الكوز والعداء الدائم للإشراق والوضوح

 


 

طاهر عمر
28 February, 2024

 

طاهر عمر

هناك ملاحظة مهمة جدا و هي أن السودان ضحية نخب سودانية لاحقة للأحداث على الدوام و هذا ما جعل السودان دائما مردوف خلف مشاريع نهضة ليست من بنات أفكار النخب السودانية بل تجعل السودان و موارده موضع طمع لمصر منذ إحتلال محمد علي باشا للسودان في عام 1821 و حتى اللحظة حيث نجد نظام السيسي الرئيس المصري الذي يؤسس لنظام حكم تسلطي في مصر يريد أن يظل السودان بلا إستقرار سياسي و لا إزدهار مادي ينعكس على إرتفاع مستوى معيشة السودانيين و بالتالي تتسارع طردية إستغلال موارد السودان من أجل خلق نهضة سودانية و هي خصم على جشع مصر و طمعها في موارد السودان التي أصبحت نهبا للمصريين و قد فشلوا في نقل التجربة الصناعية و بالتالي قد أصبحت مصر هيكل لدولة بلا مستقبل كما تحدث عن ذلك الاقتصادي المصري جلال امين في كتابه ماذا حدث للمصريين؟
مصر و مشروع نهضتها الفاشل بداء مع مشروع نهضة اليابان الناجح و يبقى السؤال لماذا نجحت اليابان في إنجاح مشروع نهضتها و فشلت مصر على مدى يقارب القرنيين من الزمن؟ فشلت مصر لأنها لم تدرك ما أدركته النخب اليابانية بأن الرأسمالية قد أنجبت الثورة الصناعية و مفهوم الدولة الحديثة و بالتالي لا ينبغي أن أن ننظر للغرب و حضارته بأنها عدو دائم و أن الرأسمالية شر مطلق كما يعتقد نخب العالم العربي التقليدي.
أرسلت اليابان طلابها لدراسة التجربة الغربية و مراقبة كيفية تطور النظام الرأسمالي في الغرب و نجحت اليابان في نقل تجربة الغرب الصناعية و فشلت مصر بسبب أنها رازحة تحت ظل ثقافة عربية اسلامية تقليدية لا ترى في الحضارة الغربية غير عدو دائم يستحق العداء الأبدي و لم تر مصر التحول في المفاهيم و ما يتعلق بمفهوم الدولة الحديثة التي طبقته اليابان عام 1870 عندما ألغت نظام الإقطاع و أقامت دولة حديثة و نهضت بمهمة نقل التجربة الصناعية الغربية و عبرها قطعت اليابان حبلها السري مع فلسفة التاريخ التقليدية و بداءت فلسفة تاريخ حديثة.
لاحظ الفرق بين اليابان و مصر و بداية اليابان في التحول نحو نقل التجربة الصناعية للغرب نجدها تتزامن مع نهضة الأفغاني و تلميذه محمد عبده إلا أن اليابان ألغت نظام الإقطاع و تحولت نحو مفهوم دولة حديثة تتركز تحت يدها السلطة في وقت أبحر فيه الأفغاني في أمواج هائجة لأمة إسلامية تقليدية لا ترى في الغرب إلا عدو أبدي يجب التذكر دائما بأنه عدو دائم و شر مطلق و هذا ما رسخ في ذهن الكوز السوداني في عداءه للإشراق و الوضوح.
بعد ستة عقود نجحت اليابان في عبور زمن مجتمعها التقليدي و غرقت مصر في تقليديتها بل ظهرت جماعة الأخوان المسلمين عام 1928 كتجسيد لإصرار مصر على تأبيد ايمانها التقليدي و ها هي على حالها و قد مر على ظهور الاخوان المسلمين قرن من الزمن و هم على الدوام في ورطة الفكر الاصولي و إستحالة التأصيل كما يقول محمد أركون.
ما أود قوله في هذا المقال ظل السودان على الدوام ملحق بثقافة عربية إسلامية تقليدية عجزت نخبها بأن تلحق بالتطور الهائل في المفاهيم أي أن مفهوم الدولة كمفهوم حديثه لا تجد له ذكر في نشاط الكوز السوداني و هو حبيس سياجاته الدوغمائية و أسير روح لا تعرف غير عبادة النصوص و حائر و حاقد على إنجاز البشرية في نقلها للمجتمعات من حيز التقليدية الى حيز الحضارة حيث أصبح الإنسان مركز الكون و أصبح تراث الإنسانية في الخمسة قرون الأخيرة يرتكز على فكرة تأليه الإنسان و أنسنة الإله.
و هنا تعتبر نقطة الإنقلاب التي عجزت النخب السودانية على إدراكها لذلك تجد النخب السودانية في حالة دوار على مدى خمسة قرون منذ بداية سلطنة الفونج مرورا بالمهدية و نهاية بالكيزان حركة دائرية تصيبك بالدوار لأن روحها وحل الفكر الديني الذي لم يعرف المثقف السوداني التقليدي منه فكاك.
عكس حالة الدوران الفارغة خلال الخمسة قرون في السودان نجد أن في العالم قد بداءت حركة الإصلاح الديني و النزعة الإنسانية و قد تزامنت مع قيام دولة الفونج الدينية ففي عام 1517 بداءت رحلة الإصلاح الديني و الخروج من المدينة الإلهية حيث تسود دولة الإرادة الإلهية مثلما يتوهم الكيزان اليوم و إتجهت البشرية نحو المدينة الفاضلة حيث تنتصر كلية الفلسفة على كلية اللاهوت بعد قرنيين و نصف بالتمام و الكمال.
فتحت أفكار كالفن و للمفارقة كانت أفكار متزمتة إلا أنها فتحت على إكتشاف الرأسمالية و أصبح الأب الشرعي لسعر الفائدة الذي يرتجف أمامة الكوز السوداني الى اليوم مجسّد عقدة ايمانه التقليدي و إنتهى زمن كانت فيه الكنيسة ترى أن التجارة عمل غير أخلاقي و كالفن بجسارته إتحدى تراث يهودي مسيحي متراكم على مدى ثلاثة ألف سنة فيما يتعلق بفكرة الربا لهذا نقول للنخب السودانية أن النزعة الإنسانية تحتاج لروح تتحدى تكلس عقل الكوز السوداني الذي يسجن الشعب السوداني بأكمله في فكره المتكلّس و لا سبيل للخروج بغير فك هذا الطوق و الشب عنه.
و فك هذا الطوق و الشب عنه لا يكون بغير نقل التجربة الصناعية للغرب في حيزنا السوداني كما فعلت اليابان و قد ألغت كل صور الإقطاع و أهتمت بفكرة الدولة و ممارسة السلطة بمشروع نهضة غائب بسبب تبعيتنا لحضارة عربية إسلامية تقليدية و للأسف الشديد رغم تقليديتها يظل المثقف التقليدي السوداني الأقل إدراك للتحولات الكبرى في ظلها حتى لو قارناه بالمثقف في بعض الدول العربية مثلا حتى الكوز رضوان السيد يتقدم على الكوز عبد الوهاب الافندي في الفهم بعقود من الزمن و الكوز عبد الجبار الرفاعي يعتبر متقدم بمراحل على الكوز حسن الترابي و يظل الكوز السوداني حبيس هويته الدينية و عاجز عن التضحية بها بسبب تخلفه عن بقية المثقفين في حيز الشعوب المتقدمة حيث أصبح الحديث عن الحريات و ليس الحديث عن الهويات.
على العموم مشروع نهضة اليابان المتزامن مع نهضة مصر الفاشلة يفتح لنا نافذة لكي نقارن بين اليابان و بداية نهضتها 1870 و هي قد إستدركت نخبها ما أفرزته الثورة الصناعية من تغيير في المجتمعات أي مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و هنا يلتقي مثقفي اليابان في ذاك الزمن البعيد مع ملاحظات توكفيل في ديمقراطيته بأن الثورة الصناعية و بعد مرور ستة عقود على إنطلاقها كانت لها أثار هائلة في التحول في المفاهيم و من أهمها فكرة الدولة و التدخل في إنزال فكرة معادلة الحرية و العدالة.
و نتجت عنها فكرة الضمان الإجتماعي و المعاش و مسألة المساعدة كنتاج للمسؤولية الإجتماعية نحو الفرد في حالة المرض و العجز عن العمل و هذا هو البعد الغائب عن أفق جمال الدين الأفغاني و تلميذه محمد عبده لأنهما ظلا ينظران للغرب كعدو دائم أما نخب اليابان كان همهم عكس هم كل من الافغاني و تلميذه الامام محمد عبده أي نقل التجربة الصناعية الغربية و تغيير حالة الجمود و التكلس الفكري و بالتالي قد ألغوا بقايا الإقطاع و فتحو الطريق لتأسيس فكرة الدولة الحديثة.
نقول للشعب السوداني لا فكاك من تكلس عقل الكيزان إلا بالإنفتاح على تراث الإنسانية و فك إرتباطنا بالحضارة العربية الإسلامية التقليدية التي لا ترى في تجربة الغرب الصناعية و إزدهاره المادي إلا شر مطلق. و نقول للنخب السودانة قد حان الوقت لفك إرتباطكم بالحضارة العربية الإسلامية التقليدية و هي في حالة تشنج دائم من صدمة الحداثة كحضارة تقليدية و عليكم بطرح مشروع نهضة كما فعلت اليابان و قد تخلصت من أثار حضارتها التقليدية بعد نجاحها في نقل تجربة الغرب الصناعية مستفيدة من ثالوث الفرد و المجتمع و الإنسانية في تناغم مع الداخل أي مثلث الفرد و العقل و الحرية .
على النخب السودانية فك إرتباطها بالحضارة العربية الإسلامية التقليدية و الإلتحاق بثالوث الفرد و المجتمع و الإنسانية كثراث إنساني يعتبر ممر إلزامي لنقلنا لحيز المجتمعات الحديثة بعد أن عجزت الحضارة الإسلامية التقليدية عن تقديم مفكري إصلاح ديني يفضي للتحول في المفاهيم و يفتح على إزدهار مادي و إلا سيظل السودان و الشعب السوداني تحت سيطرة الكوز الغائص في وحل الفكر الديني و دائم العداء للإشراق و الوضوح الى حين.

taheromer86@yahoo.com

 

آراء