الكابلي: وعضّت على العُناب بالبرَّد
للكابلي فضل إذ اختار لنا من كنوز الشعر العربي وشعر العامّية الفصحي، وصعد به إلى منصة الغناء السوداني. اختار من عميق التاريخ العربي دررا من أبي فراس الحمداني و( عضّت على العُناب) ومحمود طه المهندس ومحمود عباس العقاد وشاعر الدهليز توفيق صالح جبريل ومحمد المهدي المجذوب وتاج السر الحسن والحسين الحسن والدكتور حسن عباس صبحي وعبد الوهاب هلاوي وأبو آمنة حامد ومحمد الفيتوري والتيجاني حاج موسى وصديق مدثر وعبد العزيز جمال الدين وكثيرون من الشعراء غيرهم، ومن شعره أيضا كذلك، وضع ألحانا متنوعة، تنهل من تراث أهل السودان بتنوعه في الموسيقى ذات السلم الخماسي. إلى قمة ابداع التراثي عابرا نماذجه تنهل من التراث، تحفظ تراثنا من الضياع. وقد لون التراث بتعديلاته التي اعترف بها في توافقية، تنحني أمام مجد تراث السودانيين بأعماقه الثرية. وله باع في أبحاث التراث كباحث مناضل ومجتهد.
(2)
وأمطرت لؤلؤا:
توجست خيفة من كم الوثوق لدى ثلة من المحتفلين بمقدم الكابلي. احترنا بين نسبة القصيدة كما يشاع من أنها ليزيد بن معاوية، ومن نسبتها للوأواء الدمشقي. فالأول هو ثاني الخلفاء الأمويين وامتد حكمه بعد رحيل والده معاوية بن أبي سفيان، في القرن الأول الهجري. رغم ما نسب إلى يزيد بن معاوية من شعر وقصيد هو شعر شعراء غيره.
وقد عانى القدماء في ديوان يزيد بن معاوية ما عانوا، فقد شهد ابن خلكان بصحيحه ومنحوله، وشكّ العيني في صحّته فقال بأن يزيد نحل شعرا لم يثبت أنه له. والحق أنه انتحل أبياتا من شعر جرير، وخدع به أباه معاوية بأن الأبيات الشعرية له:
فردي جمال البين ثم تحملي.. فما لك فيهم من مقامٍ ولا ليا
أدني الحيران يوما وقدتهم.. وفارقت حتى ما تصب جماليا
*
وقد يقال أن ليزيد بن معاوية شعر رقيق، ولكن أفعاله ومكره ومقتله عبدالله بن الزبير وهو معلقا أمام الكعبة لثلاث أيام، حتى قالت أمه أسماء ابنة ابي بكر الصديق ( أما آن لهذا الفارس أن يترجّل) فصار قولها مثلا تسير به الركبان. ومجزرة كربلاء التي استشهد فيها الحسين بن علي، و على رقبته وزر ما تم. لم تترك أفعاله رقة شعرية، فقد بطر بالخلافة وملك الإماء باليمين، فلم ترق لأحد جواريه أن يقول فيها:
وَأَمْطَرَتْ لُؤلُؤاً منْ نَرْجِسٍ وَسَقَـتْ .. وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى العُـنَّابِ بِالبَـرَدِ
أما الوأواء الدمشقي فقد كان عهده في القرن السادس الهجري، ولم يكن له كثير اهتمام بالسلطان فقد ولد فقيرا، (محمد بن أحمد العناني الدمشقي أبو الفرج) وهو اسمه، شاعر مطبوع، حلو الألفاظ: في معانيه رقة، ونغلّب الظن في نسبة قصيدة عبدالكريم الكابلي إليه لرقة أشعاره خلال النماذج التي نوردها من ديوانه:
**
يدافع زهو التيه أعطاف دلّها.. فتحسبها نوى وما شربتْ خمرا
وتظهر لي من تحت أزرار جيبها.. إذا ما بدت من كل ناحية بدرا
**
كأن بقوس النون تحت نقابها.. هلالا بدا للفطر في غرة الشهر
تجاهل خبرا ضوؤه أن فوقه .. لما استحسنته العين غيما على بدر
**
أو مثل ضوء هلال وصلٍ لاح لي.. بالسّعد بين سحابتي هجر
خُلقت محاسنه عليه كما اشتهى .. وخلقتُ ما لي عنه من صبر
**
فلربّ ليل ضّل عنه صباحه.. فكأنه بك خطرة المتفكر
والبدر أول ما بدا متلثما .. يبدي الضياء لنا بخدٍ مسفر
**
ناولني من كفه قهوة.. تضيء من نار ومن نور
ضياؤها في الكأس ياقوتة.. تضحك في أحشاء بلور
**
أيا هذه إن السحاب التي تسري.. بكت لبكائي رحمة وهي لا تدري
فلو لم تجد وجدي إذن ما تشابهت.. بروحي التي تفنى ودمعي الذي يجري
ولو قبِل المحبوب في الحب فدية.. وهبت له روحي وقاسمته عمري
**
(3)
من أشعار يزيد بن معاوية:
ألاَ فَامْلَ لِي كَاسَاتِ خَمْـرٍ وَغَنِّنِـي بِذِكْـرِ سُلَيْمَـى وَالرَّبَـابِ وَتَنَعّمِ
وَإيَّـاكَ ذِكْـرَ العَـامِـرِيَّـةِ إِنَّنِـي أَغَـارُ عَلَيْـهَا مِـنْ فَـمِ المُتَكَلِّـمِ
أَغَـارُ عَلَـى أَعْطَافِهَـا مِنْ ثِيَابِهَـا إذَا لَبَسَتْـهَا فَـوقَ جِسْـمٍ مَنَعَّـمِ
وَأَحْسُـدُ كَاسَـاتٍ تُقَبِّـلُ ثَغْرَهَـا إِذَا وَضَعَتْهَا مَوْضِعَ اللَّثْـمِ فِي الفَـمِ
**
طرقْتكَ زينَبُ والرِّكَـابُ مُناخَـةٌ بِجنوبِ خَبٍت والنَّـدى يَتَصَبَّـبُ
بثنيّـة العَلَمَيْـنِ وهْنـاً بَعـدَمـا خَفَقَ السِّماكُ وجَاوزَتْـهُ العَقـرَبُ
فَتَحيَّـةٌ وسَـلامَـةٌ لِخَـيـالِهَـا ومَعَ التَّحِيَّـةِ والسَّلامـةِ مَرْحَـبُ
أَنَّى اهتَدَيْتِ، وَمَنْ هَـدَاكِ وَبَيْنَنـا فَلْـجٌ فَقُلَّـةُ مَنْعِـجٍ فالـمَرْقَـبُ
(4)
اعتمد عبد الكريم الكابلي على النص المنسوب إلى يزيد بن معاوية، ولم يتضمن أبياتا من الشعر حسب نسبتها للوأواء الدمشقي في ذات القصيدة كما نوردها فيما يلي:
**
وَعَقْرَبُ الصُّدْغِ قَدْ بَانَتْ زُبانَتُهُ وَنَاعِسُ الطَّرْفِ يَقْظانٌ عَلى رَصَدي
إِنْ كانَ في جُلَّنارِ الخَدِّ مِنْ عَجَبٍ فَالصَّدْرُ يَطْرَحُ رُمَّاناً لِمَنْ يَرِدِ
وَخَصْرُهَا نَاحِلٌ مِثْلِـي عَلَى كَفَـلٍ مُرَجْرَجٍ قَدْ حَكَى الأَحْزَانَ فِي الخَلَـدِ
وَأَنْشَـدَتْ بِلِسَـانِ الحَـالِ قَائِلَـةً مِنْ غَيْرِ كَـرْهٍ وَلاَ مَطْـلٍ وَلاَ مَـدَدِ
فَأْسْرَعَتْ وَأَتَتْ تَجرِي عَلَى عَجَـلٍ فَعِنْدَ رُؤْيَتِـهَا لَمْ أَسْتَطِـعْ جَلَـدِي
وَجَرَّعَتْنِـي بِرِيـقٍ مِـنْ مَرَاشِفِـهَا فَعَادَتْ الرُّوحُ بَعْدَ المَوْتِ فِي جَسَدِي
(جُلنار: فارسية معناها: زهر الرمان)
**
ومن المقارنة بين شعر يزيد بن معاوية من طرف، وكذلك من شعر الوأواء الدمشقي كطرف ثان، يدرك القارئ لأي منهما تنسب القصيدة مدار المقال. ونحن نُرجح أن القصيدة للوأواء، فقد طبع ديوانه المستشرق الروسي الأستاذ أغناطيوس كرالتشقوفسكي عن مخطوطات ست، وترجمه وقدم له بالروسية، فهبط الشرق وأقام بين شعوبه، يقرأ وينقل ويدقّق ويصحّح حتى أتمّه، وقام بطبعه سنة 1913. فالشاعر الوأواء عربي صِرف في نسبه، ولغته. وذكر القفطي نقلا عن ابن عبدالرحيم في طبقات الشعراء، لم يقع في ديوانه على فخر له بأبيه أو أسرته، فهو فقير يقوم بأود بيته ولا سبيل له إلا العمل. لقد واظب في شبابه على قراءة الدواوين وظهرت في شعره، فقد حفظ من أشعار أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة وابن المعتز وأبي تمام والبحتري وأعجب بالمتنبي.
*
وقع في ديوان الوأواء ما يقع في غيره، فنسب شعره إلى من يشبهه في الكنُية كأبي الفرج بن هندو أو ما يقاربه في اللفظ كالوقواق, كذلك من عاصره كأبي الفتح كشام والصنوبري وأبي فراس الحمداني وابن المعتز وابن طباطبا والخبّاز البلدي والنامي والمهلبي ويزيد بن معاوية.
عبدالله الشقليني
2 مارس 2020
alshiglini@gmail.com