الفَرِحون في العيد

 


 

 

 

هم أُرسلوا إلى اليمن قبل ثلاث سنوات، وهو أيضا ذهب إلى اليمن، ولكن قبل أكثر من ربع قرن. هم سودانيون أرسلهم الحاكم استجابة لنداءات الصفقات والأجندات الخارجية وسياسات المحاور. وهو أيضا سوداني، ذهب من تلقاء نفسه استجابة لنداءات معارك التقدم والنهضة في اليمن. هم أُرسلوا ليحاربوا وليقاتلوا الإنسان. وهو أيضا ذهب ليحارب، ولكن ليقاتل الجهل في الإنسان. هم سلاحهم الرصاص الفتّاك، وهو سلاحه الفكرة البنّاءة. هم معروفون للملأ، فأخبارهم مصوّرة ومسموعة ومقروءة، ولا يحتاجون مني إلى إفصاح. أما هو، فربما يعرفه الكثيرون، ولكنه يحتاج مني إلى مزيد إفصاح، فهو المعني بالحديث. هو الأستاذ «أحمد عمر»، المعلم والفنان، الذي ذهب إلى اليمن ليقدم المعرفة، وليعلم الشباب رسم الإحساس واستنطاق جماليات الحياة. فاجأته ليالي النَيْطَل، ولكنه واصل الكتابة والرسم على إيقاعات الحرب وحفيف أجنحة الموت، ولوحاته تنوح: لم يعد اليمن «سعيدا» ولن يعود سعده قريبا، اليمن المهدور، والأجندة تتوالى من الخارج فيختطفها الساسة في لهفة وهم يستخفون، أما الشعب فينحاز فقط إلى رمق الحياة.

مكابدات المعلم والفنان أحمد عمر، لا تنفصل عن حالة الجرحى والمعطوبين والمشردين والمفقودين في صنعاء وغيرها، وهو يعاني مع كل يمني يشيّع جنازات فقده الخاص، ويكابد وحشته الجمعية. ولكن، معاناة فناننا تتضخم، وروحه تتضاعف عذاباتها وهي تزفر الأنين والعويل تحت وطأة انطفاء الشمعة الوضاءة. فمثلما الحرب تأخذ منا أجمل الأشياء، فها هو الموت، يأخذ الأجمل من أحمد عمر. يأخذه بدون سابق موعد وبدون استئذان وبدون توقع، إنه موت الفجاءة يختطف فلذة الكبد، فيفطر الحزن قلب الفنان.

ومثل كل مرة، مع حلول «عيد الفطر»، توقعت أن تكون معايدة أحمد عمر رسما لإحساس ما ينتابه ومتمكن منه. والفنان لم يخيب ظني. بحث أحمد عمر في أوراقه القديمة، فوجد مقالا قصيرا للمفكر والأديب الراحل الشهيد الدكتور حسين مروّة، بعنوان «الفَرِحون في العيد»…، منشورا تحت زاوية «أدب» في جريدة «الحياة» بتاريخ 22 يونيو/حزيران 1959، وأرسل لي المقال كبطاقة معايدة. يقول المقال: (( لكلّ عيد فرحة، وفرحة هذا العيد للصائمين. فمَن الصائمون، ومَن الذين يفرحون به؟. أما الصائمون حقاً، فهم أولئك الذين «كل شهورهم شهر الصيام»، كما يقول الشريف الرّضي. هم أولئك الذين يصومون حياتهم كلها، لأنهم لا يجدون في زحمة العيش وفي ميدان « التنافس الحُرّ» مكاناً لأجسادهم المتعبة يستريحون فيه و«يفطرون» ويشبعون. ومَن هم هؤلاء؟.

هؤلاء هم «كثافة» الزحمة ذاتها، هم طريق المتنافسين، هم «حجارة» الميدان، وهم «خيول» الطرّاد في حلباته، وهم الأيدي التي تبنيه، والقلوب التي تحييه، والعيون التي تضيء نواحيه.هؤلاء هم الجديرون أن «يفطروا» من صيامهم الطويل، وأن يفرحوا بعيدهم. وهل عيدهم إلاّ الذي يجدون به فطرهم بعد صيام، وشبعهم بعد جوع، وكسوتهم بعد عري، وطمأنينتهم بعد خوف، وكرامتهم بعد هَوان، وحرّيتهم بعد استعباد، وإنسانيتهم الصحيحة بعد استلاب؟ ثم، مَن هم الفرحون اليوم بهذا العيد، عيد الصائمين؟. الفرحون اليوم، هم أولئك الذين ما عرفوا في رمضان صوماً إلا على تخمة، وما عرفوا إفطاراً إلاّ على شَبَع، وما عرفوا تعباً إلا على استرخاء، وما عرفوا ضجَراً إلا على راحةٍ وفراغ.وهم أولئك الذين لم يعرفوا الصوم جوعاً ولا ظمأٌ ولا تعباً، ولكن عرفوه ترفاً وانبساطاً ولهواً واجتراراً، أو عرفوه فرصة استجمام، أو وسيلة تخفيف من سمنة متخمة، أوعرفوه نوماً في السرر، وعبثاً بلغو الأحاديث، وزهواً ببعض الأباطيل.وهم أولئك الذين لم يعرفوا الصوم وَرَعاً عن مَحرم، ولا ترفّعاً عن إثم، ولا امتناعا عن ظلم، ولا تحرّجاً عن كذبٍ أو رياء أو قلق، ولا صوناً للنفس عن حقد أو بغضاء أو خديعة أو احتيال، ولكن عرفوه سانحة من سوانح الأيام لإرهاق المستضعفين، واستغلال المكدودين، واستدراج المرابح والمكاسب من جهد الصائمين الصادقين.هؤلاء وحدهم، هم الفرِحون اليوم بالعيد، عيد الصائمين، هم وحدهم الفرحون بمباهج العيد، لأنها مباهجهم وحدهم، لأنهم هم وحدهم القادرون على استلذاذ المباهج، لأن المباهج من أجلهم وحدهم تبتدع وتصطنع.

أما أولئك «الصائمون» أبداً، المتعبون أبداً، المستضعفون في الأرض أبداً، فلن يعرفوا العيد إلا يوم «يفطرون» فيجدون شبَعاً وكسوة وصحة وطمأنينة وكرامة، يجدون ذلك من غير تمنين « بإحسان». يومذاك يعرف هؤلاء مباهج العيد وحلاوة العيد وفرحته.)). وعند قراءتي لآخر كلمة في المقال، وجدت نفسي أردد «ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أصدق تعبير هذا المقال عن واقعنا الراهن في السودان»..!!

في مهاتفته لي مهنئا بالعيد، لم يشر أحمد عمر إلى حزنه الخاص ووجعة موت الفجاءة التي أطفأت بعضا من شعاع الروح، ولكن صوته انساب حزينا ومكلوما وهو يتحدث عن أطفال دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق الذين حرمتهم الحرب الأهلية من معرفة وإدراك ما هو الفرح وما هو العيد وما هي فرحة العيد..! وحتى في غير مناطق الحرب، الانهيار الاقتصادي وأجواء الأزمة اختطفا فرحة العيد من عيون الصغار، لتذبل عيون الكبار وتشحب، وهم لا يتذوقون إلا بعضا من حلاوة طعم اليقين والإيمان والروحانيات.

ثم ذكّرته بكلمات الأديب والقاص اليمني «لطفي الصراري» وهو يبدع في تصوير جحيم الحرب اليمنية وضغوطاتها اللامحدودة، فيقول: «لن آكل شيئا بعد اليوم، ولن أشرب شيئا. سئمت رائحة البارود في بخار القهوة، واختلاط الرصاص بحبات الأرز. سئمت الأنفاس الكريهة في أحاديث الحمقى عن الحرب كمخاض لازم لشيوع السلام، وسئمت اللعاب اللزج على ذقون تجار الحرب والمستثمرين في المشاعر الإنسانية»…. وختمنا المعايدة ونحن نردد معا «لا تدبيج لعبارات الحزن والعزاء، فكل نواح الآن عقيم، وفارغة هي همهمات الأسى الكسيح….،
فقط لا صوت يعلو فوق صوت العدالة والقصاص».

٭ نقلا عن القدس العربي

 

آراء