الكلية الحربية: مصنع الرجال وعرين الأبطال
فيصل بسمة
4 June, 2022
4 June, 2022
بسم الله الرحمن الرحيم و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
مقدمة:
و كانت خلاصةُ مقالٍ سابقٍ عن الجيش و العسكريين هي أن:
- للقوات المسلحة المهنية المحترفة التي تقودها قيادات حسنة التدريب و التأهيل و تلم جيداً بدورها و مهامها الدفاعية دورٌ محوري في حماية أمن و مصالح الشعوب السودانية ، و لكن بعيداً عن التدخل في السياسة...
- هنالك إعتقاد راسخ لدى الكثير من العسكريين و قطاعات من البسطآء و بعض من النخب بأن العسكريين هم ”الأوصيآء“ على مصالح جميع الشعوب السودانية ، و الأجدر بالقيادة و الإدارة و الحكم...
- قرآئن الأحوال ترجح أن تلك الإعتقادات نابعة من مناهج التعليم و برامج التدريب في المعاهد العسكرية التي ترسخ في أذهان العسكريين أنهم أفضل من المَلَكِيَة (المدنيين) ، و أنهم يتفوقون عليهم بدرجات عديدة في الإنضباط و المقدرة على العمل و الفعل و الإنجاز...
- الأطماع و التحالفات السياسية الغير راشدة و تدخلات العسكر المتسرعة تنتج الحكم غير الرشيد و الفساد...
الموضوع:
هذه الإعتقادات و سلوك بعض من العسكريين تزيد من الرغبة في معرفة سيرة العسكري من لحظة إختياره و إنضمامه إلى الكليات و المعاهد العسكرية مروراً بتخرجه ثم ممارسته للعسكرية كمهنة ثم متابعة مراحل تدريبه و تعليمه اللاحقة و تأهيله مقاتلاً محترفاً حتى مرحلة (تجنيده وصياً) يمتلك المقدرة على الإستيلآء على السلطة بقوة السلاح و التدخل في أمور السياسة و الحكم...
الرغبات العسكرية:
الشآئع هو أن الرغبات في الإنضمام إلى السلك العسكري تنشأ في الأشخاص عند مرحلة الطفولة:
دَاير أبقىَٰ ضابط...
و لهذه الرغبات و التعلق بالعسكرية علاقة بما يشاهده و يلمسه الفرد في المجتمع من مكانة العسكريين العالية و الإمتيازات الإستثنآئية التي تمنحها لهم الدولة و الهيبة و الإحترام التي يوفرها لهم المجتمع خصوصاً لأولئك الضباط من أصحاب الرتب الرفيعة...
و الحقيقة هي أن الدولة توفر الكثير من الإمتيازات للعسكريين و ذلك إعترافاً منها بالمخاطر الحقيقية التي تحيط بالعمل العسكري و تقديراً للدور المهم الذي تقوم به القوات النظامية في حفظ الأمن و الدفاع عن الوطن...
و يرى صاحبنا و كثيرون أن هذه الإمتيازات مشروعة و مستحقة ، و هكذا هو الحال مع الكثير من المهن و الوظآئف الأخرى المهمة التي تتطلب الجهد و التضحيات الأجسام ، و يعتقد صاحبنا و كثيرون أن جميع المهن ، و دون إستثنآء ، مهمة و لا تخلو من الجهد و التضحيات العظام ، فمثلاً عامل الأَلطَة (المراحيض) يضحي و يجازف كثيراً بتعامله اللصيق مع ما تخرجه المؤخرات و العورات من الإفرازات السامة و الروآئح النتنة...
و من مظاهر تطور تلك الرغبات العسكرية الطفولية عملية الإنضمام إلى فرق الكَدِيت Cadets في المرحلة الثانوية ، و هي جماعات يشرف عليها تَعلَمجِيَة (معلمون) من معاشي القوات المسلحة يقومون بتدريب و تعليم الطلاب الإنضباط و مباديء الفنون العسكرية القتالية و فن الرماية...
الإلتحاق بالكليات و المعاهد العسكرية:
تلتحق شرآئح مختلفة من الطلاب من خريجي المدارس الثانوية في بلاد السودان بالكلية العسكرية السودانية (مصنع الرجال/عرين الأبطال) بينما تنضم شرآئح أخرى إلى كليات القوات النظامية الأخرى ، و يكون الإلتحاق لعدة الأسباب:
١- شريحة إختارت الإنضمام إلى القوات النظامية بمحض إرادتها عشقاً لمهنة العسكرية و عن رغبة أكيدة في الإنتمآء إليها ، و هذه الشريحة قيل عنها أنها صادقة و مهنية و محترفة و مقاتلة ، تعشق الفدآء و لا تهاب الأعدآء ، و على إستعداد للتضحية بالأرواح و بكل غالي و نفيس دفاعاً عن الوطن...
٢- شريحة محبة للعسكرية بصورة عظيمة و تحب العنف و القتال و المصادمة ، هذه الشريحة تضم شخصيات هوايتها الأسلحة بأنواعها المختلفة و الرماية ، و تعشق أجوآء المعارك و المطاردة و الإشتباك و القتال ، و لها ميول و نزعات غير عادية إلى القتال و القيادة و الزعامة ، و هنالك من يعتقد أن هذه الشريحة تضم شخصيات تكاد في طبيعتها و ممارستها تفارق السلوك العادي و الخلق السوي ، و أنها شخصيات تجد في العسكرية و الإنضمام إلى القوات المسلحة و الأجهزة النظامية الأخرى بغيتها التي تتيح لها تحقيق المآرب الخآصة و تغطية العيوب عن طريق تحويل الهواية ”الغير طبيعية“ إلى وظيفة محترمة معترف بها ، و إلى مهنة إحترافية تحت حماية القانون...
٣- شريحة إنضمت إلى القوات المسلحة (الجيش) و قوات الشرطة و جهاز الأمن بتوصيات من: زعيم الطآئفة و المرشد و اللجان المركزية و المكاتب القيادية في الأحزاب السياسية حتى تكون الأفراد (من الأعضآء) عيناً و عوناً و سنداً للزعيم و المرشد و الأحزاب في مقبل الأيام:
- عندنا أولادنا...
- و ما في زول يضمن بكرة يكون كيف...
- و فيهو شنو لما يكون عندك ناس في الجيش... ما كل زول عندو زول في الجيش!!!...
- و كمان الحرص واجب... و لا مش كده؟...
٤- شريحة إنسدت أمامها فرص القبول في المجال الأكاديمي في الجامعات و المعاهد في داخل و خارج السودان فحدثت أنفسها:
- و أَهُو بالمرة نَخُش حاجة نظامية: جيش... شرطة... أمن... حرس حدود... أو... مطافيء... دفاع مدني... الغابات و الحياة البرية...
- و أهو كلو خدمة نظامي... و قوات... و لبس ظباط... و الكَاكِي قيافات... يجذب البنات...
- و أهو برضك أحسن من العطالة... و تَبرِيم الشعر... و من بناطلين الجينز المَشَرَّطَة... و قُعَاد الضَّلَلَة... و مشاغلة البنات... و لَمَّات الكوتشينة... و كل يوم فطور و عشا فول...
- و كمان وظيفة ثابتة... و دخل محترم... كَنَاجِيل تناطح كَنَاجِيلَ... و إمتيازات... و ميز... و دبابير... و تعظيم سلام... و معاش تمام... و آخر إحترام...
٥- شريحة (فلان الأبوهو اللوآء علان و قريبو الفريق فلتكان) ، و هي شريحة (صِحَيت/لِقَيت) وجدت نفسها في الدِّيش (الجيش):
- صِحِيت ليك كده و لِقِيت ليك نفسي دَيَاشِي في الكلية...
- و تسألني كيف؟...
- أقول ليك ما عارف... لكن الوالد عاوز كده و الوَاسطَة قوية...
كما أن:
مع الكَاكِي ما في كلام...
قروش أكوام...
و بِسُوق قِدَّام...
و تعظيم سلام...
كما أن الكَاكِي غرام...
و تعشقه البلوم و جميع أنواع الحمام...
و هنالك شرآئح إستثنآئية غير الشرآئح أعلاه مثل:
١- شريحة (الكوادر) الخآصة التي أوصى ”التنظيم“ بضمها إلى القوات النظامية عقب نجاح الإنقلاب العسكري...
٢- شريحة غير المقاتلين من المهنيين التي إختارت السلك العسكري بعد التأهيل الأكاديمي ، و التي إستقطبها الجيش و القوات النظامية الأخرى بإغرآءات الرتب الرفيعة و الإمتيازات حتى تسد حوجتها في مجالات مثل: الهندسة و الطب و القانون و المحاسبة و الموسيقى و غيرها من الإحتياجات...
٣- شريحة الدمج و الإندماجات فيما بعد الحوارات الوطنية و إتفاقيات السلام المتعددة التي تحمل أسمآء عواصم و مدن العالم المختلفة ، و تشمل هذه الشريحة: الساقطة و الأرزقية و الطفيلية المسلحة القادمة من الخلآء مع جيوش التمرد و الحركات الشعبية و مليشيات المرتزقة و ناس (رتبة لله يا محسنين) و (زولنا لازم يتم إستيعابو)...
و هكذا هي القوات النظامية بجميع مسمياتها تضم إلى صفوفها أطياف متنوعة من الشخصيات تعكس جميع تقلبات الشخصية الإنسانية و كذلك أمزجة كل/أغلب الشعوب السودانية...
العسكر و الإمتيازات:
و كما تقدم و نسبة لما يحيط بالخدمة العسكرية و حمل السلاح و القتال في ميادين المعارك و حماية الثغور و حفظ الأمن من مخاطر عظيمة تهدد الأنفس فإن الدولة و تقديراً منها لهذه التضحيات الجسام تقدمُ في المقابل الكَنَاجِيلَ التي (ما خَمَج) و الإمتيازاتِ العديدة السخية و الحصرية و كل (الذي منو) حتى تضمن للعسكر (الرَّاحات) التي تتضمن الإستثنآءات في السفر و العلاج و تعليم الأبنآء و الترفيه و العديد من الخدمات و (المناشط المدنية) الأخرى...
و يبدوا أن الإنتمآء إلى القوات النظامية شرف عظيم يتباهىَٰ به المنتسبون إليها:
قوات نظامية...
و هي عبارةٌ حين ينطق بها النظامي في كبريآء و في مختلف المواقع المَلَكِيَة (المدنية) تخرس الألسن و يكون الخضوع و الإنصياع و تُنَفَذُ الأوامر و الطلبات ، و معلوم أن هذه العبارة هي بطاقة الإمتياز التي تتيح (لجنابو/سعادتو) تخطي الرقاب و الصعاب و القوانين الملكية و جميع أنواع الصفوف:
رغيف... بنزين... غاز... تموين... مطارات... جوازات... مكاتب حكومية... بنوك... سينما... إستاد... و خلافو...
و إذا ما حدث تزمر أو إعتراض من قبل الجمهور يأتيك الرد الحاسم السريع:
- قوات نظامية... ثابت مكانك... و ما تغلط فينا... و أعمل حسابك يا زول...
- و إنت الكلام ده ما قدرو... و بكون في كلام تاني لو رفعناك و سُقنَاك...
هذه إلى جانب ميزة (قوة السلاح الناري) و القوة التابعة من الأفراد التي تطيع الأوامر و (ترفع) و تمارس الترويع و الإرهاب و الإعتدآء على الناس و الإغارة على أقسام الحوادث في المستشفيات و أقسام الشرطة و الأحيآء و كذلك ضرب و أحياناً قتل الشعوب السودانية بحجة ”نجدة الزميل“ و نصرته ظالماً أو مظلوماً و دعاوى أخرى مثل حفظ الأمن و منع الفوضى ، و (كلو) تحت حماية القانون و الحصانة العسكرية...
و الشاهد أن الطلبة الحربيين و النظاميين الآخرين يتم تعليمهم و تدريبهم في الكليات و المعاهد العسكرية أن إختيارهم سلك العسكرية يعني بالضرورة أنهم متفردون و متميزون ، و أن الولوج في المجال العسكري يعني القوة و البأس و العزيمة و القدرة على القيادة ، و أن الطلبة الحربيين و بإختيارهم العسكرية قد نبذوا الحياة الملكية الهَوَان إلى الأبد:
- عسكري!!!... أجمع....
- و أول حاجة يا نفر... لازم تسمع كلام السِّينَير Senior... و تحيهو... و تضرب ليهو تعظيم سلام... و تقول فندم و حاضر سعادتك/جنابك...
- و يا طالب حربي... يجب أن تنسى الحياة الملكية... و كل الوسخ و الكلام الغلط اللي إتعلمتوا في الملكية... و تطلق كل ذلك طلاق تلاتة الما فيهو رجعة...
- و تقطع الذي بينك و بين الملكية... و ترميهو ورآء ظهرك أو تَدِيهُو للكلب...
- إنت جيت هنا عشان تبقى راجل... و إخترت بَرَاك (وحدك) مصنع الرجال... و نحنا يا هو ديل البِنعَلِّمَك الرجالة... و العسكرية هي الرجالة...
- و الما داير الشغل ده... و ما بقدر عليهو أحسن يعمل خلف دور... و يا هو داك درب الملكية... و ما عندنا خانة لعيال عَوِين...
و العوين هو جنس الإناث...
و هكذا يتم إحتقار جميع سابق الحياة الملكية (الهَوَان) و إزدرآءها في عملية مدروسة و ممنهجة لغسل و إعادة برمجة الأدمغة الغضة التي إختارت سلك العسكرية و التي يتم إبلاغها أنها حتى و لو عادت إلى الملكية (الحياة المدنية) تكون أوزانهم قد تغيرت:
لو رَجَّعُو الملكية...
دياشي يوزن مية...
و هكذا تسير الحياة العسكرية النظامية ، و هكذا يتم غرس مباديء الخضوع و الإنصياع للأوامر العليا في ذهن العسكري و كذلك ترسيخ العديد من المفاهيم الإستعلآئية التي تتدرج حتى تبلغ مرحلة تعميق مبدأ القيادة و (الوصاية) و كذلك المقدرة على القيام بالإنقلاب إذا أسأ الملكية إستخدام السلطة و إدارة الدولة و كثيراً ما يفعلون...
يتم كل ذلك مع التأكيد على أن العسكري المقاتل شخص قيادي منضبط و إستثنآئي و خآص و لديه إمتيازات و قوانين و حصانة غير تلك التي تحكم الحياة الملكية الرخوة و الغير منضبطة...
ثم بعد التخرج يتم عزل العسكريين عن الملكية في ثكناتهم و أحيآءهم المميزة المحروسة بالسلاح و التي يصعب الدخول إليها أو الإقتراب منها أو التصوير!!!...
و يستمر التدريب و التأهيل و الترقيات حيث يتم الإبتعاث المدفوع الأجر إلى المعاهد و الكليات و الدورات ، داخل و خارج السودان ، بغرض إعادة صياغة (الأفراد) بما يتناسب مع عقيدة و إحتياجات القوات النظامية...
و مع التأهيل و الترقي تزداد الإمتيازات و الإستثنآءات و كذلك الإبتعاد عن التواصل مع (الملكية) طبعاً مع إستثنآء التواصل مع الوسطآء من الكوادر الحزبية الملكية المختصة بتجنيد العناصر العسكرية ، ثم عند بلوغ مرحلة (الوصاية) على الشأن العام يتقدم العسكري (الحريص) لإذاعة البيان الأول ثم إصدار المراسيم الجمهورية المؤقتة من ذات الأرقام و ذلك حتى تحين أوقات الإستفتآء و التتويج رئيساً للبلاد تعلو رأسه القبعة العسكرية ذات الزراكش ، و ترصع كتفيه السيوف و النجوم الذهبية ، و تزين صدره النياشين ذات الألوان ، و يتقدم موكبه الحرس على الدراجات النارية و السيارات السريعة من ذات الدفع الرباعي ، و حينها تصبح ملحوظات (الريس) و نظراته أوامر تسوق الخصوم و المعارضين إلى الزنازين أو المشانق أو الدفن أحيآء بالقرب من الدَّروَات ، و المفرد دَروَة و هي مكان ضرب النار (الرماية)...
ختاماً:
و بعد هذا المرور السريع على سيرة العسكري ثقيل الوزن فيبدوا أنه على كل من لم يسعفه الحظ في الإلتحاق بالكلية الحربية (مصنع الرجال/عرين الأبطال) أو بأحد من المصانع و العرآئن الأخرى الإختيار ما بين أمرين: ندب الحظ العاثر على ضياع هذه الإمتيازات السخية أو حمد الله حمداً كثيراً على النجاة من هذا الإبتلآء العظيم...
ملحوظة:
تعريف العسكري لا يشمل المتمردين و مليشيات الجنجويد و المرتزقة...
و الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
فيصل بسمة
fbasama@gmail.com
/////////////////////
مقدمة:
و كانت خلاصةُ مقالٍ سابقٍ عن الجيش و العسكريين هي أن:
- للقوات المسلحة المهنية المحترفة التي تقودها قيادات حسنة التدريب و التأهيل و تلم جيداً بدورها و مهامها الدفاعية دورٌ محوري في حماية أمن و مصالح الشعوب السودانية ، و لكن بعيداً عن التدخل في السياسة...
- هنالك إعتقاد راسخ لدى الكثير من العسكريين و قطاعات من البسطآء و بعض من النخب بأن العسكريين هم ”الأوصيآء“ على مصالح جميع الشعوب السودانية ، و الأجدر بالقيادة و الإدارة و الحكم...
- قرآئن الأحوال ترجح أن تلك الإعتقادات نابعة من مناهج التعليم و برامج التدريب في المعاهد العسكرية التي ترسخ في أذهان العسكريين أنهم أفضل من المَلَكِيَة (المدنيين) ، و أنهم يتفوقون عليهم بدرجات عديدة في الإنضباط و المقدرة على العمل و الفعل و الإنجاز...
- الأطماع و التحالفات السياسية الغير راشدة و تدخلات العسكر المتسرعة تنتج الحكم غير الرشيد و الفساد...
الموضوع:
هذه الإعتقادات و سلوك بعض من العسكريين تزيد من الرغبة في معرفة سيرة العسكري من لحظة إختياره و إنضمامه إلى الكليات و المعاهد العسكرية مروراً بتخرجه ثم ممارسته للعسكرية كمهنة ثم متابعة مراحل تدريبه و تعليمه اللاحقة و تأهيله مقاتلاً محترفاً حتى مرحلة (تجنيده وصياً) يمتلك المقدرة على الإستيلآء على السلطة بقوة السلاح و التدخل في أمور السياسة و الحكم...
الرغبات العسكرية:
الشآئع هو أن الرغبات في الإنضمام إلى السلك العسكري تنشأ في الأشخاص عند مرحلة الطفولة:
دَاير أبقىَٰ ضابط...
و لهذه الرغبات و التعلق بالعسكرية علاقة بما يشاهده و يلمسه الفرد في المجتمع من مكانة العسكريين العالية و الإمتيازات الإستثنآئية التي تمنحها لهم الدولة و الهيبة و الإحترام التي يوفرها لهم المجتمع خصوصاً لأولئك الضباط من أصحاب الرتب الرفيعة...
و الحقيقة هي أن الدولة توفر الكثير من الإمتيازات للعسكريين و ذلك إعترافاً منها بالمخاطر الحقيقية التي تحيط بالعمل العسكري و تقديراً للدور المهم الذي تقوم به القوات النظامية في حفظ الأمن و الدفاع عن الوطن...
و يرى صاحبنا و كثيرون أن هذه الإمتيازات مشروعة و مستحقة ، و هكذا هو الحال مع الكثير من المهن و الوظآئف الأخرى المهمة التي تتطلب الجهد و التضحيات الأجسام ، و يعتقد صاحبنا و كثيرون أن جميع المهن ، و دون إستثنآء ، مهمة و لا تخلو من الجهد و التضحيات العظام ، فمثلاً عامل الأَلطَة (المراحيض) يضحي و يجازف كثيراً بتعامله اللصيق مع ما تخرجه المؤخرات و العورات من الإفرازات السامة و الروآئح النتنة...
و من مظاهر تطور تلك الرغبات العسكرية الطفولية عملية الإنضمام إلى فرق الكَدِيت Cadets في المرحلة الثانوية ، و هي جماعات يشرف عليها تَعلَمجِيَة (معلمون) من معاشي القوات المسلحة يقومون بتدريب و تعليم الطلاب الإنضباط و مباديء الفنون العسكرية القتالية و فن الرماية...
الإلتحاق بالكليات و المعاهد العسكرية:
تلتحق شرآئح مختلفة من الطلاب من خريجي المدارس الثانوية في بلاد السودان بالكلية العسكرية السودانية (مصنع الرجال/عرين الأبطال) بينما تنضم شرآئح أخرى إلى كليات القوات النظامية الأخرى ، و يكون الإلتحاق لعدة الأسباب:
١- شريحة إختارت الإنضمام إلى القوات النظامية بمحض إرادتها عشقاً لمهنة العسكرية و عن رغبة أكيدة في الإنتمآء إليها ، و هذه الشريحة قيل عنها أنها صادقة و مهنية و محترفة و مقاتلة ، تعشق الفدآء و لا تهاب الأعدآء ، و على إستعداد للتضحية بالأرواح و بكل غالي و نفيس دفاعاً عن الوطن...
٢- شريحة محبة للعسكرية بصورة عظيمة و تحب العنف و القتال و المصادمة ، هذه الشريحة تضم شخصيات هوايتها الأسلحة بأنواعها المختلفة و الرماية ، و تعشق أجوآء المعارك و المطاردة و الإشتباك و القتال ، و لها ميول و نزعات غير عادية إلى القتال و القيادة و الزعامة ، و هنالك من يعتقد أن هذه الشريحة تضم شخصيات تكاد في طبيعتها و ممارستها تفارق السلوك العادي و الخلق السوي ، و أنها شخصيات تجد في العسكرية و الإنضمام إلى القوات المسلحة و الأجهزة النظامية الأخرى بغيتها التي تتيح لها تحقيق المآرب الخآصة و تغطية العيوب عن طريق تحويل الهواية ”الغير طبيعية“ إلى وظيفة محترمة معترف بها ، و إلى مهنة إحترافية تحت حماية القانون...
٣- شريحة إنضمت إلى القوات المسلحة (الجيش) و قوات الشرطة و جهاز الأمن بتوصيات من: زعيم الطآئفة و المرشد و اللجان المركزية و المكاتب القيادية في الأحزاب السياسية حتى تكون الأفراد (من الأعضآء) عيناً و عوناً و سنداً للزعيم و المرشد و الأحزاب في مقبل الأيام:
- عندنا أولادنا...
- و ما في زول يضمن بكرة يكون كيف...
- و فيهو شنو لما يكون عندك ناس في الجيش... ما كل زول عندو زول في الجيش!!!...
- و كمان الحرص واجب... و لا مش كده؟...
٤- شريحة إنسدت أمامها فرص القبول في المجال الأكاديمي في الجامعات و المعاهد في داخل و خارج السودان فحدثت أنفسها:
- و أَهُو بالمرة نَخُش حاجة نظامية: جيش... شرطة... أمن... حرس حدود... أو... مطافيء... دفاع مدني... الغابات و الحياة البرية...
- و أهو كلو خدمة نظامي... و قوات... و لبس ظباط... و الكَاكِي قيافات... يجذب البنات...
- و أهو برضك أحسن من العطالة... و تَبرِيم الشعر... و من بناطلين الجينز المَشَرَّطَة... و قُعَاد الضَّلَلَة... و مشاغلة البنات... و لَمَّات الكوتشينة... و كل يوم فطور و عشا فول...
- و كمان وظيفة ثابتة... و دخل محترم... كَنَاجِيل تناطح كَنَاجِيلَ... و إمتيازات... و ميز... و دبابير... و تعظيم سلام... و معاش تمام... و آخر إحترام...
٥- شريحة (فلان الأبوهو اللوآء علان و قريبو الفريق فلتكان) ، و هي شريحة (صِحَيت/لِقَيت) وجدت نفسها في الدِّيش (الجيش):
- صِحِيت ليك كده و لِقِيت ليك نفسي دَيَاشِي في الكلية...
- و تسألني كيف؟...
- أقول ليك ما عارف... لكن الوالد عاوز كده و الوَاسطَة قوية...
كما أن:
مع الكَاكِي ما في كلام...
قروش أكوام...
و بِسُوق قِدَّام...
و تعظيم سلام...
كما أن الكَاكِي غرام...
و تعشقه البلوم و جميع أنواع الحمام...
و هنالك شرآئح إستثنآئية غير الشرآئح أعلاه مثل:
١- شريحة (الكوادر) الخآصة التي أوصى ”التنظيم“ بضمها إلى القوات النظامية عقب نجاح الإنقلاب العسكري...
٢- شريحة غير المقاتلين من المهنيين التي إختارت السلك العسكري بعد التأهيل الأكاديمي ، و التي إستقطبها الجيش و القوات النظامية الأخرى بإغرآءات الرتب الرفيعة و الإمتيازات حتى تسد حوجتها في مجالات مثل: الهندسة و الطب و القانون و المحاسبة و الموسيقى و غيرها من الإحتياجات...
٣- شريحة الدمج و الإندماجات فيما بعد الحوارات الوطنية و إتفاقيات السلام المتعددة التي تحمل أسمآء عواصم و مدن العالم المختلفة ، و تشمل هذه الشريحة: الساقطة و الأرزقية و الطفيلية المسلحة القادمة من الخلآء مع جيوش التمرد و الحركات الشعبية و مليشيات المرتزقة و ناس (رتبة لله يا محسنين) و (زولنا لازم يتم إستيعابو)...
و هكذا هي القوات النظامية بجميع مسمياتها تضم إلى صفوفها أطياف متنوعة من الشخصيات تعكس جميع تقلبات الشخصية الإنسانية و كذلك أمزجة كل/أغلب الشعوب السودانية...
العسكر و الإمتيازات:
و كما تقدم و نسبة لما يحيط بالخدمة العسكرية و حمل السلاح و القتال في ميادين المعارك و حماية الثغور و حفظ الأمن من مخاطر عظيمة تهدد الأنفس فإن الدولة و تقديراً منها لهذه التضحيات الجسام تقدمُ في المقابل الكَنَاجِيلَ التي (ما خَمَج) و الإمتيازاتِ العديدة السخية و الحصرية و كل (الذي منو) حتى تضمن للعسكر (الرَّاحات) التي تتضمن الإستثنآءات في السفر و العلاج و تعليم الأبنآء و الترفيه و العديد من الخدمات و (المناشط المدنية) الأخرى...
و يبدوا أن الإنتمآء إلى القوات النظامية شرف عظيم يتباهىَٰ به المنتسبون إليها:
قوات نظامية...
و هي عبارةٌ حين ينطق بها النظامي في كبريآء و في مختلف المواقع المَلَكِيَة (المدنية) تخرس الألسن و يكون الخضوع و الإنصياع و تُنَفَذُ الأوامر و الطلبات ، و معلوم أن هذه العبارة هي بطاقة الإمتياز التي تتيح (لجنابو/سعادتو) تخطي الرقاب و الصعاب و القوانين الملكية و جميع أنواع الصفوف:
رغيف... بنزين... غاز... تموين... مطارات... جوازات... مكاتب حكومية... بنوك... سينما... إستاد... و خلافو...
و إذا ما حدث تزمر أو إعتراض من قبل الجمهور يأتيك الرد الحاسم السريع:
- قوات نظامية... ثابت مكانك... و ما تغلط فينا... و أعمل حسابك يا زول...
- و إنت الكلام ده ما قدرو... و بكون في كلام تاني لو رفعناك و سُقنَاك...
هذه إلى جانب ميزة (قوة السلاح الناري) و القوة التابعة من الأفراد التي تطيع الأوامر و (ترفع) و تمارس الترويع و الإرهاب و الإعتدآء على الناس و الإغارة على أقسام الحوادث في المستشفيات و أقسام الشرطة و الأحيآء و كذلك ضرب و أحياناً قتل الشعوب السودانية بحجة ”نجدة الزميل“ و نصرته ظالماً أو مظلوماً و دعاوى أخرى مثل حفظ الأمن و منع الفوضى ، و (كلو) تحت حماية القانون و الحصانة العسكرية...
و الشاهد أن الطلبة الحربيين و النظاميين الآخرين يتم تعليمهم و تدريبهم في الكليات و المعاهد العسكرية أن إختيارهم سلك العسكرية يعني بالضرورة أنهم متفردون و متميزون ، و أن الولوج في المجال العسكري يعني القوة و البأس و العزيمة و القدرة على القيادة ، و أن الطلبة الحربيين و بإختيارهم العسكرية قد نبذوا الحياة الملكية الهَوَان إلى الأبد:
- عسكري!!!... أجمع....
- و أول حاجة يا نفر... لازم تسمع كلام السِّينَير Senior... و تحيهو... و تضرب ليهو تعظيم سلام... و تقول فندم و حاضر سعادتك/جنابك...
- و يا طالب حربي... يجب أن تنسى الحياة الملكية... و كل الوسخ و الكلام الغلط اللي إتعلمتوا في الملكية... و تطلق كل ذلك طلاق تلاتة الما فيهو رجعة...
- و تقطع الذي بينك و بين الملكية... و ترميهو ورآء ظهرك أو تَدِيهُو للكلب...
- إنت جيت هنا عشان تبقى راجل... و إخترت بَرَاك (وحدك) مصنع الرجال... و نحنا يا هو ديل البِنعَلِّمَك الرجالة... و العسكرية هي الرجالة...
- و الما داير الشغل ده... و ما بقدر عليهو أحسن يعمل خلف دور... و يا هو داك درب الملكية... و ما عندنا خانة لعيال عَوِين...
و العوين هو جنس الإناث...
و هكذا يتم إحتقار جميع سابق الحياة الملكية (الهَوَان) و إزدرآءها في عملية مدروسة و ممنهجة لغسل و إعادة برمجة الأدمغة الغضة التي إختارت سلك العسكرية و التي يتم إبلاغها أنها حتى و لو عادت إلى الملكية (الحياة المدنية) تكون أوزانهم قد تغيرت:
لو رَجَّعُو الملكية...
دياشي يوزن مية...
و هكذا تسير الحياة العسكرية النظامية ، و هكذا يتم غرس مباديء الخضوع و الإنصياع للأوامر العليا في ذهن العسكري و كذلك ترسيخ العديد من المفاهيم الإستعلآئية التي تتدرج حتى تبلغ مرحلة تعميق مبدأ القيادة و (الوصاية) و كذلك المقدرة على القيام بالإنقلاب إذا أسأ الملكية إستخدام السلطة و إدارة الدولة و كثيراً ما يفعلون...
يتم كل ذلك مع التأكيد على أن العسكري المقاتل شخص قيادي منضبط و إستثنآئي و خآص و لديه إمتيازات و قوانين و حصانة غير تلك التي تحكم الحياة الملكية الرخوة و الغير منضبطة...
ثم بعد التخرج يتم عزل العسكريين عن الملكية في ثكناتهم و أحيآءهم المميزة المحروسة بالسلاح و التي يصعب الدخول إليها أو الإقتراب منها أو التصوير!!!...
و يستمر التدريب و التأهيل و الترقيات حيث يتم الإبتعاث المدفوع الأجر إلى المعاهد و الكليات و الدورات ، داخل و خارج السودان ، بغرض إعادة صياغة (الأفراد) بما يتناسب مع عقيدة و إحتياجات القوات النظامية...
و مع التأهيل و الترقي تزداد الإمتيازات و الإستثنآءات و كذلك الإبتعاد عن التواصل مع (الملكية) طبعاً مع إستثنآء التواصل مع الوسطآء من الكوادر الحزبية الملكية المختصة بتجنيد العناصر العسكرية ، ثم عند بلوغ مرحلة (الوصاية) على الشأن العام يتقدم العسكري (الحريص) لإذاعة البيان الأول ثم إصدار المراسيم الجمهورية المؤقتة من ذات الأرقام و ذلك حتى تحين أوقات الإستفتآء و التتويج رئيساً للبلاد تعلو رأسه القبعة العسكرية ذات الزراكش ، و ترصع كتفيه السيوف و النجوم الذهبية ، و تزين صدره النياشين ذات الألوان ، و يتقدم موكبه الحرس على الدراجات النارية و السيارات السريعة من ذات الدفع الرباعي ، و حينها تصبح ملحوظات (الريس) و نظراته أوامر تسوق الخصوم و المعارضين إلى الزنازين أو المشانق أو الدفن أحيآء بالقرب من الدَّروَات ، و المفرد دَروَة و هي مكان ضرب النار (الرماية)...
ختاماً:
و بعد هذا المرور السريع على سيرة العسكري ثقيل الوزن فيبدوا أنه على كل من لم يسعفه الحظ في الإلتحاق بالكلية الحربية (مصنع الرجال/عرين الأبطال) أو بأحد من المصانع و العرآئن الأخرى الإختيار ما بين أمرين: ندب الحظ العاثر على ضياع هذه الإمتيازات السخية أو حمد الله حمداً كثيراً على النجاة من هذا الإبتلآء العظيم...
ملحوظة:
تعريف العسكري لا يشمل المتمردين و مليشيات الجنجويد و المرتزقة...
و الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
فيصل بسمة
fbasama@gmail.com
/////////////////////