القوة الثالثة والفرصة الأخيرة للوحدة

 


 

 

اتسم النقاش العام في الأسبوعين الماضيين بمواقف تكاد تجمع على أنه قد فات الأوان للحديث عن الوحدة وأن الانفصال واقع لا محالة مع استثناء في مقالين للحيدرين: حيدر إبراهيم وحيدر طه حيث أنهما لا يزالا يريان بصيص أمل في العمل من أجل الوحدة في المئين الثلاث من الأيام الباقيات قبل أن يحين موعد الاستفتاء المقرر حتى الآن في يناير من العام القادم وذلك وفق ما دعا إليه السيد ياسر عرمان القيادي في الحركة الشعبية ومرشحها للرئاسة فيما أعلن بعد تقديمه لاقتراحه. وقبل أن نفحص مقترحات الكاتبين فلننظر إلى خطاب الوحدة والانفصال.

باستثناء تيار هامشي بين أنصار المؤتمر الوطني يمثله صاحب «منبر الشمال» ومجموعة من الناس حوله تشكلوا في تجمع يحمل اسما جديدا رنانا «منبر السلام العادل» باستثناء هذه المجموعة تكاد لا تجد في شمال السودان من يدعو لفصل الجنوب أو يعدد مزايا انفصال الشمال عن الجنوب بالسفور الذي تدعو له هذه المجموعة. وإننا إذا ننسب هذه المجموعة للمؤتمر الوطني فإن معظم أفرادها إن لم يكن جميعهم قد جاءوا من الحركة الإسلامية في مختلف مراحلها وكانوا يهدفون لإحداث تيار عريض منتشر في أوساط جميع الأحزاب والتجمعات ويزعمون أنه تيار الأغلبية الصامتة وإن اضطروا مؤخرا للتشكل في حزب سياسي. ولقد ظلوا يعملون بمباركة من التيار الرئيسي في الحزب وتواطؤ تام من أجهزة الدولة التي تتعامل معهم كأنهم جزء من الحزب الحاكم ولا تسري عليهم الإجراءات التي تقع على غيرهم فلا تسألهم الأسئلة الأمنية أو مجلس الصحافة وغيرهما. ولقد كان الحديث عن الانفصال حتى وقت قريب يكاد يكون خاصا بالجنوبيين وحدهم في نظر أهل الشمال وللدقة خاصا ببعضهم بعد ظهور الدكتور جون قرنق في المسرح السياسي بخطاب عن وحدة السودان لا قبل للساسة بمثله.  على الرغم من ذلك فقد تسارع الحديث عن الانفصال في العام الذي انصرم لتنعكس المعادلة وتنتقل من الحديث عن الوحدة كأنها الخيار الذي لا مفر منه للحديث عن الانفصال كأنه الخيار الطبيعي لأهل الجنوب عند وقوع الاستفتاء. وعلى الرغم من الإقرار بمبدأ تقرير المصير يعني، نظريا على الأقل، أن يكون الانفصال احد خيارين إلا أن فكرة الانفصال ظلت محملة بشحنات سالبة ومخيفة وظلت كلمة محرّمة على التداول عند أهل الشمال على الأقل. ولقد ظل الخط الرسمي لشريكي اتفاق نيفاشا هو دعم وحدة السودان منذ توقيع الاتفاق وتمثل ذلك في تصريحات في مناسبات كثيرة لرئيس الحركة الشعبية ورئيس حزب المؤتمر الوطني ويعرض التلفزيون «القومي» هذه الأيام مقتطفات مركبة بشكل يجعل من لا يعرفون كيف يعمل المؤتمر الوطني والإسلاميون في السودان يعتقدون أن أهل السودان في طريقهم لوحدة لا خلاف عليها وهذا ما سمعت من بعض الإخوة العرب الذين كانوا يشاهدون تلفزيون السودان معي في الأسبوع الماضي. لاحظت أن جميع المقتطفات تكاد تكون قد قيلت في تاريخ سابق لعام 2009.

 

تسارعت وتيرة الحديث عن الانفصال في العام الماضي كنتاج للتعثر الذي لازم سوء تطبيق الاتفاق مما وسّع من هوة عدم الثقة ودعا لليأس والقنوط من إصلاح الحال في أوساط الحركة الشعبية أولا وتبعها في ذلك الإحساس الشريك الآخر حتى بلغ الحال بأحد المفاوضين الأساسيين في نيفاشا أن يخرج عن خط الحزب الرسمي ويتحدث عن الانفصال الواقع لا محالة ويدعو لان يكون سلسا ولقد سبقه في ذلك بفترة قصيرة مفاوض آخر في ميشاكوس وهو الدكتور غازي صلاح الدين الذي بدأ يحذر عن القنابل الموقوتة التي ستقود للحرب حال وقوع الانفصال وتحدث عن الانفصال ليس كاحتمال وإنما كأمر واقع.

 

لسنا ممن يعتقدون أن نيفاشا قد وضعت الأساس لانفصال الجنوب وأن الشريكين كانا ينويان من البداية الوصول إلى هذا المصير، نعتقد أن اتفاقية نيفاشا قد مثلت أفضل مقاربة لأزمة الحكم في السودان وليس لما عرف تاريخيا بمشكلة الجنوب وأن تسوية قد وقعت بعد تقديم الطرفين لتنازلات محسوبة بعد أن أيقنا أنه لا سبيل لأي طرف في أن يمضي بمشروعه لنهايته وكان قرنق يردد ذلك دون حرج قائلا: لم نستطع أن نهزم نظام الجبهة الإسلامية المسيطر على الحكم في الخرطوم ونستأصله كما أنه لم يستطع أن يهزمنا ويلغينا من الوجود كما كان يدعي. والحق أن هذا الإقرار نادرا ما تسمعه من طرف المؤتمر الوطني وكثيرا ما ردد رئيس المؤتمر الوطني، في مكابرة واضحة، كلما وقعت أزمة بين الشريكين بأنهم قد جآءوا للسلام من موقع القوة وأنهم لم يهزموا ليجلسوا للتفاوض ولكن فاوضوا لإيمانهم بالسلام!!. كان الجميع متفائلا بفتح صفحة جديدة عند توقيع الاتفاق التاريخي بفضل ما تحقق لكل طرف فقد نال انقلاب الإنقاذ لأول مرة اعترافا من خصومه في الداخل واعترف به الخارج بعد عقد ونصف العقد من العزلة والإدانة ونالت الحركة الشعبية استراحة بعد نضال شاق عسكري وسياسي من أجل وضع إدارة السودان وفقا للكثير من الرؤى التي ظلت تناضل من أجلها وجاءت نقطة ضعف الاتفاق في ثنائيته التي فرضها جانب موضوعي هو ضعف الأطراف الشمالية الأخرى وعجزها عن النضال المسلح طويل النفس كما فعلت الحركة الشعبية وتحالفت الحركة سياسيا مع هذه الأطراف في مرحلة من المراحل وقد عجزت الحركة في إقناع شريكها في التفاوض في استصحاب الآخرين في التسوية لأن أهل الحكم في الخرطوم كانوا على استعداد لمغادرة قاعة التفاوض إذا اقترب منها رجال التجمع وذلك لخشيتهم من أن تنافسهم هذه القوة الشمالية في ملعب الشمال ولقد وضعت الاتفاقية أسس تفكيك النظام سلميا وإحداث تحوّل ديمقراطي يقود بالضرورة لتطبيق الأسس الجديدة لدولة السودان ويفضي بأن تكون الوحدة جاذبة وفقا لهذه الأسس الجديدة مع الاحتفاظ بحق الانفصال إن لم يحدث ذلك. أقول إن الجميع كانوا على استعداد لفتح الصفحة الجديدة وخوض التجربة على الأقل بما في ذلك الإسلاميون الذين سيكونون جزءَ من معادلة الحكم القادمة وفقا لقواعد التداول السلمي للسلطة وذلك دون محاسبة على الانقلاب وسنواته العجاف وذلك أفضل من استلام السلطة كاملة دون شرعية لا في الداخل ولا في الخارج.  حالة التفاؤل عمت الجميع عندما شاهدنا وصول دكتور قرنق التاريخي إلى الخرطوم واستقباله في دار المؤتمر الوطني القريب من المطار، ومن  أبرز الوجوه التي شاهدنا في التلفزيون في ذلك اليوم من أهل الإنقاذ السيد الطيب مصطفى الذي كان يبدو عليه حبور ظاهر سرعان ما تبين أنه لم يكن حقيقيا وذلك عندما حمل إلى الصحف بعد ثلاثة أسابيع من ذلك الحدث بيانا اضطر أن ينشره كإعلان مدفوع الثمن بعد أن رفضت كل الصحف نشره وذلك إبان الفتنة التي كادت أن تقع عند موت جون قرنق الدرامي. كان بيانه ينضح فتنة وكراهية وتحريضا حتى أنه قد سحب من الصحف وسحب أيضا مقال لا يقل عنه دعوة للفتنة لعلي العتباني في سابقة نادرة لأهل الإنقاذ وإعلامها. ربما يكون من المفيد أن نثبت هنا أن احتواء تداعيات اختفاء قرنق والموقف المتعقّل الذي وقفته الحركة الشعبية وهي تعيش الفجيعة أكثر من غيرها ومجاراة أهل الإنقاذ لها في إدارة الأزمة بحكمة يعتبر موقفا يحسب لأهل السودان وقدرتهم على احتواء الأمر بعد أن يصل إلى حافة الهاوية. أذكر تحليلات قرأت جزءً منها وشهدت بعضها في الخرطوم في تلك الأيام من بعض أهل المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية كانت تمضي إلى وقوع سيناريو على طريقة التوتسي والهوتو في رواندا وحمامات الدم التي ستنفجر في شوارع الخرطوم وكيفية نقل الرعايا الأجانب قبل ذلك وما إلى ذلك من خطل في التحليل . أدهشهم احتواء السودانيين للأمر والوقوف عند ذلك الحدث أمر مهم يدل على أن الحديث عن الحقد والكراهية وما إلى ذلك ليس حديثا مؤسسا وأن ديناميات الوحدة تظل رغم كل شيء أقوى من عوامل الانفصال والتفكك. وبكل أسف  أدى غياب قرنق إلى ردة في الفكر والفعل عن بعض أهل الإنقاذ مما أسماه دكتور منصور خالد البطبطة في الرأي والنكوص على الأعقاب حيث ظنت بعض الأطراف أن ما اتفق عليه لم يعد ملزما بعد غياب صاحب الحلم والرؤية الذي جرهم جرا إلى الموافقة على ما اتفق عليه وظلوا بشكل واع أو غير واع يعملون على إفراغ الاتفاق من محتواه ولقد بلغ ذلك أقصاه في العام الذي مضى وذلك من أقوى الأسباب التي رفعت وتيرة حديث الانفصال.

 

وربما كان توفر قوة الدفع من أجل الوحدة على الرغم من تباطؤ وتيرتها وانحسارها الظاهر في هذه الأيام هو الذي جعل رجلا مثل ياسر عرمان يظل ثابتا لا يتزحزح عن أن الوحدة قدر هذا الشعب مهما كانت عناصر الإحباط والقنوط في تزايد ويدعو إلى العمل خلال ما تبقى من وقت لتحقيق ذلك ورفض التوجه الرسمي الذي بدأ يسفر للمؤتمر الوطني من خلال حديث الدرديري محمد أحمد السابق ذكره، وخلال توكيد السيد عرمان فيما بدر منه حتى الآن من ملامح لبرنامجه الانتخابي على العمل على تغليب خيار الوحدة فيما تبقى من زمن.

 

يرى الدكتور حيدر إبراهيم أن خوف المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية  من أن يحكم التاريخ بأن تقسيم السودان وتفتيته قد وقع أثناء حكم الإسلامويين ذلك أنهم قد عملوا خلال عشرين عاما، عن قصد أو دون قصد، على قيادة البلاد إلى هذا المصير.  ويسعى أهل المؤتمر الوطني والإسلاميون منهم على وجه الخصوص على قيادة حملة إعلامية مدروسة للتنصل من المسؤولية التاريخية للانفصال والتفتيت يلعب فيها خطاب الطيب مصطفى عنصرا أساسيا عندما يردد بأن ما سيحدث ليس انفصالا وإنما عودة الأشياء لمسارها الطبيعي لأن الجنوب لم يكن جزءً حقيقيا من السودان لينفصل وإنما زائدة أضيفت قسرا للسودان العربي المسلم الموحّد وما إلى ذلك من خطاب الأماني.

 

 يقر الدكتور حيدر إبراهيم  بأن اتفاقية نيفاشا هي بالفعل وسيلة لتحقيق السلام والوحدة والديمقراطية وليست غاية في حد ذاتها، ويدعو إلى تعديلها وتوسيعها للتوافق على برنامج 300 يوم ويدعو إلى صيغة أوسع من وصفة تجمع جوبا وإنما وضع صيغة أكثر فعالية واستمرارية وذات طابع استراتيجي بقدر تحديات المرحلة. ونأمل أن يعود دكتور حيدر ليفصّل أكثر في شكل هذه الصيغة الإستراتيجية المطلوبة بإلحاح في هذه اللحظات الأخيرة.

 

أما حيدر الآخر فيظل يرى أن عام 2010 ينبغي أن يكون عام التغيير الشامل من أجل بناء دولة عصرية مدنية ديمقراطية موحدة والطريق لذلك فيما يرى هو كسر احتكار حق تقرير مصير الوطن للشريكين اللذين يقودانه إلى التقسيم بحسب مسارهما الحالي ويدعو إلى تكوين قوة ثالثة تفرض نفسها ليس كبديل فقط ولكن كقوة قادرة على استعادة حق تقرير مصير السودان ليكون شأنا وطنيا وسودانيا عاما وأن تفرض هذه القوة رؤيتها بجانب الرؤية المسلّمة بحتمية الانفصال ليكون لشعب السودان خيار آخر. واحسب أن خيار شعب السودان الذي يعني هو من خلال الانتخابات لأن تقرير المصير هو خيار أهل الجنوب من الناحية القانونية ولكن على المستوى السياسي للجميع أن يدلوا بدلوهم وربما أعاد هذا إلى الأذهان صرخة أطلقها السيد على عثمان محمد طه في الزمن الضائع مضت دون أن يستمع لها أحد دعا فيها لفتح الحوار حول أمر الوحدة والانفصال لجميع أفراد الشعب السوداني، ودعوة السيد محمد إبراهيم نقد بالنزول إلى الشارع والاستمرار في ذلك وعدم التسليم كشكل من أشكال احتكار الشريكين للقرار، وربما اتفق هذا مع دعوة حيدر طه لاستمرار الحراك والمدافعة من أجل هذه القوى الثالثة التي يمكن أن تنتزع موقعا رغما عن الشريكين وليس بالتحالف مع أي منهما. ولقد ضاع الكثير من الوقت ومن خطل الرأي الانتظار حتى تنتهي الانتخابات حتى يفتح الحديث عن الوحدة والانفصال في الفترة التي تسبق الاستفتاء.

 

وفي اعتقادنا أن الانتخابات القادمة، لمن سيشارك فيها ولمن سيقاطعها تمثل فرصة لطرح القضايا التي لم تطرح للنقاش العام بعد وهي ما المقصود بالوحدة الجاذبة التي يبدو أنها لم تتحقق فآثر أهل الجنوب بما فيهم الحركة الشعبية النظر في فرصة الانفصال في تناقض مع رؤيتها الأصلية الداعية للوحدة. كما أن دعاة الانفصال لم يستطيعوا حتى الآن أن يبرهنوا على الفوائد المرجوة من دعوتهم للانفصال. وأهل المؤتمر الوطني ظلوا حتى وقت قريب يتحدثون عن الوحدة التزاما بالخط الرسمي وتؤدي أفعالهم بشكل واع أو غير واع  لتنفير الشريك الآخر منها. وقبل هذا وذاك يظل تقرير المصير أمرا للتداول في أوساط النخبة، خصوصا الجنوبية، والجمهور العريض في الجنوب مغيب تماما عن مناقشتها ومعرفة نتائجها فعلى كل المنابر أن تجعل من النقاش في الوحدة الجاذبة والانفصال الجاذب مادة ثابتة في برامجها وعلى الصحفيين أن يسألوا كل مرشح في الشمال  والجنوب وفي جميع المستويات عن ما يرى في أمر الوحدة والانفصال وماذا سيعمل من أجل هذا الخيار أو ذاك ويجب أن يكون هذا الأمر المصيري هو مادة الانتخابات الأساسية. كما ينبغي مناقشة قضايا ما بعد الاستفتاء منذ الآن حتى يعرف الناس مآلات خياراتهم في الانتخابات وفي الاستفتاء لمن له حق القرار في سؤال الاستفتاء، كما أن على الأغلبية الصامتة، الحقيقية، وليست التي يدعيها الطيب مصطفى التي ترى أن وحدة السودان هي القدر والمصير أن تخرج عن صمتها وتضغط في اتجاه تشكّل القوة الثالثة ودفع رؤيتها للأمام بدلا من التباكي في ضحى الغد ومن يدري ربما فعلها السودانيون مرة أخرى مثل ما فعلوها في أخريات شهر ديسمبر من عام 1955 عندما اختفى فجأة الخطاب الاتحادي الذي ظل سائدا وقويا فجاء «الانفصال» من حيث لم تحتسب مصر فهل تجئ الوحدة من حيث لا يحتسب الشريكان؟

 

نقلا عن "الصحافة" ليوم الثلاثاء 19 يناير 2010

Ussama Osman [ussama.osman@yahoo.com]

 

آراء