القرارات الاقتصادية.. وغياب الموائمة السياسية
إمام محمد إمام
8 November, 2016
8 November, 2016
i.imam@outlook.com
لم يكن غائباً عن ذهن البعض، الملحظ المهم في كيفية التعامل السياسي والأمني للدولة والحكومة معاً، تجاه إضراب الأطباء في الشهر الماضي الذي كان فيه قدرٌ من اللين والحكمة، في إحداث قدرٍ من الموائمة السياسية والتهدئة الأمنية، إبان ذاكم الإضراب إلى درجة أن بعضهم أوهم نفسه ببطولة زائفة، بإدعاء الجسارة، وتحدي المنظومات الأمنية. ما علم أن بطولته غُض الطرف عنها، وجسارته سُمح بها إلى حينٍ. وبالفعل أثمرت الموائمة، نتائح ناجعة في الحل، ومعالجة للمشكل، دون كثير تداعياتٍ على الهم الأكبر للدولة والحكومة معاً وقتذاك، المتمثل في انعقاد الجمعية العامة لمؤتمر الحوار الوطني، بحضور ضيوفٍ كبارٍ يمثلون بلادهم، ويجمع بعضهم التمثيل الرئاسي لمنظوماتٍ إقليميةٍ، وآخرين غيرهم كُثر، حرص السودان على أن يكونوا من بين شهود عيانٍ لذاكم الملتقى في يوم الاثنين 10 يناير 2016 بقاعة الصداقة في الخرطوم، لإجازة مخرجات الحوار الوطني المجملة في 994 توصيةً وقراراً، والإعلان عن الوثيقة الوطنية للحوار الوطني، وبدءاً في إنفاذ مقرراته. وبالفعل أفضت تلكم الموائمة السياسية والتهدئة الأمنية إلى تفادي تداعياتٍ قد كانت تحدث بعضاً من الأضرار بالوطن والمواطن.
درجتُ في بعض كتاباتي على تأصيل المفردة، لغةً واصطلاحاً. ولما كانت مفردة الموائمة مترددة في ثنايا هذه العُجالة، رأيتُ لزاماً علي تعريفها، وتحديد مفهومها. فالموائمة هي تفسير أصل الثابت المنقول باسقاطه على أصل ثابت معلوم، ليتبين القصد وتستخلص المساواة مع المتغير بالنقد أوالموافقة. والموائمة عند الفيلسوف السويسري جان بياجيه هي عملية التمثيل التي تقتصر على استيعاب الخبرات التي مرت من قبل بالفرد، أي أنها تحدث كلما استجاب الفرد في موقفٍ جديدٍ، كما فعل في مواقف مشابهة في الماضي، مستصحباً خبرات جديدة لم يمر الفرد بتمثيل لها من قبل، ومن ثم فإن الأبنية العقلية الحالية لا بد أن تغير من نفسها لكي يمكن تقبل هذه الخبرات الجديدة. وبمعنى آخر فالموائمة عند الفيلسوف بياجيه هي عملية خلق المخططات الجديدة، أو تحوير المخططات القديمة.
وفي رأيي الخاص، أن الموائمة السياسية والإعلامية قد غابت نماماً، عند إصدار القرارات الاقتصادية التي أعلنها الأخ بدر الدين محمود عباس وزير المالية، المتعلقة بتحرير أسعار المحروقات البترولية، وزيادة أسعار الكهرباء للاستهلاك الذي يتجاوز الــ400 كيلو واط، ضمن حزمة من الإجراءات الاقتصادية، خلال مؤتمر صحافي عقده يوم الخميس الماضي. لم تكن الموائمة السياسية والإعلامية حاضرة في ذهن الأخ بدر الدين محمود عباس وزير المالية، وإلا كان قد أعد العُدة لهذا الحدث من قبل، وذلك من خلال عقده للقاءات تنويرية لمجموعة من الصحافيين قبل إعلان حزمة الإجراءات الاقتصادية الأخيرة، عبر مناقشات مستفيضة حولها، بغرض استيعابهم لضروراتها، وإثراء النقاش والمجادلات في كيفية إنفاذها بأضرارٍ غير ذات أثرٍ كبيرٍ على الشرائح المجتمعية الضعيفة. وأحسب أن الأخ الرئيس عمر البشير قد استخدم فقه الموائمة السياسية في اجتماع مجلس شورى حزب المؤتمر الوطني الأخير، عندما صارح أعضاء المجلس، بموقف الوضع الاقتصادي الراهن، مشيراً إلى أن الاقتصاد في حاجةٍ ماسةٍ إلى معالجاتٍ ناجعاتٍ، لتفادي استفجال الأزمة الاقتصادية. فكان من المفترض أن يكون حديث الرئيس البشير من المؤشرات المهمة في اسراع القطاع الاقتصادي إلى التفكير في كيفية إحداث مدارسة اقتصادية ومالية، وموائمة سياسية وإعلامية، تهيئةً واقناعاً لعموم الشعب بالضرورات التي دعت إلى إصدار حزمة الإجراءات الاقتصادية التي أُعلنت يوم الخميس الماضي. فلم يحرص وزير المالية على المبادرة بعقد سلسلة من اللقاءات مع الخبراء الاقتصاديين وبعض قيادات الوسائط الصحافية والإعلامية، بُغية إحداث حراكٍ اقتصادي، وموائمة سباسية وإعلامية لقرارته الأخيرة، التي نزلت على الناس كموت الفُجاءة.
أخلص إلى أنه من الضروري، عند اتخاذ مثل هذه الإجراءات والقرارات، لا سيما تلكم المتعلقة بمعاش الناس، يجب أن تسبقها موائمة سياسية وإعلامية، لتخفيف تداعياتها، وتقليل خضاتها على عموم الشعب، وخاصة الشرائح المجتمعية الضعيفة. فالموائمة في مثل هذه الأحوال، ينبغي أن تعطي حيثيات محكمة، ومبررات مقنعة، لاتخاذ إجراءات صعبة، وقرارات قاسية. والتأكيد على أن هذه القرارات جاءت بعد بحثٍ مُضنٍ في البدائل الممكنة. فلا يجد الشعب حرجاً في قبولها، ولا لجاجة في استيعاب ضروراتها. أعتقد أن الكثيرين، يلحظون غياب الموائمة السياسية والإعلامية عند اتخاذ القرارات الكبرى في بلادنا، بينما في الغرب الذي عشت فيه سنين عدداً، يولون أمر الموائمة السياسية والإعلامية جُهداً عظيماً. وأنها صارت عندهم فلسفة راسخة في التمهيد لاتخاذ القرارات المهمة والخطيرة، من خلال الإفادة في ذلك على الوسائط الصحافية والإعلامية والمنتديات الفكرية. ومن الضروري أيضاً، أن تستهدف الإجراءات الاقتصادية الأخيرة، إعادة ترتيب وترشيد الإنفاق العام في الدولة. وأن تُسهم هذه الحزمة اسهاماً فاعلاً في إحداث استقرار اقتصادي، وتحقيق معدلات نمو أكبر، مستصحبة في ذلك، ضرورة دعم الشرائح المجتمعية الضعيفة والفقراء والمساكين، وتقديم الخدمات من تعليمٍ وصحةٍ وطبابةٍ ومواصلاتٍ ونظافةٍ وغيرها.
ولنستذكر مع جموع الشعب السوداني في هذا الخصوص، قول الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي:
ولرب نازلة يضيق لها الفتى
ذرعاً وعند الله منها المخرج