القاهرة : الثورة التي نصرت الجياع 4

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تأملات عابر سبيل




جلست أمام النافذة العريضة المطلة على ساحة المطار وأنا بمطعم  الوجباب السريعة أغالب موجات عاتية من الإرهاق و النعاس والرغبة الملحة للنوم بعد رحلة قصيرة للقاهرة كانت حافلة بالكثير .  موعد الآذان لصلاة المغرب حسب التوقيت المحلي لمدينة القاهرة  مر عليه ثلث الساعة بقليل،  قبل أن أقوم بتأدية الواجب الديني وأعود لأتكئ في مقعدي الوثير أراقب وحيدا  حركة صعود وهبوط الطائرات في إنتظار موعد سفريتي المتجة نحو الخرطوم
تناثرت أمام طاولتي كل صحف القاهرة الصادرة  صباح اليوم ، فأخذت سريعا أقلب النظر بين عناوينها العريضة لإستجلاء أي خبر مثير يضيف لمعرفتنا للبلاد ولتأملاتنا في الثورة  شيئا ما  .  كان آخر يومين  مرهقين للغاية وحافلين بالكثير من الزيارات و المناسبات والأحداث  الطيبة .  جمعت الصحف في حقيبتي الصغيرة مفضلا  أن أمتع بهما الفؤاد و الناظر في غرفتي بأمدرمان ، ثم أتجهت  بعدها لإحتساء كوب من الشاي الساخن  و تكملة تدوين  ماتبقى لي من مشوار التأملات في ثورة  25 يناير  ....  الثورة  التي  نصرت  الجياع
نعم الجياع يا صاحبي  ... فالمصريون فاض بهم الكيل فقرا و جورا وحسرة من سياسات نظام المخلوع مبارك، فكان لهم تلك الثورة العظيمة التي غيرت معالم كل المنطقة العربية ونصرت  معها كل جوعى الفقر و جوعى العدل وجوعى الديمقراطية  من أفراد الشعب المصري المقهور
تثاقلت يداي في كتابة الملاحظات والعناوين العريضة على أحداث اليومين الأخيرين في  مدونتي  مع صرخات الجسد وأوجاع السهر، وبدى لي  أن الذهن بات هو الآخر يناصر الجسد فراحت عني كثيرا من  قوى التركيز و التدقيق
عموما دع البداية  يا صاحبي تكون  بمناسبة  القصيدة الجميلة التي نظمتَ عقدها في مايو من العام 2004م بالقاهرة ، و كيف أنها أثارت  مرارا و تكرارا فضولي واستجمعت كل ثائرتي الأدبية وتملكت قدرا ليس بالهين من أعجابي ،  فدفعتني دفعا لزيارة ذلك المكان . ( كنسية و مدرسة القديس سانت أندروز للغات بالقاهرة )  ...
مهد هذه القصيدة الرائعة حيث كنت تدرس اللغة الأنجليزية بصحبة تلك الفتاة السودانية اليانعة التي ألهمتك كتابة أبيات من الشعر الرومانسي العذري رغم هجرك لهذا الدرب ردحا طويلا من الزمان ، وأعادت إلينا  ذكريات الصبا المترعات لهوا وإنتشاءا و أزدهارا  وسكبت فينا من معين الخواطر ومجريات الدهركؤوسا مترعة احتسيناها ثاملين بنهم فلم ندري أهي خمر معتقا أم خمارا !!؟    
... أزكى من المسك وأضوا ***  من سنا الاقمار والشمس
... ... قالت حين التقيتها ***    وجمع من الطلاب فى الدرس
..   قالت انى افتقدتك بصوت *** كلحن شجي من صدى الأمس
وأفضتها بلغة الفرنجة ***   بنطق سليم خال من اللبس
وقالتها فاشعلت حياة القلب ***  ان الحب يبدو من الهمس
وأحيت بها روحي وأني بدونها *** ميت يسعى خارج الرمس
مدرسة القديس سانت أندروز للغات بالقاهرة فقدت ياصاحبي كثيرا من البريق والتوهج  اللذان كانا يميزانها في فترة تردد طالبي اللجوء  السياسي و الإنساني إليها  من بني جلدتنا  لدول الغرب . أظن أن إنفصال جنوب السودان ثم انحراف بوصلة الإهتمام الدولي بقضية دارفور لصالح الثورات  العربية أو البرنامج النووي الأيراني أو حتى أزمة اليورو  قد كان له أبلغ الأثر في ما انتهى إليه حالها ، فلم يعد هناك  بعد اليوم طالبي لجوء يزدحمون في قاعات الدرس ولم تعد  أيضا  القاهرة مرتعا أو ملجأ  دافئا لهم 
أتيناها مساءا وأنا في طريقي لسور الأزبكية ، وكان لفيح البرد و برودة شتاء القاهرة القارس و ظلمة المكان وحركة الرياح الباردة الشديدة المتسارعة مدعاة لي للوقوف على الأطلال سريعا ثم المرور منها مرور الكرام دون تأخير
تضايقت من ذلك كثيرا وتبرمت بكلمات متقطعة لاتحكمها جمل مفيدة  لصديقنا المشترك راشد  الذي كان يرافقني وقتها ! أيعقل  أن  يحرمني هذا الطقس السيئ حلاوة الجلوس وطلاوة تأمل ذلك المكان  الذي مثل مصدر إلهام لك لمنشأ تلك القصيدة الرصينة التي ترنما بها سنوات عدة ، وأثارت  تفاصيلها  شجونا فينا وكأنها واحدة من إبداعات المسرح العالمي لشكسبير
بل هل يعقل أن يحرمني هذا الطقس السيئ متعة تذكر كلماتك و قصصك وطرائف  هذا المكان الذي  أزاح حملا ثقيلا و هموما عريضة للكثيرين من بني  جلدتنا بعد أن فروا من جحيم الوطن طلبا للعيش والحياة الكريمة في بلاد العجم !
ابتسمت لحظتها من سخرية الزمان و الأقدار ...  تأمل  يا صاحبي توارد الخواطر العجيب ! فما عكر صفوي لحظتها من رداءة للطقس شابه حالك مع من عكرا صفو لقائك مع صاحبة  الشأن بالأمس! ذلك الفضوليان اللذان أفتتنا مثلك بسحر جمالها  وقوامها الممشوق وعيونها  الفاتنة الساحره ولسانها الذرب وكان إنطباعك عنهما غير جيد ...... فأخذنا نردد معها أبيات شعرك  
وعكر صفو اللقاء فضوليان أولهما    ***  سيى الصيت من دناءة النفس
وأخر تآسى لجهله وهل       ***            يعقل ادعاء قرابة الشمس ؟
وحال الأخير دون وداعها وأختها  ***       نورا وداعا يليق فيانحسي
فاجعتى أن حان انقطاع        ***         لاسبوعين من واجب الدرس
وألاعجل يوم عشرين إننى   ***              أرانى حزينا مثقل النفس

*  *  *

اتجهت مجددا نحو كوب الشاي ولفت نظري أثناء ذلك  مجموعة شبابية من الفتيات والفتيان المصريين تعالت أصواتهم  وهم يتآنسون وبدى لي  أنهم في فرحة عارمة وحماس مثير  برحلتهم  الجماعية  ، رمقتهم للحظات  بغبطة وكان لسان حالهم أمامي يغني عن السؤال ! حالهم  يفتي و يشرح بجلاء كيف أضحت روح ونفسية  شباب مصر بعد الثورة ، مصر الحرية ، مصر الديمقراطية والعدل ، مصر دولة الجميع ...... !!؟
استدرت ثانية لمدونتي وأنا أقلب الذكريات الجميلة لهذه الرحلة السعيدة وأدون الأحداث حروفا و كلمات ،  أتفطر حزنا تارة لفراق هذا المكان وأبتسم  تارة أخرى كلما طافت بذهني مواقف و أيام هذا الأسبوع و شخوصه الذين جملوا و زينوا  لنا الأوقات بطيب صحبتهم و سمو أخلاقهم 
وسط القاهرة ... وتحديدا ميدان طلعت حرب  أخذني مجددا بعيدا من أجواء المطار والمطعم نحو صفحات مدونتي 
تذكرت كيف  هزم هذا المكان  مقولة ( القاهرة المدينة التي لاتنام ) ! نعم ياصاحبي فقد أصبحت القاهرة المدينة التي تنام ........  فما جرى على أيدي حبيب العدلي وزير داخلية مبارك و زمرته من قتل للثوار واستخدامهم لنزلاء السجون والبلطجية لكبح جموح الثورة وما ( معركة الجمل )  ببعيدة عن الأذهان  !  أغضب الشعب المصري بأسره عليهم ، وانسحب ذلك للأسف الشديد على جهاز الشرطة بأكمله  و الذي ظل منذ قيام الثورة وحتى اليوم  يعاني من ضياع الهيبة  وعدم القدرة على تنظيم وفرض النظام ومنع الجريمة في البلاد
من أجل هذا فالقاهرة أضحت ياصاحبي كأخواتها من العواصم والمدن العربية تنام ملء جفونها وتغلق أيضا محالها  الرئيسية  أبوابها  منذ الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل خوفا من البلطجية وعدم استتباب الأمن بشكل كامل ... أسأل الله أن يعيد للقاهرة تلك الأيام المشهودة ولليالي أنسها وفرحها سيرتها الأولى
تدري جيدا ماحل بنا في سوح الحزب وما انتهى إليه حالنا لتلك المشاركة الهزلية مع الإنقاذ ، والتي أججت بيننا روح الخلاف و شرارة الجفاء وشؤم الإنشقاقات  . ولا أظنك تجهل أيضا مدى الحسرة والإنكسار اللذان أصابا كل قواعد الحزب خصوصا شبابه وطلابه ، الذين كانوا وما زالوا يحلمون أن تنعش موجات الربيع العربي ذاكرة شعبنا الذي  كان سباقا قبل غيره لهذه الثورات . طلاب وشباب  ظلوا بنكران ذات عجيب يناضلون للتغيير الحق و العزة والكرامة المستحقة للشعب و التي لاسبيل لها من وسيلة في نظرهم  غير تغيير النظام الحاكم أو إسقاطه إن كان لهذا الأمل والطموح المشروع سبيلا 
من أجل هذا ولغيره  كانت ( القاهرة )  ياصاحبي فرصة ثمينة لي للترويح عن النفس، ومحاولة  جادة لتناسي مآلنا القبيح الذي أورثته لنا تقلبات السياسة وأهواء مشتغليها ، وكانت منحة من الله عز و جل في الخير أن ألتقي شقيقي وأستاذي في الحزب الحبيب حاتم السر علي
هي(  القاهرة ) بكل تجليات الماضي  بإرثها  النضالي الثوري الثر ياصاحبي  حينما جمعت يوما ما إخوة لنا بالتجمع الوطني الديمقراطي تحت شعار ( سلم تسلم ! ) . زمرة ظلت تطلب الديمقراطية والعدل وقيام  دولة السودانيين جميعا  بكافة نحلهم و أطيافهم  وأعراقهم وأديانهم  دون فرقة أو تمييز وقدمت في سبيل ذلك كل الغالي والنفيس ، وكنا  وقتها  نحن طلاب من خلفهم بالخارج  نساند القضية بكل ما أوتينا من قوة و نتتبع بشغف شديد تصريحات ناطقيه الرسميين الشقيق حاتم السر علي  والمناضل الجسور ياسر سعيد  عرمان في وسائل الأعلام المختلفة
جلستي مع الحبيب ( حاتم السر علي )   كان بهية و رائعة وحملت معها وجهان ... إجتماعي سرنا أنّا وجدنا فيه أخبارا طيبة، وآخر  سياسي  كان بدوره مثمرا لدرجة عالية شحذنا عبره بالصبر على المكاره والمصائب التي يمر بها حزبنا العظيم في هذه الفترة ، وتمسكنا من خلاله بحبال الصمود والعزيمة أملا أن تنجلي الغمة وينزاح الحمل الثقيل عن كاهلنا سريعا 
أثناء جلوسنا في المطعم أنا و أستاذي حاتم السر علي دخل علينا مصادفة القيادي الأسلامي بالمؤتمر الشعبي المحبوب عبدالسلام ،و ما أجملها من مصادفة عجيبة يا صاحبي .... استأذن المحبوب بطرافة أن يشاركنا المجلس إن لم يكن هنالك  مانع أو اجتماع حزبي ! وجدنا أنفسنا وبعد انضمام إخوة لنا آخرين منهم الأخ الفنان أبوذر عبدالباقي عضو فرقة عقد الجلاد السابق والأخوان راشد حسين و احمد سعد والقائد الميداني بقوات الحركة الشعبية مؤنس  نجلس في مائدة مستديرة تشمل كل أطياف النسيج السياسي السوداني  من إتحاديين وإسلاميين و شيوعيين ومستقلين فعمرَ بيننا الحديث  وطاف بنا شرقا و غربا وإن لم يخرج بطبيعة الحال من نطاق هموم الوطن و ثورة 25 من يناير و تداعياتها المحلية والخارجية . كان يوم رائع وأحسب أنه سيظل خالدا في نفسي وراسخ في الذهن أبد الزمان 
قام الأخ العزيز المحبوب عبدالسلام بعدها في نهايته  بدعوتنا واستضافتنا في شقته العامرة، وكانت لنا معه  أيضا صحبة  طيبة و جلسة خالدة أخرى مليئة بالوجبات الثقافية و السياسية و الفكرية الدسمة، صحبنا فيها وزان حضورها الكاتب الكبير والمثقف الضليع  فتحي الضو ، والذي يبدو أنه كان يعد العدة مع نسائم ثورة 25يناير لتدشين  كتابه  الجديد بمعرض القاهرة الدولي للكتاب 
هنا توقفت قليلا عن الكتابة مستديرا بوجهي ونظري  أراقب هبوط  طائرة في مدرج مطار  القاهرة القديم أثار ضجيجها  أنتباهي ! ........ أخذتني تلك اللحظة لتأمل أمر هذه المصادفات الجميلة التي حفلت بها رحلتي بالقاهرة  ، أشكر الله كثيرا  أن جمعتنا الأيام  بمفكرين وكتاب  في جلسات أنس ثقافي و فكري و سياسي  من أمثال هؤلاء . فرغم البون العريض يا صاحبي  الذي يفصلني عنهما في بحور السياسة والفكر  ألا أنني لا اخفي أبدا أنني أكن لهما  كل التجلة والتقديرو الأحترام  على ملكة الأبداع في القلم والأجادة الكاملة في البيان  اللتان يمتازان بها وجعلتني  أدمن  كتاباتهما  وأصطفي  أسلوبهما  دون الآخرين 
ما أروع هذه القاهرة التي تجمع الأضداد ! تناولت كوب الشاي مرة آخرى ، وأحتسيت منه شربة طويلة  ثم قلبت  بعدها الصفحة الأخيرة التي بدأتها بكتابة بعنوان عريض ..... ( صور أنسانية في الذاكرة)                                                                       
في زيارتي لمنطقة الأهرام تشبث بيدي طفل يبلغ من العمر حوالي عشر سنوات كان يحمل مجموعة من التحف والنماذج لأبي الهول و الأهرامات
أصر أن أشتري منه بعضا من بضاعته  وكان من سوء حظه أنه التقاني بعد  جولة طويلة في المكان، أخذ مني باعتها و مرشديها بسوء و رداءة أسلوبهم لجني البقاشيش  كل الجهد و العناء في  التحاور و الإستلطاف و الشراء ! شكرته  بلطف وقلت له  أنني لا أرغب في الشراء، ثم مازحته رغبة لتنفيره وإبعاده عن طريقي بالقول ( انني أيضا فقير مثلك ولا أملك قوت يومي ، حتى انني جائع ولم أتناول أي طعام  منذ الصباح ، هل لك من سبيل لأعطائي قروش لكي أفطر ؟)
كان يظهر جيدا على أسلوبي عدم الجدية و المزاح وأنا أوجه أليه الحديث ، إلا أنني فجأة وجدت الطفل يمد لي مبلغا من المال يطلب مني أن أشتري به طعام ! يا سبحن الله من طيب و كرم ومروءة هذا الطفل .... أخذت منه المبلغ لأختبره ظنا مني أنه غير جاد في عطيته ، فناولني المبلغ و أتجه بعيدا ليبيع بضاعته ...... !!!
لم أصدق أبدا ما جرى امامي و ذهلت للحظات من هول هذه الموقف الأنساني العظيم الذي ترائى أمامي من قبل هذا الطفل الطيب العظيم والذي لم يمنعه فقره من كرم و جود يديه .  ركضت سريعا إليه  وشكرته وأرجعت له المال، وذكرت له أنني  لم أكن أقصد أبدا كلامي بالمعنى الحرفي  ! إشتريت منه ما قدره الله واعتذرت له ثانية  ثم آنسته و قمت بوداعه . إبتسمت وضحكت  لتذكري هذا المشهد  وأنا في مطعم المطار  ولحظت أن بعض ممن كان  حولي  بدأ يلحظ إنفعالي العاطفي دون رفيق !   أظنهم شكوا في قواي العقلية  يا صاحبي ! إنه الوجه الاخر للإنسان المصري البسيط المكافح  الذي لم أتعرف عليه  إلا في ذلك اليوم  ...... إنه النقاء في السريرة و الكرم في قمة العوز و الضنك، ولا أظنك يا صاحبي قد حدثتني عنه يوما رغم طيلة فترة أقامتك بالقاهرة !!؟
قبل أن أسدل الستار ويجف قلمي عن تدوين التأملات يعزني جدا أن أروي لك حدوته مصرية انسانية  أخرى
مسرحها ميدان التحرير وبطلتها طفلة أخرى  أصغر كثيرا من طفل الهرم .... في ميدان الثوار الأحرار  أو ميدان التحرير الذي كان بوتقة الثورة الميمونة  كانت الأجواء  هنالك  في غاية الروعة والجمال ، و الكل هنا لا حديث له غير الثورة وتداعياتها و رمزية المكان الذي أسقط ديكتاتور مصر المتجبر . ( الثورة ملك مصر وملك جميع الشعب المصري ) هكذا كان يردد و يصيح  الجميع  في الميدان ....... الثوار الذين بدأوا منهمكين بمسيرات غاضبة تطالب  بتسليم السلطة للمدنيين من العسكر ! هي  معركة جديدة  مستحدثة  مع المجلس العسكري  كانوا في خضمها أيضا  منشغلين بالإعداد لإحتفالية الذكرى الأولى للثورة لتكون معبرة عن مطالب الشعب و الثوار  في أكمال اهدافهم  التي يقولون أنها لم تتحقق كلها 
البسطاء أيضا يا صاحبي  من الباعة المتجولين كانوا يرون أنهم شركاء أصيلين في الثورة بل هم حماتها و فرعها  الأصيل بحكم أنهم أكثر الفئات الأجتماعية  المتضررة  من الحكم السابق  .  كانوا  يبيعون أعلام الدول العربية التي انتظمتها موجة الربيع العربي وبعض المحتويات الصغيرة التي تعبر عن تمجيد ثورة 25 يناير ويصيحون ويدندنون بأغاني الثورة جزلين فرحين ...... كانت أجواء ياصاحبي يعجز القلم أن يصفها أو أن يبرع في نقلها و وصفها  للقارئ .... أسأل الله أن نكون موعودون يوما لنعيش في كنف  هذه الحريات و الديمقراطية ودولة العدل التي يستقيم فيها الحكم ويتساوى أمام القانون الوالي و الرعية ، و يعي فيها أي فرد من القوات النظامية أنه خادم للشعب وليس سلطان عليه ، وتصرف فيها الدولة من ميزانيتها للصحة و التعليم والخدمة الأجتماعية والسياحة أضعاف ماتنفقه في الدفاع والأمن
أعود لسرد مابدأت به حديثي ......  أمام المطعم الأمريكي ( كنتاكي ) المطل على ميدان التحرير وقفت ( نعمة الله ) الطفلة ذات الخمسة أو الستة ربيعا أمام طاولة خشبية متهالكة تبيع صور وسلاسل وأعلام الثورة . لفتتني كما لفتت غيري صغر سنها و تعديلها المتكرر لرباط رأسها كلما لعبت الرياح به وأزاحته من شعرها ! كانت  في غاية المرح وهي تتعامل مع جمهور الميدان الذين بدو هم أيضا معجبين و مندهشين في آن واحد  من صغر سنها وعظم التجربة القاسية التي حرمتها من طفولتها ورمتها وسط أقدار هذه الأجواء القاسية لتعين والدها في البيع 
دار بيني وبينها الحوار التالي ( سلام عليكم ......... وعليكم السلام يا بيه ! إسمك مين يا شاطرة؟ إسمي نعمة الله . فين بابا يا نعمة الله ؟ راح مشوار . إتفضل إشتري يا بيه عندنا كذا و كذا ! حلو يانعمة ... ليه مغطية راسك ومتحجبة وإنت لسه صغيرة  يا نعمة ! لازم يابيه مايصحش كدا أمشي وسط الناس وشعري فاتح !! أخرجت من جيبي مبلغ بسيط وقمت بمده لها ،  فهزت نعمة رأسها أمتعاضا وقالت : أنا ما باشحدش يا بيه - كدا عيب - لازم تشتري مني حاجة !!
سبحن الله رغم العوز و قلة الحيلة ألا أن الله أبدل هذه الطفلة بهما عزة نفس وكرامة وصلابة وإيمان ورضاء بالقضاء والقدر! لقد كان درسا بليغا مجانيا  ياصاحبي اسدته لي نعمة الله !!
طيب يا نعمة الله هاشتري بس هروح مشوار وأجي بس أنت شيلي الفلوس ! .....طيب يا بيه أنا منتظراك بس ماتتأخرش ! إلتفتت نعمة الله لبقية المشترين وأخذت تقفز بمرح شديد علامة للفرح كلما جنت مالا من بيع بضاعتها، و كانت تشرح لهم الأسعار بوجه مبتسم  وروح معنوية عالية وسط الجو البارد القارس وكأنها  غير عابئة بقسوة الطبيعة من حولها ، وأخذت أنا  بدوري أبتعد عنها متابعا حركتها حتى غابت عن ناظري !!؟
ظللت طيلة اليومين الاخيرين  أفكر في حال هذه المسكينة ... نعمة الله أصغر بائعة في ميدان التحرير ! هذه صورة كفاح  جديدة أسدتها لي هذه الرحلة ...  قررت إكراما للميدان ولعظمة هذه الطفلة  نعمة الله  أن يكون الميدان  وتكون نعمة الله آخر ما أفتقدهما  بعد مغادرتي القاهرة
عدت إليها قبل توجهي للمطار بساعة، فلم أجدها في نفس المكان ! سألت من كان مكانها من باعة الميدان فابتسم وقال لي ( مين مابعرفش نعمة الله، هي استبدلت مكان البيع لمسافة تبعد 300 متر فقط شرق الميدان وأشار لي للإتجاه ) ماشاء الله الكل هنا يعرف نعمة الله،  أصغر بائعة في ميدان التحرير و نوارة المكان . الجميع يعتبرها إبنته يرعاها ويحسنون معاملتها رغم أنها تمنحك إحساسا عظيما بتحملها للمسؤولية 
مشتاقين يا نعمة الله ... إبتسمت وردت ببراءة طفولية ( فلوسك محفوظة في الصون يابيه! ) يا سبحن الله من أمانة هذه الطفلة !!
عاوز اشرب معاك شاي وأودعك يا نعمة! فين رايح ؟ رايح السودان . آه أنا بعرف سودانيين وبعرف برضو صوماليين! بدت لي أنها لا تميز بين البلدين، غير أنها ألصقت  سواد بشرتنا عليهما ! عموما لايهم،  فهنالك من النخبة المصرية من لايعرف عن السودان غير عاصمته الخرطوم  ونهر النيل الذي يشق كامل مساحاته !!!
طلبت كوب  شاي فأصرت أن تحضره لي بنفسها فسألتها وين ساكنة ؟ في طنطا يابيه ! عجبت للجواب لأن طنطا بعيدة عن العاصمة المصرية وهي بمثابة السفر ، ومن الصعب بل من المستحيل عليها ولوالدها  الرجوع  يوميا والعودة للميدان للبيع !!
طيب وين بتنامي يانعمة؟ هنا مع بابا ! فين هنا ؟ أشارت لي أسفل الطاولة المغطاة من كل الجوانب ! هنا تحت الطاولة ؟  آيوة يا بيه  طيب مش برد عليك ؟ لا نحن مدفيين كويس وبنغطي الأرض  بالبساط  دا
سبحن الله ما أقساها من حياة لهذه الطفلة المجاهدة وما أصلب عزيمتهاوصبرها عليها  !!
أخرجت من جيبي مبلغ آخر، فضحكت هذه المرة وقالت : تاني يابيه طيب ومبلغ امبارح ؟ لأ يا نعمة الله دا عشان  اشتري بيه اليوم ماتخلبطيش الحساب ! . بدى لي أنها أدركت تحايلي فابتسمت برضا ...  طيب يا بيه  عاوز تشتري إيه ! أكملت كوب الشاي ووقفت قائلا لها عاوز أودعك بس يانعمة 
هل لك دعوة لأبيك يا نعمة؟ آه يابيه ... آيه بتقولي ليه يا نعمة ؟ بقوله كل يوم ( الله يحنن قلبك يا بابا علينا و يرزقك بعددنا )  هنا لم تتمالكني دموعي فحاولت جاهدا أن أخفيها عنها فأستدرت منها مخفيا وجهي ! ما أبر هذه الطفلة بوالدها ( خلاص ماتنسينا من دعوتك يا نعمة الله .... أدعيلك بأيه ؟ أي حاجة يا نعمة الله ...... مش عارفة ؟ أي حاجة كل منك جميل يا نعمة الله ! خلاص طيب يا بيه) 
يا الله سلام عليكم يا نعمة الله أشوف وشك بخير ! هتجي بكره عشان تشتري مني ؟ أن شاء الله يانعمة  ...... خلاص أنا هحفظ لك فلوسك يابيه  .  لو ماجيت يا نعمة انا عايزك تأخديها ليك ..... صمتت لثواني و كانت علامات عدم الرضا  ظاهرة عليها .. عشاني يا نعمة الله ! خلاص يابيه!!
هذه هي اجمل وأبلغ الصور الإنسانية و كانت أعظم ماوجدته في ميدان التحرير الذي يعج بالكثير والكثير من القصص الإنسانية التي تشابه قصة نعمة الله و يصعب بالكاد  حصرها وسردها  في  مساحة هذا المقال  ...... ولكن تأكد لي يا صاحبي أنه يكفي نعمة الله  ولكل جيل مصر القادم  أنهم  سينشأون في وطن بدأ يسترد عافيته بعد سقوط الديكتاتور و سقوط بطانته الفاسدة التي سرقت حق نعمة الله في طفولتها المنتهكة وحقوق كل الشعب المصري ، وفعلا إذا الشعب أراد الحياة يوما ، فلابد أن يستجيب له  القدر
النداء الأخير للرحلة المتجهة للخرطوم
أغلقت مدونتي وجمعت حاجياتي وأنهيت كتابة كل الملاحظات الأخيرة وبقية تأملاتي في القاهرة وفي الثورة الميمونة التي نصرت الجياع.
أعلم جيدا أنها لم تشمل كل المتغيرات التي عمرت مصر بعد الثورة ، فهي  تبقى غيض من فيض لكنها للحقيقة معظم ما استطاعت أن ترصده حواسنا في أسبوع زيارتنا القصيرة  .....
أسندت ظهري في كرسي الطائرة وأسلمنا الجسد لنوبة نوم عميق  !!!
أخي القارئ ..... صدقا  لابد من الديمقراطية  والعدل  والمساوة  والجزاء  وإن طال السفر 



abdalla al-bukhari al-gaali [teetman3@hotmail.com]

 

آراء