الكنكشة… صنعة سودانية خالصة !! … بقلم: إبراهيم الكرسني

 


 

 


أثبت الصراع الأخير الدائر على رئاسة إتحاد كرة القدم السوداني حقيقة واحدة وهى أن عقلية " الكنكشة" فى المناصب، أيا كان نوعها، سياسية كانت أم إجتماعية أم رياضية، أو حتى تلك ذات الصلة بمنظمات المجتمع المدني، ومهما تدنى مستواها، هي صناعة سودانية خالصة، بل يمكن إعتبارها، ودون أدنى مبالغة بأنها من مكونات الشخصية السودانية. الكل يعلم الصراع الدائر الآن داخل أروقة إتحاد كرة القدم. و الكل قد فهم كذلك بأن هذا الصراع قد حسم لمصلحة الرئيس الحالى للإتحاد وفقا للقوانين السارية، و أن هذا الملف قد طويت صفحته بصورة نهائية.
 لكن الرئيس السابق للإتحاد لم يقتنع بأمر إستبعاده من خوض الإنتخابات، وفقا للقانون الساري، و الذي ينص بعدم جواز خوض الإنتخابات "الرئاسية" لثلاث دورات متتالية. و بما أننا قد عجزنا عن حل معظم مشاكلنا بصورة ودية داخل السودان، و أصبح حلها بيد الأجانب بالخارج بدءا ببريتوريا، مرورا بالدوحة، و إنتهاءا بنيويورك، فليس من المستغرب أن تضاف زيورخ الى تلك المدن، حيث لجأ إليها رئيس الرئيس "المخلوع" شاكيا "ظلم" ذوى القربي الذى وقع عليه، و راجيا من سلطات الإتحاد الدولى لكرة القدم التدخل السريع لإحقاق حقه فى رئاسة الإتحاد السوداني لكرة القدم الى أبد الآبدين!
لم يخيب الإتحاد الدولى لكرة القدم ظن الرئيس "المخلوع"، حيث أعلن "التعبئة العامة"، وحرك "قوات التدخل الكروى السريع" نحو الخرطوم، ثم قام بإصدار مذكرة شديدة اللهجة يعلن فيها عدم إعترافه بشرعية الإنتخابات التى أجريت مؤخرا، و بالتالي بطلان ما أسفرت عنه من نتائج. ليس هذا فحسب، بل أصدر الفيفا قرارا سريعا و حاسما، ووفقا للفصل "السابع" من "ميثاقه"، يطلب فيه ضرورة إعادة إجراء الإنتخابات مرة أخرى فى موعد لا يتجاوز الخامس عشر من شهر أغسطس الجارى. لكن أهم ما جاء فى هذا "المرسوم" هو ضرورة السماح للرئيس "الخلوع" بخوض هذه الإنتخابات لفترة رئاسية ثالثة وفقا لقوانين الفيفا، و ليس وفقا لقوانين كرة القدم السودانية. بالله عمركم شفتو "قوة عين" أكثر من هذا؟! جهة ما لا تحترم القوانين السارية لديك، بل تقوم بخرقها، ثم تدعوك الى أهمية إحترام قوانينها السارية، بل ضرورة الإلتزام بها!! بالله عليكم أفتونا يا أهل "الكورة" و القانون، و بالأخص القانون الدولي، حول هذه "الغلوتية"!!
إن قرار الفيفا يعتبر نصرا شخصيا للرئيس "المخلوع"... أتعرفون لماذا؟ السبب فى غاية البساطة، و هو أن جهاز الفيفا يعتبر أكثر الأجهزة فسادا فى العالم، بعد هيئة الأمم المتحدة، و هيئاتها المتخصصة، دع عنك من منظمات أخرى كجامعة الدول العربية!! ومن المعروف أن الرئيس "المخلوع" يتمتع بعلاقات شخصية و ثيقة مع السيد رئيس الفيفا و معاونيه، من أمثال السيد رئيس الإتحاد الأفريقي لكرة القدم، حيث أن المسألة يالنسبة لهم لا تخرج عن نطاق "شيلني و أشيلك"، و "قدم السبت عشان تلقى الأحد"! بهذا القرا يضمن السيد رئيس الفيفا الولاء و الدعم الشخصى له من قبل معاونيه الذى سيضمن له ، و بكل تأكيد، الإستمرار فى مسيرته الميمونة فى تصريف شئون "الكورة" العالمية، و بأقل قدر من المخاطر... و "جرادة فى الكف ... و لا ألف طايره"!!
لا أدرى إن كان يتوفر لإتحاد كرة القدم السوداني من العدة و العتاد ما يكفيها لمواجهة هذا التدخل "الأجنبي"، أو أنه سيسقط "شهيدا" فى ساحة المعركة، و يسمح ل "العملاء الأجانب" ب "إستعمار" أراضي كرة القدم السودانية، و تصريف شئونها، الى أن يقضي المولى عز و جل أمرا كان مفعولا؟ وعلى كل حال لن يكون هو أول من دعى الى التدخل الأجنبي، بل سبقه الى إستباحة أرض الوطن كثيرون، و على أعلى المستويات، و الما مصدق عليه أن "يخطف" رجله الى دارفور، أو جبال النوبة!! لكن ما أدركه تماما هو أن الرئيس "المخلوع" سيقود هذه المعركة حتى النهاية، مستقويا بحليفه "الأجنبي"، إلا أن يتحقق له النصر المؤزر، ولو كان ذلك على أشلاء كرة القدم السودانية، بل حتى لو لم تكن هنالك كرة قدم يعتد بها أصلا، لأنه قد أجهز عليها تماما أثناء فترة رئاستيه السابقتين. المهم أن يظل هو رئيسا لإتحاد الكرة حتى لو تدهورت كرة القدم السودانية فى عهد "كنكشته" الى ما دون مستوى "الليق"، ووصلت الى مستويات كرة "الشراب" و "الأزقة"...فتأمل!!
هذا هو الجانب الذى يهمنا فى الموضوع، حيث أن تدهور كرة القدم هو جزء من التدهور العام الذى أصاب جميع مناحي الحياة فى السودان جراء تطبيق نموذج "التوجه الحضاري" المبجل، الذى أنتج لنا جفاف و تصحر فى جميع الميادين، و ميدان كرة القدم لم يكن إستثناءا لهذه القاعدة. لكن "النيران" التى إشتعلت فى هذا الميدان لم يكن المسؤول عنها، و الحق يقال، نظام التوجه الحضارى وحده، بل هنالك عامل آخر يعتبر أكثر أهمية منه، ألا وهو عامل "الكنكشة" الذي تميزت به الشخصية السودانية بصورة عامة، و الرئيس "المخلوع" لإتحاد كرتنا الكسيحة لم يشذ عن هذه القاعدة، و لله الأمر من قبل ومن بعد.
من المعروف أن الرئيس "المخلوع" قد خاض معركته الأولى لرئاسة الإتحاد تحت شعار "التجديد" متهما الرئيس السابق له بالمسؤولية عن تدهور كرة القدم السودانية لأنه قد "طول" فى رئاسة الإتحاد، بمعنى آخر إتهامه ب"الكنكشة" فى كرسي الرئاسة، ولذلك لابد من ضرورة التغيير و إدخال دماء جديدة، إن كان هناك أدنى فرصة للسير بكرة القدم الى الأمام. وقد كان له ما أراد، حيث "أطاح" بالرئيس السابق، و تولى رئاسة الإتحاد لدورتين كاملتين، ثم أصر على الترشح لفترة "رئاسية" ثالثة مخالفا بذلك القوانين السارية، وضاربا بعرض الحائط ما ظل يدعو له من أهمية لتجديد الدماء، بل ذهب الى أكثر من ذلك، و أصر على أن أسلوب "الكنكشة" هو أفضل أسلوب لإدارة شئون كرة القدم السودانية، و كأنه لم يسمع ببيت الشعر/الحكمة القائل، "لا تنهى عن خلق...."، و لكن لله فى خلقه شؤون!!
إن أسلوب "الكنكشة" لا يقتصر على أجهزة كرة القدم السودانية فقط، و لكنه يمتد ليشمل جميع الميادين الأخرى، بدءا من أجهزتنا الرئاسية، مرورا بأحزابنا الوطنية، و إنتهاءا بأصغر جمعية تعاونية فى أصغر قرية فى أكثر مناطق البلاد تهميشا. أنظروا حولكم و تأملوا من كان يحكم السودان، و حتى وقتنا الراهن، وكم من الأعوام قضاها كل منهم، و كيف تخلى عن الحكم؟ لم يشهد السودان إنتخابات نيابية متتالية منذ أن نال إستقلاله وحتى وقتنا الراهن. لذلك فقد ظل جميع حكامه " مكنكشين" فى كراسى الحكم إلى أن يتم الإطاحة بهم، إما بإنقلاب عسكرى، أو بإنتفاضة شعبية. ثم أنظروا الى زعماء أحزابه السياسية. لقد ظل لكل حزب رئيس واحد مدى الحياة، أى منذ توريثه للزعامة، و الى أن يذهب الى رحمة الله، إما موتا طبيعيا أو إعداما، جراء المجرى الدموى، الذى أصبح، و للأسف الشديد، أحد سمات حياتنا السياسية. ثم أنظروا الى منظمات مجتمعنا المدني، فسترون العجب. "شباب" فى الستين من العمر يرأسون تنظيمات شبابه، و نساء على مشارف السبعين يرأسن تنظيماته النسائية، و كأن رحم حواء السودان قد أصيب بالعقم بعد ولادة هؤلاء القادة الأفذاذ، و على جميع المستويات!!
ما هي إذن الأسباب الموضوعية لظاهرة "الكنكشة" وكيف يمكن لنا الخروج من نفقها المظلم؟ أعتقد أن السبب الرئيسى لبروز هذه الظاهرة، و ديمومتها، يكمن فى النمط العشائري و الأبوي الذي يميز المجتمع السوداني، الذي يمكن إختصاره فى مثلنا الدارج " الماعندو كبير... يكوسلو كبير". هذا المثل يشكل القاعدة التى قامت عليها ثقافة "الكنكشة". فالأب هو الآمر الناهي داخل الأسرة الصغيرة. و كبير "العيلة" هو الذى يقوم بهذا الدور على مستوى الأسرة الممتدة. و "الشيخ" هو الذي يؤدى هذا الدور على مستوى العشيرة، ثم يأتى دور "العمدة" على مستوى العشائر المنحدرة من أب واحد، ثم يليه "الناظر على مستوى "القبيلة". إن الثقافة السائدة تبجل هؤلاء الكبار، وتنادى على ضرورة سماع كلمتهم، و إطاعة أوامرهم دون نقاش. إن كلمات من قبيل مناقشة، أو مجادلة، أو رأي، ليس لها مكان فى المجتمع الأبوى، إنما يحل مكانها مفهومي السمع و الطاعة المطلقة داخل هذه الثقافة.
هذا ما كان من أمر جذور هذه الثقافة. أما كيفية الخروج من نفقها، فإننى أدعو السادة علماء السوسيولوجيا الإجتماعية الموقرين أن يدلونا على جذور هذه الثقافة المتعنتة التى حنطت قدرات شبابنا، و على أفضل الأساليب العلمية للتغلب عليها، و الخروج من نفقها المظلم، بأقل الخسائر الممكنة. و الى أن يتم ذلك أتمنى لرئيس إتحاد كرة القدم " المخلوع" التوفيق فى معركته "التاريخية"، و أن يكتب له النصر المبين، بفضل " التدخل الأجنبي"، حتى يظل ضمن زمرة "المكنكنشين" التى تدير شئون البلاد و العباد، الى أن ييسر الله للشعب السوداني، المغلوب على أمره، و الصابر على "مكنكشيه"، كنسهم الى مزبلة التاريخ، غير مأسوف عليهم!!
إذن خلاصة القول أن "الكنكشة" ما هى سوى صنعة سودانية خالصة، خصنا بها المولى عز و جل لتدمير البلاد، و تجفيف منابع الخير و الرفاه فيها. و إلا فما هو السر يا تري فى عاصمة يكاد أن يموت سكانها من العطش، وهي محاطة بثلاثة أنهر؟ وما هو سر تفشى المجاعة فيها وقد حباها المولى عز وجل بأراض زراعية واسعة و خصبة، و مياه وفيرة، مما جعل معظم المختصين يطلقون عليها "سلة غذائية" كامنة، تحتاج لمن يحسن إستثمارها؟ وما هو السر فى تدهور خدماتها الصحية و التعليمية، و خيرة أبنائها و بناتها يقومون بتعليم و تطبيب الآخرين فى مختلف بلاد الله التى هاجروا اليها خوفا من البلد الظالم أهله؟  و ما هو السر فى هجرة مبدعينا، فى جميع المجالات، من البلاد سوى تركها لزمرة " المكنكشين"، لأنه لا مستقبل، ولا فرص لهم فى أرض "الكنكشكة"، وذهبوا الى جميع بلاد الدنيا بحثا عن تلك الفرص التى توفر الحياة الكريمة لهم و لأفراد أسرهم؟
 أسأل الله الكريم أن يزيل هذا البلاء من فوق أرض السودان الطاهرة حتى يتسنى لأبنائه و بناته المخلصين الرجوع اليهـا و يتمكنوا من إزالة آثار "مكنكشيه"، و إعادة إعمارالدمار الذى أحدثوه أثناء فترة "كنكشتهم"، التى إمتدت لعقود من الزمان، وقضت على الأخضر و اليابس!!
4/8/2010
Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]
 

 

آراء