القضارفيون .. رفعتم هويتنا عالياً

 


 

 

حتى لو لم يكونوا شبعانين، وأعينهم ملأ من خيرات أرضهم المعطاءة، لكانوا أغنياء نفس، رغم فقرهم ورقة حالهم. وما كانوا ليفعلوا غير الذي فعلوا، ما يُرضي ضمائرهم ويريح بالهم. فهم سودانيون قبل كل شيء، لا يملكون فكاكاً من ما صبغ الله به قلوبهم. وقديماً قال المعلم الذي لا يكذب حديثاً سيد الشهداء محمود محمد طه عن السودان بأن "عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض، بأسباب السماء".
ورغم شعور الفخر الذي غمرني وأنا أتابع التقرير الإخباري لقناة "الجزيرة" صبيحة الثلاثاء 29 يونيو 2021 حول الجهود التي تبذلها إدارة التعليم بولاية القضارف لتوفير فرص التعليم لأبناء وبنات اللاجئين من جحيم الحرب الأهلية في الجارة أثيوبيا، وتخصيص رياض للأطفال ومدارس أساس وثانويات لمن هم فوق ذلك.
النساء والأطفال، دائماً هم أكثر الفئات الضحايا تضرراً من الحروب الأهلية، لأن هذا النوع من الحروب لا يؤثر في حدود الدول، وإنما ضررها الأكبر يتمثل في تفكيك المجتمعات داخل الدولة وتمزيق نسيجها الداخلي وانفراط أمن المدنيين وترويعهم وتشريدهم وتفكك أسرهم، والتأثير الأكبر سوءا يقع على الأطفال حيث تنعدم فرص التعليم والمناخ التربوي الطبيعي.
لذا جهود مبادرة مواطني القضارف لتأمين ولو الحد الأدنى من الأمن والاستقرار للاجئين، وخاصة لفئة النساء وأطفالهن، بتوفير ما يتيسر من السكن، والملاعب، والغذاء، بما يوفر الحد الأدنى من الاستقرار بالمبادرات الأهلية ومساعدة الجهات الحكومية، يمكن أن توفر قدراً من الاستقرار لهؤلاء الضحايا الأبرياء. ذلك رغم ظروف السودان الاقتصادية القاسية، وما يواجهه طلابه وطالباته في مراحلهم التعليمية المختلفة من عنت وتحديات وصعوبة بالغة.
لقد تعاملت إدارة تعليم ولاية القضارف بروح المسؤولية مع البعد الإنساني في مشكلة هؤلاء الأبرياء، وبحسب تصريح مدير إدارة التعليم بالولاية في التقرير الإخباري لقناة" الجزيرة" فإنهم الآن بصدد التجهيز لاستيعاب ما لا يقل عن أربعة الآف طالبة وطالب بمرحلتي الأساس والثانوي وتجهيزهم للجلوس للامتحانات القادمة على المقرر السوداني.
بقدر شعوري بالفخر بهذه الروح التي تعامل بها مواطنو القضارف والمسؤولون بالإدارة التعليمية في معسكر أم راكوبة. إلا أن شعوراً بالامتنان لهما معاً غلب على الفخر، لأنهم عكسوا بطريقة تلقائية مكنون الفطرة السودانية وجوهرها الذي لم تألُ الأنظمة الغاشمة جهداً في طمسه وقد خاب فألها. ومصدر الامتنان لأهالي ومسؤولي القضارف لم يكن لأنهم عكسوا للعالم الجوهر السوداني. فهذا آخر ما يهم. لأن السوداني الحقيقي لا يفعل الصواب رياء الآخرين. ولا يفعله ينتظر منهم شكراً وجزاءً وثناءً، لأنه يكره بطبعه أن يمتدحه الناس. وحين يريد الواحد منهم أن يمتدح شخصاً بادر بفعل يستحق الشكر، فإنه يدعو له بطول العمر ليكثر من فعل الخير قائلاٍ (الله لا يجيب يوم شكرك). لأن كل أشكال التعبير عن المدح عندهم تدخل في باب الرياء والتزلف التي لا تليق لا بالشاكر ولا المشكور ترفعاً، ويقولون في ذلك (الشكرو قدامو نَبَّذو بمعنى شُتم وهُجيَّ).
وإذن فإن فعل الخير والمروءة يقع خارج دائرة التنافس على النفوذ المعنوي في المجتمع، إنه واجب أخلاقي يقع في ما وراء الضمير الشخصي والتقدير الذاتي لفاعل الخير صاحب المروءة، أليس هذا هو أنصع تجليات النبل. فهو إذن فعل جواني ينبع من الذات للذات، وليس برانيَّاً ينتظر مقابلاً من خارجه.
والأمر الأهم لدلالات الانعكاس الخارجي لما قام به ويقوم به أهل القضارف والمسؤولين فيها أن حساسية السودانيين المرهفة تجاه الواجب الأخلاقي لا يلقي بالاً للعلاقات بين الدول بالاٍ، ولا ما بينها وبين دولته من خلافات أو ائتلافات فالواجب الإنساني يتقدم على الاعتبارات السياسية، ويزيل من طريقه تلقائياً كل الاختلافات العرقية والثقافية.
لم يضع أهل القضارف منازعة الأحباش لهم في أراضيهم بالفشقة ولا تعنت حكومتهم في مفاوضات سد النهضة ورفضها الالتزام باتفاق ينظم ملء السد بين دولتيهما، وأن هذا الرفض يشكل تهديداً مباشراً لهم ولوطنهم ومواطنيهم بالإغراق أو الجفاف، لم يخطر ذلك ببال، فأمامهم وعلى أرضهم وبينهم أطفال ونساء وعجائز تم تهجيرهم من بلدهم ومن منازلهم لا يملكون شيئاً، يحتاجون للسكن الآمن الذي يسترهم والغذاء والعلاج والتعليم، وواجبهم المباشر هو سترهم وتوفير الأمان. فإلى أين ذهبت الفشقة أرض زراعتهم وأين ذهب سد النهضة الذي يهددهم من ذاكرتهم الجماعية؟.
تبخر، ولم يعد له وجود في هذه اللحظة.
هنا الآن هؤلاء الناس ولا شيء غير ذلك.
أقول هذا وتساؤل حانق يطرق ذهني كمطرقة:
أبعد هذا أبحث عن هوية خارج سودانيتي ؟.

izzeddin9@gmail.com

 

آراء