القاهرة … مؤتمر حوار سياسي أم مسار تفاوض عسكري سوداني؟
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
14 June, 2024
14 June, 2024
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
أعلنت جمهورية مصر العربية استضافتها مؤتمراً للقوى السياسية المدنية السودانية نهاية يونيو 2024 في إطار حرصها على بذل كافة الجهود الممكنة لمساعدة السودان على تجاوز الأزمة المُهلكة التي يمر بها، ومعالجة تداعياتها الخطيرة على الشعب السوداني وأمن واستقرار المنطقة، سيما دول جوار السودان. وذكرت مصر أنها ستستضيف المؤتمر الذي يضم كافة القوى السياسية المدنية السودانية، بحضور الشركاء الإقليميين والدوليين المعنيين، بهدف التوصل إلى توافق بين مختلف القوى السياسية المدنية السودانية حول سبل بناء السلام الشامل والدائم في السودان عبر حوار وطني. وتأتي دعوة مصر لهذا المؤتمر في إطار احترام سيادة السودان ووحدة وسلامة أراضيه، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها.
ومما لا شك فيه أن مصر تحظى دائماً باحترام حقيق ومستحق في كافة الأصعدة السودانية والإقليمية والدولية لدورها المشهود في تحقيق الأمن والاستقرار في دول المنطقة، خاصة في السودان الذي تربطه بمصر علاقات أزلية تمتد جذورها لآلاف السنين. وبنفس القدر من التبجيل والتقدير تحتل المملكة العربية السعودية منزلة رفيعة ومرموقة على كافة المستويات السودانية والإقليمية والدولية لدورها الوازن في السعي لإنهاء الحرب المستعرة في السودان بين الجيش والدعم السريع عبر منبر جدة الذي ظلت ترعاه بصبر وحكمة بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تميَّزت جهود مصر والسعودية المتواصلة لاحتواء الفاقرة الأمنية والإنسانية والسياسية في السودان بحرصهما الصادق على إشراك الكيانات الثنائية ومتعددة الأطراف الإقليمية والدولية في كافة المبادرات المطروحة لإكساب مخرجاتها الضمانات والشرعية اللازمة.
وعلى الرغم من هذه الجهود الحثيثة للدولتين الشقيقتين فقد ظلت الحرب في السودان تزداد ضراوة مخلفة فاجعة إنسانية وكارثة اقتصادية غير مسبوقة. وساهم في هذه الحالة المأساوية للسودانيين في مناطق الإحتراب والنزوح واللجوء رفض قيادة الجيش لمبادرات الإيقاد والاتحاد الإفريقي، بل عدم قبولها لمواصلة الحوار عبر منبر جدة بحجة نكوص الدعم السريع عن تنفيذ اتفاق مسبق بإخلاء منازل المواطنين والأعيان المدنية. ومن ثَمَّ أخذت قيادة الجيش تتبضع بين مبادرات الإيقاد، والاتحاد الإفريقي، ودول الجوار السوداني، والبحرين، وليبيا وتركيا، والتي يعوِّل جميعها على التكامل مع منبر جدة الذي ترفض قيادة الجيش العودة إليه إلا بشروط أقرب للتعجيزية بالنسبة للدعم السريع. وحتى إذا نجح الوسطاء في إرغام قيادة الجيش للعودة لمسار جدة دون شروط، فإن فرص تحقيق اختراق عبر هذا المسار لا تزال ضئيلة نظراً لافتقاد منبر جدة لآلية عسكرية ميدانية تجبر الجيش والدعم السريع على تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه دون مماطلة.
ومن واقع سد الأفق أمام منبر جدة بواسطة قيادة الجيش رغم المساعي الأمريكية والسعودية الحثيثة لاستئنافه، وفي ظل رفض الجيش لمبادرات الاتحاد الإفريقي والإيقاد التي يعطي جميعها الأسبقية للتفاوض بين العسكريين المتقاتلين، فقد أصبحت الساحة خالية من أي مبادرة ذات مصداقية لوقف إطلاق النار وتحقيق السلام الذي يمثل الشرط الضروري لنجاح أي جهد لاحق لرأب الصدع بين الفرقاء السياسيين "تقدم" و"تنسيقية القوى الوطنية". ذلك أن الأولوية الملحة في الراهن الأمني والإنساني المفجع في السودان ليست الحوار بين السياسيين بل التفاوض بين المتحاربين لوقف إطلاق النار الدائم، وإخراج قوات طرفي القتال إلى مراكز بعيدة من المناطق السكنية، ونشر قوات إقليمية/دولية للفصل بين المتقاتلين، وحراسة المؤسسات الإستراتيجية، ومعالجة الأوضاع الإنسانية السيئة الناجمة عن الحرب، وإشراك قوات الشرطة والأمن في عملية تأمين المرافق العامة. ثم أخيراً وليس آخراً يمكن البدء في عملية سياسية لتسوية الأزمة السودانية في إطار فترة انتقالية محددة المراحل والمهام المسندة.
ومن الضروري التأكيد على أسبقية وقف إطلاق النار ونشر السلام والمحافظة عليه قبل القفز مباشرة للعملية السياسية التي تفتقد الطائل إذا لم تصمت البنادق بين المتقاتلين (Belligerents) بشكل مُستدام. وهذا يستدعي حصر التفاوض في المرحلة الحالية في طرفي الاقتتال، دون سواهما. وعطفاً على التجارب الدولية الناجحة في الخروج من الصراع فإن التسرُّع في إقحام تعقيدات العملية السياسية أثناء وقبل وقف الإحتراب يشكل فائضاً عن الحاجة (Superfluous)، وربما يقود لتوسيع نطاق الصراع إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. ولا يخفى أن التشظي المؤسف بين الكتلتين السياسيتين الكبيرتين (كتلة تقدم وكتلة القوى الوطنية)، والممانعة والمشاكسة حتى داخل كلتا الكتلتين، يجعل من إعطاء الأولوية لمعالجة هذا الواقع التراجيدي بَعْزَقةً لجهد إقليمي ودولي شحيح أحرى به حَمْل طرفي الإحتراب للتفاوض لإنهاء الحرب وإنقاذ حياة مئات الآلاف وإيواء ملايين النازحين واللاجئين الذين تبطش بهم إطالة وتوسيع دائرة الاقتتال.
ويؤكد رجاحة هذا النسق التراتبي بأسبقية التفاوض العسكري قبل الحوار السياسي تلك الوساطة المحمودة التي تقودها مصر لإنهاء حرب غزة بحصر التفاوض في مرحلة احتدام القتال بين حماس وإسرائيل فقط لكونهما طرفي الحرب. ويجري هذا التفاوض برعاية مصر باستبعاد تام لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تَوافَق 14 فصيلاً فلسطينياً في الجزائر في أكتوبر 2022 على أنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وبرغم ذلك الوزن السياسي فقد تم استبعاد منظمة التحرير من التفاوض في هذه المرحلة لأنها ليست طرفاً في الحرب الدائرة. وذلك فضلاً عن وعي مصر بأهمية تحاشي الجدل المصاحب لتباين الرؤى الفلسطينية حول "اليوم التالي" التي ربما يقحمها إشراك الفرقاء السياسيين الفلسطينيين في مرحلة التفاوض لوقف إطلاق النار في غزة.
وعليه فإن أي جهد للتصدي للضرَّاء الإنسانية التي أطبقت على كافة السودانيين ينبغي أن يرتكز على مرحلتين متتابعتين غير متزامنتين لا مجال للتداخل بينهما. إذ تنطوي المرحلة الأولى على التفاوض الحصري بين العسكريين لوقف إطلاق النار الإنساني بمراقبة وحماية عسكرية إقليمية/دولية. ويشتمل التفاوض في هذه المرحلة أيضاً فتح الممرات الانسانية الآمنة لإيصال الإغاثة والمساعدات الإنسانية، ووقف انتهاكات حقوق الإنسان وحماية المدنيين، وعودة النازحين والراغبين من اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، وعودة النشاط الاقتصادي والاجتماعي في الريف والحضر وحمايته. وتقتضي الضرورة حصر هذه المرحلة فقط في طرفي الإحتراب الجيش والدعم السريع، والوسطاء الإقليميين والدوليين، بحيث يلزم استبعاد حواضنهما السياسية من المدنيين بحصر دورهم في مجرد المراقبة عن بُعد. ذلك أن إقحام السياسيين في تفاوض المرحلة العسكرية الأولى يفسدها ويحبط تحقيق مراميها باختزال قضاياها في جدال عقيم بين السياسيين الداعمين لطرفي الاقتتال تستضيفه تعسيراً وليس تيسيراً القنوات الفضائية الرائجة.
أما المرحلة الثانية لإنهاء الإحتراب فتتطلب تهيئة فضاء آمن للعمل السياسي يمهد لاستعادة ألق وبريق شعارات ثورة ديسمبر المغدورة بمشاركة واسعة من القوى الحية المدنية سيما النساء والشباب. ويلعب الحوار بين القوى المدنية الديمقراطية الداعية لوقف الحرب وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي/تقدم، وقوى الحرية والتغيير/تنسيقية القوى الوطنية الدور الوازن في المرحلة الثانية، شريطة استيعابهم لمفهوم التسلسل والتدرج في معالجة التناقضات الجوهرية مع مناصري النظام السابق، والتناقضات الثانوية بين مناصري أهداف ثورة ديسمبر. ويعني هذا حصر دور الجيش والدعم السريع في حوار هذه المرحلة الثانية في المراقبة عن بُعد بحيث يؤدي هذا الدور الرقابي لانسحابهما التام من الساحة السياسية بعد الاندماج في جيش مهني قومي واحد وموحد، قانع بدوره النمطي المتمثل في حماية الحدود وحفظ الأمن في إطار المرجعية الدستورية، وتأمين التحول المدني الديمقراطي.
ومن ثَمَّ فإن أي جهد ذي مصداقية لإنهاء الحرب في السودان يستدعي نأي السياسيين عن تفاوض المرحلة الأولى بين العسكريين والاكتفاء بمراقبتها عن بُعد، كما يتطلب استبعاد العسكريين عن حوار المرحلة الثانية بين السياسيين والاكتفاء بتأمينها وحمايتها. إذ أن أي مشاركة من الجانبين في مرحلة الآخر ستفسد المرحلتين معاً وتقود لتأجيج النزاع المسلح.
وعلى قدر كبير من الأهمية تجب الإشارة إلى أن مساهمة مصر في وقف إطلاق النار في السودان لا تمثل إضافة مبادرة جديدة للمبادرات العديدة السابقة، بل هي استئناف لمبادرة قمة دول الجوار التي استضافتها القاهرة في يوليو 2023 والتي ركَّزت على إعطاء الأسبقية لوقف إطلاق النار. إذ اشتمل الإعلان الختامي لقمة جوار السودان على 8 بنود أولها "الإعراب عن القلق العميق إزاء استمرار العمليات العسكرية والتدهور الحاد على الوضع الأمني والإنساني في السودان، ومناشدة الأطراف المتحاربة على وقف التصعيد والالتزام بالوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار، وإنهاء الحرب وتجنب إزهاق أرواح السودانيين وإتلاف الممتلكات". كما تم في هذه القمة الاتفاق على تشكيل آلية وزارية لوضع خطة عمل تنفيذية تتضمن وضع حلول عملية وقابلة للتنفيذ لوقف الاقتتال والتوصل إلى حل شامل للأزمة السودانية عبر التواصل المباشر مع الأطراف السودانية المختلفة في تكاملها مع الآليات القائمة بما فيها الإيقاد والاتحاد الإفريقي. وعليه فقد التأم الاجتماع الأول لوزراء خارجية دول جوار السودان في إنجامينا، تشاد في أغسطس 2023 وأكد على أهمية الاتصالات المباشرة والمستمرة مع المتحاربين من أجل تحديد محددات وقف دائم لإطلاق النار، ووضع حد لإزهاق أرواح الأبرياء وتدمير البنى التحتية. وقد وضعت لجنة وزراء خارجية دول جوار السودان خطة عمل للعرض على رؤساء الدول والحكومات لاعتمادها. وتنقسم خطة العمل إلى 3 أجزاء تشمل أولاً الحصول على وقف نهائي لإطلاق النار، ثم يعقب ذلك تنظيم حوار شامل بين الأطراف السودانية، وإدارة القضايا الإنسانية. وقد أمَّن الاجتماع الثاني لوزراء خارجية دول جوار السودان المنعقد بنيويورك في سبتمبر 2023 على حصر أولويات التحرك خلال المرحلة القادمة في التدابير عملية للتوصل لوقف إطلاق نار مُستدام في السودان.
وفي ظل الاحتباس السياسي الذي خيَّم على السودان وساهم جوهرياً في إشعال حرب أبريل 2023، لا جدال حول الأهمية الكبيرة لمؤتمر تستضيفه القاهرة لإطلاق حوار بناء بين القوى السياسية في السودان التي ساهم تشظيها في انسداد السياسي والعسكري في السودان. ذلك أن مؤتمر القاهرة، الذي يَحْسُن أن يعقب التفاوض بين العسكريين لوقف إطلاق النار، يمثل سانحة طال انتظارها لمساعدة مصر في تيسير إيجاد الحد الأدنى من القواسم المشتركة بين قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي (تقدم) وقوى الحرية والتغيير التكتل الديمقراطي (تنسيقية القوى الوطنية) باعتبارهما الكيانين اللذين ساهم غالبيتهما في نجاح ثورة ديسمبر في إنهاء النظام البائد. بيد أن هذين الكيانين أنهكا بعضهما البعض بالانخراط في تناقضات ثانوية باعدت بينهما وبين تحقيق أهداف ثورة ديسمبر ضد النظام العسكري السابق.
لقد ظلت التناقضات في السياسة السودانية خلال الفترة الانتقالية مدفوعة بالطبيعة المعقدة والديناميكية للعلاقات الاجتماعية والأيديولوجيات في السعي للسيطرة على السلطة. وتجلَّت هذه التناقضات الجوهرية والثانوية بين اللاعبين الرئيسيين بطرق مختلفة، مما أدى إلى التوترات والصراعات المسلحة والإحتراب. وتضمنت التناقضات الرئيسية خلال الانتقال السابق عداءات أساسية بين الأيديولوجيات والكيانات السياسية المختلفة. إذ كشفت ثورة ديسمبر أن التناقض بين النظام السابق (الإسلاميين) وعامة الشعب السوداني هو التناقض الأبرز والمهيمن. حيث فاقم هذا التناقض الجوهري تهميش النظام السابق لمعارضيه من غالبية الشعب عبر "التمكين" الذي أفرز فساداً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً فاسقاً، شهدت به قيادة "الإسلاميين" التاريخية ممثلة في أمينهم العام، وقيادات الحركة الإسلامية أنفسهم على مرأي مشاهدي القنوات الفضائية الرائجة. وبالتوازي مع ذلك، فإن التناقض بين القيم الديمقراطية المتمثلة في المساواة الاجتماعية والسياسية التي طرحتها ثورة ديسمبر، وواقع عدم المساواة المفضوح الذي يتبناه مناصرو النظام (الإسلامي) كان ولا يزال تناقضاً جوهرياً لدوره في تقويض شرعية المؤسسات الديمقراطية وبالتالي إشعال السخط السياسي الذي أدى لإجهاز الشعب على نظام الإنقاذ ورفضه القاطع لأي محاولة لإعادته.
وفي المقابل، كانت التناقضات الثانوية بين قوى ثورة ديسمبر خلال الفترة الانتقالية بداية نسبية وعابرة، انطوت على اعتبارات شخصية كمية، ولكنها في غياب الحنكة السياسية تحولت إلى عداء نوعي بين فصائل الثورة المتمثلة في قوى الحرية والتغيير. وقد أدى سوء التقدير في تسلسل معالجة التناقضات الجوهرية والثانوية إلى عرقلة تحقيق أهداف ثورة ديسمبر. وكان هذا السلوك هو المسؤول الأول عن تورُّم مؤيدي النظام السابق، الذين لعبوا دوراً بارزاً في إشعال الحرب وتأجيجها. ولا يخفى أن العامل الأبرز وراء نجاح ثورة ديسمبر في إسقاط النظام (الإسلامي) كان إدراك مناوئي سلطة الإنقاذ لتقديم التناقض الأساسي مع النظام الشمولي الفاسد على التناقضات الهامشية بين معارضي ذلك النظام الشمولي. وبالمثل، كان العامل الوازن وراء تعثر الفترة الانتقالية السابقة هو استمرار قوى الحرية والتغيير في الإلتهاء بالتناقض الثانوي بين قوى ثورة ديسمبر وإغفال تناقضها الجوهري مع النظام البائد. فبدلاً عن تفعيل وتعظيم التناقض الجوهري العدائي مع مناصري النظام السابق الذي هبَّ كل الشعب السوداني لإسقاطه، حوَّلت قيادة قوى الحرية والتغيير تناقضها الفرعي غير العدائي مع حلفائها المدنيين والعسكريين إلى تناقض جوهري وعدائي، مما سمح للدولة العميقة المترنحة السعي لاستعادة حكمها المنزوع والانقضاض على مكتسبات ثورة ديسمبر.
إن فك شفرة الحرب المتسعة رقعتها في ولايات السودان يتطلب إيلاء مصر الشقيقة الأهمية اللازمة لتوسيع مسار القاهرة (دول جوار السودان) ليشمل كيانات متعددة الأطراف مثل الاتحاد الإفريقي والإيقاد والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة لتيسير التفاوض والحوار المستنير حول مدة الفترة الانتقالية والتسلسل والتدرج في تنفيذ مهامها المسندة بدءاً بمفاوضات وقف إطلاق النار بين المتحاربين، ووصولاً للحوار بين السياسيين حول التحول المدني الديمقراطي. ذلك أن ضخامة المهام المنوطة بهذه الفترة، وعلى رأسها تنفيذ العقد الاجتماعي بين سلطة الانتقال والشعب السوداني، تتطلب فترة انتقالية لا تقل مدتها عن خمس سنوات لإتاحة الفرصة للتدرج والتسلسل في تنفيذ مراحلها المتعاقبة الثلاث بواسطة العسكريين والمدنيين كل في مجاله ومرحلته، برغم الترابط المنهجي والتداخل الزمني بين تلك المراحل. وتنحصر هذه المراحل المتتابعة فيما يلي:
1. التدخل المباشر لقوات إقليمية/دولية لبسط الأمن (12 شهراً): وتنطوي هذه المرحلة على أولويات فورية (لا يمكن تحقيقها عبر منبر جدة) تشمل نشر قوات إقليمية/دولية لحفظ السلام ونزع السلاح، وتسريح المقاتلين وإعادة إدماجهم، وإرساء العدالة الانتقالية، وإضفاء الطابع المهني على الجيش والشرطة، ووضع خطة شاملة لدمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة في الجيش السوداني الواحد الموحد، وإعادة تنظيم وبناء قدرات قوات الشرطة بمراعاة التوازن الإقليمي. كما تشمل الأولويات الفورية أيضاً السياسات الإنسانية المتمثلة في عودة وإعادة توطين اللاجئين والنازحين، وتوفير الأمن الغذائي، وإعادة توطين المقاتلين.
2. ترسيخ التحول والانتقال (12-36 شهراً): وتشمل هذه المرحلة أولويات قصيرة الأجل تتضمن الاستمرار في السياسات الأمنية وإصلاح قطاع الأمن (الجيش والشرطة والنظام القضائي والسجون)، وإزالة مخلفات الحرب. ومواصلة إعادة وتوطين اللاجئين والنازحين داخلياً، وتقديم الخدمات الأساسية، وتنفيذ الإصلاحات السياسية، ومواصلة الاستعداد لإجراء الانتخابات، ومكافحة الفساد، وإصلاح الخدمة المدنية، وعقد مؤتمر نظام الحكم لإصلاح اللامركزية والفدرالية المالية. وفي المجال الاقتصادي مواصلة الإصلاحات المالية وبرامج تعبئة الإيرادات، وتنفيذ الانفتاح التدريجي للاقتصاد بمساعدة المؤسسات الاقتصادية الإقليمية والدولية، وخفض عجز الميزانية، وتوسيع البنية التحتية التنموية والخدمات الأساسية.
3. تمكين القدرات المحلية لتحقيق الاستدامة (36-60 شهراً): وتنطوي هذه المرحلة على أولويات متوسطة المدى تشمل تراجع الانفاق العسكري والأمني، وتمكين القوات الأمنية الوطنية من شغل محل القوات الإقليمية/الدولية، ومواصلة إصلاح القطاع الأمني، ومتابعة جهود مكافحة الفساد، والاستمرار في إصلاح الخدمة المدنية. وفي الإطار الاقتصادي مواصلة الإصلاحات الاقتصادية، وزيادة استثمارات القطاع الخاص الوطني والأجنبي، والاستعداد لاستكمال عضوية منظمة التجارة العالمية ومنظمات التجارة الحرة، وتهيئة السودان لانطلاق التنمية المستدامة بعد استكمال استحقاقات الفترة الانتقالية في تحقيق السلام والانتعاش الاقتصادي، وإجراء الانتخابات الحرة النزيهة واستكمال التحول المدني الديمقراطي.
وحتى تستعيد ثورة ديسمبر زخمها المسلوب ومسارها القاصد نحو تحقيق "الحرية والسلام والعدالة" يجب الإقرار بأن المسؤولية التاريخية لانحراف الثورة عن استكمال أهدافها تقع على عاتق جميع اللاعبين الرئيسين خلال الفترة الانتقالية السابقة، بما في ذلك الجيش المُسيَّس، والدعم السريع المُخترَق، والحركات المسلحة المتأرجحة والقاصية عن قواعدها، والنسخ المنسلخة والنموذج المتحور من قوى الحرية والتغيير، وتجمع المهنيين المتشظي، ولجان المقاومة المتزمتة. ويظل فهم "التدرج والتسلسل" في معالجة التناقضات الجوهرية مع النظام السابق والتناقضات الثانوية بين فصائل الثورة هو العلامة الفارقة بين السياسي الحصيف، ومن هو دون ذلك. وتبقى السياسة هي مهارة تحقيق المُمكن بأقل الخسائر. ويا لها من خسائر فادحة تكبدها السودان بسبب قصور جميع اللاعبين الرئيسيين خلال الفترة الانتقالية عن استيعاب الأسبقيات والتسلسل في معالجة التناقضات "الجوهرية" و"الثانوية" بالانخراط في حلبة عراك في غير معترك بين المدنيين والعسكريين وبين العسكريين والعسكريين.
ويا له من أمل ومُبتَغى في نجاح جهود مصر الشقيقة لتيسير تفاوض عسكري يحقق وقف دائم لإطلاق النار وحقن الدماء السودانية، توطئة لحوار سياسي لاحق يستلهم مقاصد ثورة ديسمبر الشعبية ليفرز سوداناً مشرئباً للاندماج في مجتمعه الإقليمي والدولي في إطار احترام سيادته ووحدة أراضيه وتحقيق المنافع المشروعة له ولغيره.
melshibly@hotmail.com
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
أعلنت جمهورية مصر العربية استضافتها مؤتمراً للقوى السياسية المدنية السودانية نهاية يونيو 2024 في إطار حرصها على بذل كافة الجهود الممكنة لمساعدة السودان على تجاوز الأزمة المُهلكة التي يمر بها، ومعالجة تداعياتها الخطيرة على الشعب السوداني وأمن واستقرار المنطقة، سيما دول جوار السودان. وذكرت مصر أنها ستستضيف المؤتمر الذي يضم كافة القوى السياسية المدنية السودانية، بحضور الشركاء الإقليميين والدوليين المعنيين، بهدف التوصل إلى توافق بين مختلف القوى السياسية المدنية السودانية حول سبل بناء السلام الشامل والدائم في السودان عبر حوار وطني. وتأتي دعوة مصر لهذا المؤتمر في إطار احترام سيادة السودان ووحدة وسلامة أراضيه، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها.
ومما لا شك فيه أن مصر تحظى دائماً باحترام حقيق ومستحق في كافة الأصعدة السودانية والإقليمية والدولية لدورها المشهود في تحقيق الأمن والاستقرار في دول المنطقة، خاصة في السودان الذي تربطه بمصر علاقات أزلية تمتد جذورها لآلاف السنين. وبنفس القدر من التبجيل والتقدير تحتل المملكة العربية السعودية منزلة رفيعة ومرموقة على كافة المستويات السودانية والإقليمية والدولية لدورها الوازن في السعي لإنهاء الحرب المستعرة في السودان بين الجيش والدعم السريع عبر منبر جدة الذي ظلت ترعاه بصبر وحكمة بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تميَّزت جهود مصر والسعودية المتواصلة لاحتواء الفاقرة الأمنية والإنسانية والسياسية في السودان بحرصهما الصادق على إشراك الكيانات الثنائية ومتعددة الأطراف الإقليمية والدولية في كافة المبادرات المطروحة لإكساب مخرجاتها الضمانات والشرعية اللازمة.
وعلى الرغم من هذه الجهود الحثيثة للدولتين الشقيقتين فقد ظلت الحرب في السودان تزداد ضراوة مخلفة فاجعة إنسانية وكارثة اقتصادية غير مسبوقة. وساهم في هذه الحالة المأساوية للسودانيين في مناطق الإحتراب والنزوح واللجوء رفض قيادة الجيش لمبادرات الإيقاد والاتحاد الإفريقي، بل عدم قبولها لمواصلة الحوار عبر منبر جدة بحجة نكوص الدعم السريع عن تنفيذ اتفاق مسبق بإخلاء منازل المواطنين والأعيان المدنية. ومن ثَمَّ أخذت قيادة الجيش تتبضع بين مبادرات الإيقاد، والاتحاد الإفريقي، ودول الجوار السوداني، والبحرين، وليبيا وتركيا، والتي يعوِّل جميعها على التكامل مع منبر جدة الذي ترفض قيادة الجيش العودة إليه إلا بشروط أقرب للتعجيزية بالنسبة للدعم السريع. وحتى إذا نجح الوسطاء في إرغام قيادة الجيش للعودة لمسار جدة دون شروط، فإن فرص تحقيق اختراق عبر هذا المسار لا تزال ضئيلة نظراً لافتقاد منبر جدة لآلية عسكرية ميدانية تجبر الجيش والدعم السريع على تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه دون مماطلة.
ومن واقع سد الأفق أمام منبر جدة بواسطة قيادة الجيش رغم المساعي الأمريكية والسعودية الحثيثة لاستئنافه، وفي ظل رفض الجيش لمبادرات الاتحاد الإفريقي والإيقاد التي يعطي جميعها الأسبقية للتفاوض بين العسكريين المتقاتلين، فقد أصبحت الساحة خالية من أي مبادرة ذات مصداقية لوقف إطلاق النار وتحقيق السلام الذي يمثل الشرط الضروري لنجاح أي جهد لاحق لرأب الصدع بين الفرقاء السياسيين "تقدم" و"تنسيقية القوى الوطنية". ذلك أن الأولوية الملحة في الراهن الأمني والإنساني المفجع في السودان ليست الحوار بين السياسيين بل التفاوض بين المتحاربين لوقف إطلاق النار الدائم، وإخراج قوات طرفي القتال إلى مراكز بعيدة من المناطق السكنية، ونشر قوات إقليمية/دولية للفصل بين المتقاتلين، وحراسة المؤسسات الإستراتيجية، ومعالجة الأوضاع الإنسانية السيئة الناجمة عن الحرب، وإشراك قوات الشرطة والأمن في عملية تأمين المرافق العامة. ثم أخيراً وليس آخراً يمكن البدء في عملية سياسية لتسوية الأزمة السودانية في إطار فترة انتقالية محددة المراحل والمهام المسندة.
ومن الضروري التأكيد على أسبقية وقف إطلاق النار ونشر السلام والمحافظة عليه قبل القفز مباشرة للعملية السياسية التي تفتقد الطائل إذا لم تصمت البنادق بين المتقاتلين (Belligerents) بشكل مُستدام. وهذا يستدعي حصر التفاوض في المرحلة الحالية في طرفي الاقتتال، دون سواهما. وعطفاً على التجارب الدولية الناجحة في الخروج من الصراع فإن التسرُّع في إقحام تعقيدات العملية السياسية أثناء وقبل وقف الإحتراب يشكل فائضاً عن الحاجة (Superfluous)، وربما يقود لتوسيع نطاق الصراع إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. ولا يخفى أن التشظي المؤسف بين الكتلتين السياسيتين الكبيرتين (كتلة تقدم وكتلة القوى الوطنية)، والممانعة والمشاكسة حتى داخل كلتا الكتلتين، يجعل من إعطاء الأولوية لمعالجة هذا الواقع التراجيدي بَعْزَقةً لجهد إقليمي ودولي شحيح أحرى به حَمْل طرفي الإحتراب للتفاوض لإنهاء الحرب وإنقاذ حياة مئات الآلاف وإيواء ملايين النازحين واللاجئين الذين تبطش بهم إطالة وتوسيع دائرة الاقتتال.
ويؤكد رجاحة هذا النسق التراتبي بأسبقية التفاوض العسكري قبل الحوار السياسي تلك الوساطة المحمودة التي تقودها مصر لإنهاء حرب غزة بحصر التفاوض في مرحلة احتدام القتال بين حماس وإسرائيل فقط لكونهما طرفي الحرب. ويجري هذا التفاوض برعاية مصر باستبعاد تام لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تَوافَق 14 فصيلاً فلسطينياً في الجزائر في أكتوبر 2022 على أنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وبرغم ذلك الوزن السياسي فقد تم استبعاد منظمة التحرير من التفاوض في هذه المرحلة لأنها ليست طرفاً في الحرب الدائرة. وذلك فضلاً عن وعي مصر بأهمية تحاشي الجدل المصاحب لتباين الرؤى الفلسطينية حول "اليوم التالي" التي ربما يقحمها إشراك الفرقاء السياسيين الفلسطينيين في مرحلة التفاوض لوقف إطلاق النار في غزة.
وعليه فإن أي جهد للتصدي للضرَّاء الإنسانية التي أطبقت على كافة السودانيين ينبغي أن يرتكز على مرحلتين متتابعتين غير متزامنتين لا مجال للتداخل بينهما. إذ تنطوي المرحلة الأولى على التفاوض الحصري بين العسكريين لوقف إطلاق النار الإنساني بمراقبة وحماية عسكرية إقليمية/دولية. ويشتمل التفاوض في هذه المرحلة أيضاً فتح الممرات الانسانية الآمنة لإيصال الإغاثة والمساعدات الإنسانية، ووقف انتهاكات حقوق الإنسان وحماية المدنيين، وعودة النازحين والراغبين من اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، وعودة النشاط الاقتصادي والاجتماعي في الريف والحضر وحمايته. وتقتضي الضرورة حصر هذه المرحلة فقط في طرفي الإحتراب الجيش والدعم السريع، والوسطاء الإقليميين والدوليين، بحيث يلزم استبعاد حواضنهما السياسية من المدنيين بحصر دورهم في مجرد المراقبة عن بُعد. ذلك أن إقحام السياسيين في تفاوض المرحلة العسكرية الأولى يفسدها ويحبط تحقيق مراميها باختزال قضاياها في جدال عقيم بين السياسيين الداعمين لطرفي الاقتتال تستضيفه تعسيراً وليس تيسيراً القنوات الفضائية الرائجة.
أما المرحلة الثانية لإنهاء الإحتراب فتتطلب تهيئة فضاء آمن للعمل السياسي يمهد لاستعادة ألق وبريق شعارات ثورة ديسمبر المغدورة بمشاركة واسعة من القوى الحية المدنية سيما النساء والشباب. ويلعب الحوار بين القوى المدنية الديمقراطية الداعية لوقف الحرب وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي/تقدم، وقوى الحرية والتغيير/تنسيقية القوى الوطنية الدور الوازن في المرحلة الثانية، شريطة استيعابهم لمفهوم التسلسل والتدرج في معالجة التناقضات الجوهرية مع مناصري النظام السابق، والتناقضات الثانوية بين مناصري أهداف ثورة ديسمبر. ويعني هذا حصر دور الجيش والدعم السريع في حوار هذه المرحلة الثانية في المراقبة عن بُعد بحيث يؤدي هذا الدور الرقابي لانسحابهما التام من الساحة السياسية بعد الاندماج في جيش مهني قومي واحد وموحد، قانع بدوره النمطي المتمثل في حماية الحدود وحفظ الأمن في إطار المرجعية الدستورية، وتأمين التحول المدني الديمقراطي.
ومن ثَمَّ فإن أي جهد ذي مصداقية لإنهاء الحرب في السودان يستدعي نأي السياسيين عن تفاوض المرحلة الأولى بين العسكريين والاكتفاء بمراقبتها عن بُعد، كما يتطلب استبعاد العسكريين عن حوار المرحلة الثانية بين السياسيين والاكتفاء بتأمينها وحمايتها. إذ أن أي مشاركة من الجانبين في مرحلة الآخر ستفسد المرحلتين معاً وتقود لتأجيج النزاع المسلح.
وعلى قدر كبير من الأهمية تجب الإشارة إلى أن مساهمة مصر في وقف إطلاق النار في السودان لا تمثل إضافة مبادرة جديدة للمبادرات العديدة السابقة، بل هي استئناف لمبادرة قمة دول الجوار التي استضافتها القاهرة في يوليو 2023 والتي ركَّزت على إعطاء الأسبقية لوقف إطلاق النار. إذ اشتمل الإعلان الختامي لقمة جوار السودان على 8 بنود أولها "الإعراب عن القلق العميق إزاء استمرار العمليات العسكرية والتدهور الحاد على الوضع الأمني والإنساني في السودان، ومناشدة الأطراف المتحاربة على وقف التصعيد والالتزام بالوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار، وإنهاء الحرب وتجنب إزهاق أرواح السودانيين وإتلاف الممتلكات". كما تم في هذه القمة الاتفاق على تشكيل آلية وزارية لوضع خطة عمل تنفيذية تتضمن وضع حلول عملية وقابلة للتنفيذ لوقف الاقتتال والتوصل إلى حل شامل للأزمة السودانية عبر التواصل المباشر مع الأطراف السودانية المختلفة في تكاملها مع الآليات القائمة بما فيها الإيقاد والاتحاد الإفريقي. وعليه فقد التأم الاجتماع الأول لوزراء خارجية دول جوار السودان في إنجامينا، تشاد في أغسطس 2023 وأكد على أهمية الاتصالات المباشرة والمستمرة مع المتحاربين من أجل تحديد محددات وقف دائم لإطلاق النار، ووضع حد لإزهاق أرواح الأبرياء وتدمير البنى التحتية. وقد وضعت لجنة وزراء خارجية دول جوار السودان خطة عمل للعرض على رؤساء الدول والحكومات لاعتمادها. وتنقسم خطة العمل إلى 3 أجزاء تشمل أولاً الحصول على وقف نهائي لإطلاق النار، ثم يعقب ذلك تنظيم حوار شامل بين الأطراف السودانية، وإدارة القضايا الإنسانية. وقد أمَّن الاجتماع الثاني لوزراء خارجية دول جوار السودان المنعقد بنيويورك في سبتمبر 2023 على حصر أولويات التحرك خلال المرحلة القادمة في التدابير عملية للتوصل لوقف إطلاق نار مُستدام في السودان.
وفي ظل الاحتباس السياسي الذي خيَّم على السودان وساهم جوهرياً في إشعال حرب أبريل 2023، لا جدال حول الأهمية الكبيرة لمؤتمر تستضيفه القاهرة لإطلاق حوار بناء بين القوى السياسية في السودان التي ساهم تشظيها في انسداد السياسي والعسكري في السودان. ذلك أن مؤتمر القاهرة، الذي يَحْسُن أن يعقب التفاوض بين العسكريين لوقف إطلاق النار، يمثل سانحة طال انتظارها لمساعدة مصر في تيسير إيجاد الحد الأدنى من القواسم المشتركة بين قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي (تقدم) وقوى الحرية والتغيير التكتل الديمقراطي (تنسيقية القوى الوطنية) باعتبارهما الكيانين اللذين ساهم غالبيتهما في نجاح ثورة ديسمبر في إنهاء النظام البائد. بيد أن هذين الكيانين أنهكا بعضهما البعض بالانخراط في تناقضات ثانوية باعدت بينهما وبين تحقيق أهداف ثورة ديسمبر ضد النظام العسكري السابق.
لقد ظلت التناقضات في السياسة السودانية خلال الفترة الانتقالية مدفوعة بالطبيعة المعقدة والديناميكية للعلاقات الاجتماعية والأيديولوجيات في السعي للسيطرة على السلطة. وتجلَّت هذه التناقضات الجوهرية والثانوية بين اللاعبين الرئيسيين بطرق مختلفة، مما أدى إلى التوترات والصراعات المسلحة والإحتراب. وتضمنت التناقضات الرئيسية خلال الانتقال السابق عداءات أساسية بين الأيديولوجيات والكيانات السياسية المختلفة. إذ كشفت ثورة ديسمبر أن التناقض بين النظام السابق (الإسلاميين) وعامة الشعب السوداني هو التناقض الأبرز والمهيمن. حيث فاقم هذا التناقض الجوهري تهميش النظام السابق لمعارضيه من غالبية الشعب عبر "التمكين" الذي أفرز فساداً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً فاسقاً، شهدت به قيادة "الإسلاميين" التاريخية ممثلة في أمينهم العام، وقيادات الحركة الإسلامية أنفسهم على مرأي مشاهدي القنوات الفضائية الرائجة. وبالتوازي مع ذلك، فإن التناقض بين القيم الديمقراطية المتمثلة في المساواة الاجتماعية والسياسية التي طرحتها ثورة ديسمبر، وواقع عدم المساواة المفضوح الذي يتبناه مناصرو النظام (الإسلامي) كان ولا يزال تناقضاً جوهرياً لدوره في تقويض شرعية المؤسسات الديمقراطية وبالتالي إشعال السخط السياسي الذي أدى لإجهاز الشعب على نظام الإنقاذ ورفضه القاطع لأي محاولة لإعادته.
وفي المقابل، كانت التناقضات الثانوية بين قوى ثورة ديسمبر خلال الفترة الانتقالية بداية نسبية وعابرة، انطوت على اعتبارات شخصية كمية، ولكنها في غياب الحنكة السياسية تحولت إلى عداء نوعي بين فصائل الثورة المتمثلة في قوى الحرية والتغيير. وقد أدى سوء التقدير في تسلسل معالجة التناقضات الجوهرية والثانوية إلى عرقلة تحقيق أهداف ثورة ديسمبر. وكان هذا السلوك هو المسؤول الأول عن تورُّم مؤيدي النظام السابق، الذين لعبوا دوراً بارزاً في إشعال الحرب وتأجيجها. ولا يخفى أن العامل الأبرز وراء نجاح ثورة ديسمبر في إسقاط النظام (الإسلامي) كان إدراك مناوئي سلطة الإنقاذ لتقديم التناقض الأساسي مع النظام الشمولي الفاسد على التناقضات الهامشية بين معارضي ذلك النظام الشمولي. وبالمثل، كان العامل الوازن وراء تعثر الفترة الانتقالية السابقة هو استمرار قوى الحرية والتغيير في الإلتهاء بالتناقض الثانوي بين قوى ثورة ديسمبر وإغفال تناقضها الجوهري مع النظام البائد. فبدلاً عن تفعيل وتعظيم التناقض الجوهري العدائي مع مناصري النظام السابق الذي هبَّ كل الشعب السوداني لإسقاطه، حوَّلت قيادة قوى الحرية والتغيير تناقضها الفرعي غير العدائي مع حلفائها المدنيين والعسكريين إلى تناقض جوهري وعدائي، مما سمح للدولة العميقة المترنحة السعي لاستعادة حكمها المنزوع والانقضاض على مكتسبات ثورة ديسمبر.
إن فك شفرة الحرب المتسعة رقعتها في ولايات السودان يتطلب إيلاء مصر الشقيقة الأهمية اللازمة لتوسيع مسار القاهرة (دول جوار السودان) ليشمل كيانات متعددة الأطراف مثل الاتحاد الإفريقي والإيقاد والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة لتيسير التفاوض والحوار المستنير حول مدة الفترة الانتقالية والتسلسل والتدرج في تنفيذ مهامها المسندة بدءاً بمفاوضات وقف إطلاق النار بين المتحاربين، ووصولاً للحوار بين السياسيين حول التحول المدني الديمقراطي. ذلك أن ضخامة المهام المنوطة بهذه الفترة، وعلى رأسها تنفيذ العقد الاجتماعي بين سلطة الانتقال والشعب السوداني، تتطلب فترة انتقالية لا تقل مدتها عن خمس سنوات لإتاحة الفرصة للتدرج والتسلسل في تنفيذ مراحلها المتعاقبة الثلاث بواسطة العسكريين والمدنيين كل في مجاله ومرحلته، برغم الترابط المنهجي والتداخل الزمني بين تلك المراحل. وتنحصر هذه المراحل المتتابعة فيما يلي:
1. التدخل المباشر لقوات إقليمية/دولية لبسط الأمن (12 شهراً): وتنطوي هذه المرحلة على أولويات فورية (لا يمكن تحقيقها عبر منبر جدة) تشمل نشر قوات إقليمية/دولية لحفظ السلام ونزع السلاح، وتسريح المقاتلين وإعادة إدماجهم، وإرساء العدالة الانتقالية، وإضفاء الطابع المهني على الجيش والشرطة، ووضع خطة شاملة لدمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة في الجيش السوداني الواحد الموحد، وإعادة تنظيم وبناء قدرات قوات الشرطة بمراعاة التوازن الإقليمي. كما تشمل الأولويات الفورية أيضاً السياسات الإنسانية المتمثلة في عودة وإعادة توطين اللاجئين والنازحين، وتوفير الأمن الغذائي، وإعادة توطين المقاتلين.
2. ترسيخ التحول والانتقال (12-36 شهراً): وتشمل هذه المرحلة أولويات قصيرة الأجل تتضمن الاستمرار في السياسات الأمنية وإصلاح قطاع الأمن (الجيش والشرطة والنظام القضائي والسجون)، وإزالة مخلفات الحرب. ومواصلة إعادة وتوطين اللاجئين والنازحين داخلياً، وتقديم الخدمات الأساسية، وتنفيذ الإصلاحات السياسية، ومواصلة الاستعداد لإجراء الانتخابات، ومكافحة الفساد، وإصلاح الخدمة المدنية، وعقد مؤتمر نظام الحكم لإصلاح اللامركزية والفدرالية المالية. وفي المجال الاقتصادي مواصلة الإصلاحات المالية وبرامج تعبئة الإيرادات، وتنفيذ الانفتاح التدريجي للاقتصاد بمساعدة المؤسسات الاقتصادية الإقليمية والدولية، وخفض عجز الميزانية، وتوسيع البنية التحتية التنموية والخدمات الأساسية.
3. تمكين القدرات المحلية لتحقيق الاستدامة (36-60 شهراً): وتنطوي هذه المرحلة على أولويات متوسطة المدى تشمل تراجع الانفاق العسكري والأمني، وتمكين القوات الأمنية الوطنية من شغل محل القوات الإقليمية/الدولية، ومواصلة إصلاح القطاع الأمني، ومتابعة جهود مكافحة الفساد، والاستمرار في إصلاح الخدمة المدنية. وفي الإطار الاقتصادي مواصلة الإصلاحات الاقتصادية، وزيادة استثمارات القطاع الخاص الوطني والأجنبي، والاستعداد لاستكمال عضوية منظمة التجارة العالمية ومنظمات التجارة الحرة، وتهيئة السودان لانطلاق التنمية المستدامة بعد استكمال استحقاقات الفترة الانتقالية في تحقيق السلام والانتعاش الاقتصادي، وإجراء الانتخابات الحرة النزيهة واستكمال التحول المدني الديمقراطي.
وحتى تستعيد ثورة ديسمبر زخمها المسلوب ومسارها القاصد نحو تحقيق "الحرية والسلام والعدالة" يجب الإقرار بأن المسؤولية التاريخية لانحراف الثورة عن استكمال أهدافها تقع على عاتق جميع اللاعبين الرئيسين خلال الفترة الانتقالية السابقة، بما في ذلك الجيش المُسيَّس، والدعم السريع المُخترَق، والحركات المسلحة المتأرجحة والقاصية عن قواعدها، والنسخ المنسلخة والنموذج المتحور من قوى الحرية والتغيير، وتجمع المهنيين المتشظي، ولجان المقاومة المتزمتة. ويظل فهم "التدرج والتسلسل" في معالجة التناقضات الجوهرية مع النظام السابق والتناقضات الثانوية بين فصائل الثورة هو العلامة الفارقة بين السياسي الحصيف، ومن هو دون ذلك. وتبقى السياسة هي مهارة تحقيق المُمكن بأقل الخسائر. ويا لها من خسائر فادحة تكبدها السودان بسبب قصور جميع اللاعبين الرئيسيين خلال الفترة الانتقالية عن استيعاب الأسبقيات والتسلسل في معالجة التناقضات "الجوهرية" و"الثانوية" بالانخراط في حلبة عراك في غير معترك بين المدنيين والعسكريين وبين العسكريين والعسكريين.
ويا له من أمل ومُبتَغى في نجاح جهود مصر الشقيقة لتيسير تفاوض عسكري يحقق وقف دائم لإطلاق النار وحقن الدماء السودانية، توطئة لحوار سياسي لاحق يستلهم مقاصد ثورة ديسمبر الشعبية ليفرز سوداناً مشرئباً للاندماج في مجتمعه الإقليمي والدولي في إطار احترام سيادته ووحدة أراضيه وتحقيق المنافع المشروعة له ولغيره.
melshibly@hotmail.com