كل عام. وانتهاكها ينطوي على ثمن اجتماعي وقانوني باهظ. وبالمثل فإن مؤسسة الحلف والموالاة والإجارة بين القبائل والأفراد قد أسهمت في تضييق مساحة النزاعات وجعلت الكثير من الدماء محصنة من اعتداء المعتدين. وانطوى القانون العرفي (غير المكتوب بطبيعة الحال) على عقوبات قاسية بحق الفرد المتجاوز من بينها عقوبة الخلغ، بمعنى تبرؤ القبيلة من المخطيء بحيث يصبح دمه حلالاً للجميع، ولا تطالب له القبيلة بدية أو ثأر. وهي عقوبة شديدة الوطأة في مجتمع عشائري تمثل فيه القبيلة الملاذ الآمن والمجال الحيوي الوحيد أمام الفرد، وبدونها يغدو وحيداً شريداً ودمه مستحل. أما الدبلوماسية المباشرة، بمعنى المساعي السلمية لحل النزاعات، فقد عرفها ومارسها العرب الأقدمون.
وعرف منهم رجال سعوا للصلح بين القبائل المتحاربة، ورجال احتملوا عن المتحاربين ديات القتلى وغيرها من الغرامات المالية التي تقرر في أعقاب الحروب. ففي معلقته الشهيرة، يمتدح زهير ابن أبي سلمى اثنين من وجهاء عرب الجاهلية احتملا ديات القتلى في حرب عبس وذبيان وسددا التعويضات المقررة من مالهما الخاص. وفيهما يقول الشاعر هذا البيت الشهير[3]
تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وإلى جانب المبادرات الفردية، من وساطات ومساع للسلام، كان هنالك بعض الأعمال الجماعية التي تصب في نفس الاتجاه. فمن ذلك حلف الفضول الذي أنشأه بينهم بعض أفاضل رجال قريش، وكان غرضهم منه انصاف كل مظلوم من ظالمه. وفي سبب إنشاء ذلك الحلف تقول الروايات أن رجلاً من اليمن باع سلعة له للعاص بن وائل السهمي، فمطله بالثمن حتى يئس فصعد إلى أعلى جبل أبي قبيس بمكة ونادى بظلامته، (فمشت قريش بعضها إلى بعض وكان أول من سعى في ذلك الزبير بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف، واجتمعت قبائل قريش في دار الندوة وكانت للحل والعقد وكان ممن اجتمع بها من قريش بنو هاشم بن عبد مناف وبنو المطلب بن عبد مناف، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر، فاتفقوا على أن ينصفوا المظلوم من الظالم، فساروا إلى دار عبد الله بن جدعان، فتحالفوا هنالك، ففي ذلك يقول الزبير بن عبد المطلب:
حلفت لنعقدن حلفاً عليهم وان كنا جميــعاً أهل دار
ويعلم من حوالى البيت أنا أباة الضيم نهجر كل عار
وربما كان جديراً بالملاحظة في هذا السياق ما كان للعوامل الخارجية من تأثير على حالة الأمن في جزيرة العرب. فقد أحاطت بها من كل الجهات الدول العظمى لذلك الزمان (الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الساسانية وإمبراطورية أكسوم). وعلى امتداد التأريخ تكفلت تلك القوى بالقضاء على الممالك المنظمة التي أنشاها العرب، واحدة تلو الأخرى وجهدت جهدها لحصر العرب داخل الصحراء بوصفهم عنصراً خطراً على أمن تلك القوى واستقرارها. ولعله من الطريف حقاً أن يتأمل المرء نهايات (أو ربما مصارع) الممالك العربية القديمة فيجدها قد جاءت على أيدي أولئك الجيران. فقد انهارت مملكتي سبأ والبتراء حين قام الرومان بحرمان المملكتين العربيتين مما كانتا تجنيان من أرباح التجارة مع الشرق البعيد. أما بالميرا فقد قضى عليها الرومان وأخذوا ملكتها زنوبيا سبية، مغلولة إلى مركبة الفاتح الروماني بسلاسل من الذهب. وفي عام 525 قبل الميلاد قام الأحباش، بتحريض من البيزنطيين، بغزو اليمن والقضاء على ممكلة الحميريين. أما مملكة الغساسنة في سورية ومملكة اللخميين في العراق فقد أريد لهما أن تكونا مناطق عازلة وخاضعة باستمرار لهيمنة فارس وروما، وهكذا كانتا على الدوام. ولا جدال في أن حرمان العرب الأقدمين من تنظيم أنفسهم في ممالك مستقرة، كان واحداً من أسباب تخلفهم الحضاري في العصر الجاهلي، وأحد دواعي الحياة الخشنة الجاسية التي عاشوها قبل الإسلام.
نتج عن ذلك انحصار الممارسة الدبلوماسية الجاهلية في العلاقات العربية – العربية أي في حل المنازعات القبلية وإنهاء الحروب الناشئة بين القبائل. ومع ذلك فقد عرف العرب ضروباً من العلاقات الدبلوماسية مع جيرانهم من الدول. فقد كانت وفودهم تترى على المناذرة في الحيرة، والغساسنة في الشام، وهنالك عديد من الروايات عن وفودهم إلى كسرى وقيصر، لعل أشهرها جميعاً قصة سيف بن ذي يزن الذي أزاحه الغزو الحبشي لليمن عن عرش آبائه فذهب أولاً إلى قيصر الروم يطلب نصرته، فلما لم يسعفه ذهب إلى كسرى ملك الفرس وسأله النصرة على الحبشة، وأن يكون ملك اليمن له، كما في رواية إبن خلدون:[4]
(فقال كسرى: بعدت أرضك عن أرضنا، وهي قليلة الخير إنما هي شاة وبعير ولا حاجة لنا بذلك. ثم كساه وأجازه، فنثر دنانير الاجازة ونهبها الناس وذلك ليوهم الغنى عنها بما في أرضه. فأنكر عليه كسرى ذلك فقال: جبال أرضي ذهب وفضة، وانما جئت لتمنعني من الظلم. فرغب كسرى في ذلك، وأمهله للنظر في أمره، وشاور أهل دولته، فقالوا في سجونك رجال حبستهم للقتل ابعثهم معه فإن هلكوا كان الذي اردت بهم، وإن ملكوا كان ملكاً ازددته في ملكك.)
ومثل هذه القصة في الشهرة والتداول بين الرواة رحلة امرئ القيس بن حجر الكندي، الشاعر الجاهلي الأشهر، إلى بيزنطه طلباً للنصرة والمساعدة في استعادة عرش آبائه والثأر لأبيه القتيل. ورغم أن كثيراً من الأساطير تحيط بحياة هذا الشاعر الفنية إلا أن بذرة من الحقيقة تكمن في الروايات المتعلقة بحياته السياسية. فقد كان ينتمي إلى أسرة مالكة خطيرة الشأن في تأريخ العرب القديم، أقامت مملكة مستقلة في نجد من نحو سنة 450 إلى نحو سنة 540 ونافست مملكة المناذرة ردحاً من السنين حتى أفلحت هذه الأخيرة في استقطاب الدعم الساساني والقضاء على أسرة بني كندة المنافسة لها وقتل آخر ملوكها وهو والد أمرئ القيس. فكان طبيعياً والحال كذلك أن يلجاً الشاعر إلى الامبراطور البيزنطي، غريم الساسانيين السياسي، يستمد منه العون والنصرة على قتلة أبيه. وتختلف الروايات حول نتائح تلك السفارة فمنها من يقول بنجاحها ومن يقول بفشلها لأسباب درامية جداً مثل تلك الرواية القائلة بأن القيصر اكتشف في اللحظة الأخيرة علاقة غرامية بين الشاعر واحدى بناته فانتقم منه بإهدائه حلة مسمومة كانت هي السبب في وفاته المفاجئة قريباً من انقرا في طريق عودته إلى بلاد العرب.
وحيث أن المناذرة والغساسنة كانوا من العرب فإن ممارستهم الدبلوماسية مع دولتي فارس وبيزنطه تمثل جزءاً من رصيد العرب الدبلوماسي إلا أن الرواة الاقدمين لم يحفظوا لنا إلا اليسير من أخبارهم إذ أن تركيزهم كان دائماً منصباً على داخلية الجزيرة العربية بوصفها الأصل وما عداها يعتبر من الفروع. وربما كانت التجارب الدبلوماسية لاولئك العرب الحدوديين قد انضافت إلى مجمل الرصيد العربي بعد فتح الشام والعراق في العصر الاسلامي، ولكنه سيظل صعباً أن نضع عليها أيدينا بصورة قاطعة تميزها عما عداها من اسهامات العرب والمسلمين في الابداع الدبلوماسي لأمة العرب. وهناك خبر واحد على الأقل عن واحد من أولئك العرب الحدوديين هو عدى بن زيد الذي نشأ في بلاد فارس وعمل مترجماً لدى كسرى ثم صار سفيراً له عند بيزنطه وذلك (أن كسرى ارسله إلى ملك الروم بهدية من طرف ما عنده، فلما اتاه عدى بها أكرمه، وحمله إلى عماله على البريد ليريه سعة أرضه، وعظيم ملكه، وكذلك كانوا يصنعون؛ فمن ثم وقع عدى بدمشق وقال فيها الشعر) ومن المحتمل أن يكون أمثال عدي بن زيد كثيرين بين الغساسنة والمناذرة ولكن خبرهم لم يتناه إلينا.
في أواخر العصر الجاهلي وأول الإسلام، مارس المكيون الدبلوماسية ضد الدعوة الجديدة بهدف حرمانها من بلد اللجوء الوحيد الذي كان متاحاً لها وهو الحبشة، فأرسلوا وفداً من خيرة رجالهم وأذكاهم ليسعوا في إقناع النجاشي بإغلاق بلاده في وجوه اللاجئين المسلمين وتسليم ما بيده منهم إلى قريش.
ويمكننا القول – بمفردات عصرية – أن جعفر بن أبي طالب وهو يتحدث باسم المهاجرين المسلمين في الحبشة سعى ، أول ما سعى لتثبيت وضعيتهم كلاجئين دينيين، نافياً عنهم صفة المجرم العادي الذي يجوز بحقه الإبعاد إلى وطنه الأصلي. وعبر سلسلة من الأسئلة وجهها لرسولي قريش انتزع منهما اعترافاً فأن المهاجرين المسلمين لم يقترفوا بحق القرشيين أي نوع من الجرائم الموجبه للإبعاد:
(فقال جعفر للنجاشي:سله، أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيداً أبقنا من أربابنا فأرددنا إليهم. فقال عمرو: بل أحرار كرام فقال: هل أهرقنا دماً بغير حق فيقتص منا؟ قال عمرو: ولا قطرة فقال: هل أخذنا أموال الناس بغير الحق، علينا قضاؤها؟ فقال عمرو: ولا قيراط فقال النجاشي: فما تطلبون منهم؟)
ورغم أن الحجة كانت مع المسلمين إلا ان الوفد القرشي أبدى مهارة دبلوماسية كبيرة، ولا عجب في ذلك فقد كانت الدبلوماسية القرشية في يدي عمرو بن العاص الذي سيكون في مقبل أيامه أحد سفراء النبي وواحداً من أعظم رجال الدولة في تأريخ الاسلام. ومنذ الوهلة الأولى سجل الوفد القرشي نقطة لصالحة حين سجد للنجاشي على سبيل التحية. ثم تحدث ابن العاص في صلب الموضوع فأوضح للنجاشي ما يمثله المسلمون من خطر على دولته هو بالذات وينصحه بتسليمهم لقريش فيدرأ الخطر عن مملكته، وكل ذلك حجج سياسية لا بأس بها لولا أن المسلمين يكسبون الجولة على أسس دينية إذ شرحوا مبادئ عقيدتهم للنجاشي فوجدها مقبوله لديه وذلك لكونه مسيحياً يدين بعقيدة التوحيد.
ولعرب الجاهلية أخبار وأقوال في الدبلوماسية رددها المؤلفون المسلمون على وجه الحكمة والبلاغة وذلك بحد ذاته قرينه على معرفتهم بفنون التفاوض والاتصال، فقد نقل الوافدي أن قريشاً في الجاهلية كانت إذا أرسلت رسولاً إلى بعض الملوك قالت له : (احفظ شيئاً: انتهر الفريصه فإنها خلسة، وبت عند رأس الأمر لا ذنبه. واياك وشفيعاً مهينا فانه أضعف وسيله، وإياك والعجز فإنه أوطا مركب. وعليك بالصبر فانه سبب الظفر.)
تغيرت تلك الصورة مع مجئ الاسلام، واستطاع العرب المسلمون أن يدخلوا التأريخ وان يقيموا في بضعه قرون، واحدة من أعظم حضارات العالم وامبراطورياته. وبتلك الصفة مارسوا العلاقات الدولية وأنشأوا دبلوماسيتهم الخاصة لخدمة تلك العلاقات، وهي ما يمكننا أن نطلق عليه اسم الدبلوماسية التراثية على سبيل تأكيد الانتماء إليها بوصفها الأصل الأصيل للممارسة الدبلوماسية العربية المعاصرة، والنبع الذي بالرجوع اليه نستجلى اكثر فأكثر ذاتنا الحضارية في مجال يبدو للوهلة الأولى وكأنه من ابتكار الغرب وابداعه ومحكوماً، بل محتكماً إلى مواضعاته بصورة لا تقبل الجدال.
وذلك أن الدبلوماسية الحديثة تدين بنشأتها للغرب وبالذات في عصر النهضة الأوربية حين ابتكروا، للمرة الأولى فكرة السفارات المقيمة التي تستمتع بالحصانات والامتيازات في البلد المستقبِل (بكسر الباء) وترعى علاقات البلدين بصورة مستديمة، طالما ظل التمثيل الدبلوماسي قائماً بين البلدين. وبذلك انتقلوا بالدبلوماسية من عصر الرسل والوفود إلى عصر السفارة المقيمة. وسوف نرى في ما يلي أن ذلك التراث يذخر بالكثير مما يصلح هادياُ للممارسة العربية المعاصرة وأنه ينطوي على دروس عظيمة الفائدة في مجالات الأخلاق والآداب السلوكية والمرسميات.
عن الكاتب:درس الدبلوماسية في معهد الادارة الدولية بباريسوتخرج منه بماجستير في الادارة الدبلوماسية وتلقى تدريبا مكثفا بالسفارة الفرنسية بداكار وظل في خدمة الدبلوماسية السودانية 27 عاما متوالية انتهت لخروجه من السودان والحاقه بخدمة سفارة دولة قطر بواشنطن على مدى خمس سنوات و لكنه ظل يواكب التطورات السياسية والدبلوماسية في العالم وكتابه الذي سينشر قريبا نوع ممن المضاهاة بين الانشطة الدبلوماسية في التراث العربي مع نظيرتها الغربية وبذلك فان كتابه ليس تاريخا بقدر ما هو مقارنة بين حرفييتين .
________________________________________
[1] Ragnar, Numelin: Les Origines de la Diplomatie, Flammarion, Paris 1945
[2] المصدر نفسه ص 7
[3] البيت لزهير بن أبي سلمى من معلقته
أمن أم أوفي دمنة لم تكلم بحومانة الدراج بالمتثلم
والممدوحان هما هرم بن سنان والحارث بن عقبة المري
تأريخ إبن خلدون ، المجلد الثاني – صفحة 73[4]
Ibrahim Elmekki
melmekki@aol.com