الكوشة.. ومحاولات الإخفاء والتجميل! … بقلم: رباح الصادق

 


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مهما قرأنا للسيد ثروت قاسم – الكاتب الإسفيري الشهير ذي القلم المنير- والذي قالها وكتبها  مرارا وتكرارا إن كل شيء قد انتهى وطبخ منذ شهور، وإن ما بأبريل كذبة كبيرة صدق حولها نافع (إشارة للدكتور نافع علي نافع نائب رئيس المؤتمر الوطني) وكذب الآخرون. ومهما استمعنا للمتخوفين، ومهما تخيلنا لم يخطر ببالنا أن الأمر سيفضي لما أفضى إليه من عبث! بل إن من العبث محاولة وصف ما جرى من هبوط اضطراري للآمال الوطنية ربما دق عنقها للأبد. ولكن دعونا نقلّب بعض الأوصاف ثم نحاول سبر غور السبب لأن القراءات حوله مختلفة. ومع أن ما جرى لا يوصف بأقل من (الكوشة) حيث ترمى القاذورات، فإننا لن ننسى المثل الذي قال في حكمتنا الشعبية (البباري الجداد بوديه الكوشة) وسنرى كيف حاول من قادنا للمزبلة أن يزينها لنا أو يصرف النظر عن العيوب!

بعد أن صار ما صار من تزوير على عين التاجر، وغش وخداع، وأخطاء وصفت بالفنية تم استدراكها في بعض الدوائر، وتأجل الاقتراع بسببها في 33 دائرة قومية وولائية، وتلاعب بالسجل الذي كان أصلا ملعوبا بالقوات النظامية وشهادات السكن التزويرية، وبعد الحبر المضروب الذي أظهر الكذبة في أنكى صورها والذي يزال سواء بمزيل الصيدليات (كلين) أو كريمات الفرد ، بل الماء الزلال!! بل بعد "دقسة" المفوضية برغم "التنبر" على لسان مقررها عشية الاقتراع حيث لم تكتشف تلك الأخطاء المسماة فنية إلا بعد تنبيه المرشحين بذاتهم، وبعد النتيجة التي جاءت بالسيد عمر البشير بنسبة تفوق النسبة الماضية فالتلفاز يتحدث حتى مساء أول أمس عن نسب تسعينية وثمانينية وفي أسوأ الأحوال سبعينية في الاقتراع بخارج البلاد، وهي نسب قد فاقت نسبته الأخيرة في الانتخابات الكيجابية التي كانت في بحر الستينات.. نقول إن وراء الأمر ما وراءه!! أرقام تستخف حتى بعقل رحمة ابنتي الصغيرة التي تريد أن تسطو على البلاد مثلما فعل السيد عمر البشير كما قالت فهي لا تنفك تهتف مع الهاتفين: سير سير.. يا بشير!

النصاب صار قانونيا: فوق الستين بالمائة منذ أول يوم للاقتراع على لسان السيد كارتر الذي خرج بالتالي سليم اليد والأنف واللسان يستطيع أن يتحسس رأسه بعكس ما حدث لغردون باشا بفعل أحد المتهورين من الأنصار، وما هدد به رئيس الدولة نفسه قبل أيام قلائل! مع أن كل مراقب محايد يقول إن الإقبال على الاقتراع كان ضعيفا. وحينما أغلق الاقتراع بعد مده يومين كانت النسبة أيضا ستينية! فانظر!

المفوضية السجمانة، وهي تستحق هذا اللقب بجدارة، وكانت الأولى به في مقال البروفسر الطيب زين العابدين "انتخابات أحزاب التوالي السياسي" وقد وصف الأحزاب السودانية بهذا الوصف؛ نقول إن المفوضية السجمانة لحست كل أحاديثها عن ضوابط نزاهة الاقتراع فمسحت أي بقايا احترام لها ولأعضائها لقد صاروا كلهم في قائمة الوطن السوداء وسيذكر التاريخ لكل منهم كيف قادوا البلاد لكوشة انتخابات أبريل 2010م التي لو جاز وصف الأحزاب بالسجمانة فلأنها لم تتبين قبل قدوم أبريل نفسه أنها تساق لمثل هذه المزبلة الانتخابية! ولكن أفضل أن يأتي التبين متأخرا من ألا يأتي أصلا!! فالحمد لله.

الاقتراع قانونا يوم واحد. ثم ساقت المفوضية المبررات وقلصت المراكز بزعم عدم توفر الحماية الشرطية اللازمة للمراكز المطلوبة! وكل ذلك لا يحل إلا بزيادة أيام الاقتراع، ولما خافت الأحزاب السياسية من تطويل أيام الاقتراع لما يفتحه من أبواب التلاعب قيل لها لا داعي للخوف، سيستمر الاقتراع ثلاثة أيام بلياليها تمتد كأنها يوما واحدا، وتكونون بالتالي قرب صناديقكم تحرسون، ثم لما قرّب الزمان المضروب قالت المفوضية إن الاقتراع سيكون من الساعة الثامنة صباحا وحتى السادسة مساء، وإن صناديق الاقتراع ستؤمن بمفاتيح ويحرسها المراقبون لو أرادوا، ثم وأخيرا لما جاء الاقتراع طرد المراقبون من المراكز وأبعدوا. وكتب أحد الكتاب الإسفيريين "كراتين قيت" في محاولة لفضح ما فاح!

لماذا كل هذا السقوط؟ وهل يحتاج أي حاكم أن يعاد انتخابه عبر مهزلة؟ وهل كان تزوير إرادة الشعب بطريقة أقل سفورا في طبخها مستحيلا على ذهنية جهابزة "الإنقاذ" المعلومة؟ حتى انتخابات نقابة المحامين التي سار الركبان بذكرها كدليل على طبخ الانتخابات لم تكن بهذا السقوط المريع كانت انتخابات مطبوخة، ولكنها لم تكن "كوشة".. فلماذا؟ سؤال حيرنا كثيرا! وهناك مجيبون كثر:

انطلقت أصوات وسط "الإنقاذيين" غاضبة، وشكا بعض قادة النظام المفوضية، وقامت منظماتهم الرقابية تنتقد، وقال كاتب مؤتمروطنجي حول "إعلام المؤتمر الوطني" إن ما قامت به المفوضية يضر المؤتمر الوطني أولا ولذلك على إعلام المؤتمر ألا يذهب بعيدا في ستر عورات المفوضية التي أفسدت على المؤتمر الوطني عرسه وأضاعت الأموال الطائلة بإخراجها السيء للانتخابات. وذهب الكاتب الذي بحثنا عن مقاله بصحيفة السوداني دون جدوى، إلى أن ما جرى مؤامرة من المعارضة التي اخترقت المفوضية ونجحت في خراب الانتخابات لتظهر المؤتمر الوطني بهذا المظهر السيء، مطالبا له أن ينأى بنفسه عن الاشتراك في هذه الجريمة! فهذه قراءة تقول إن المؤتمر الوطني برئ من تدبير هذا السقوط وإنه كان رغم أنفه فلم يكن محتاجا له! وأن التي أفسدت عرس "الإنقاذ" الانتخابي هي المعارضة!

قراءة ثانية هي أن المؤتمر الوطني قصد بالطبع طبخ الانتخابات وكانت هناك أخطاء تضر بالمعارضين مقصودة، وقد دلل على ذلك مقال الأستاذ حيدر المكاشفي "إلا الشجرة" (صحيفة الصحافة 12/4) الذي لاحظ كيف استثنيت الشجرة من الخلط بين الرموز. ولكن هذه القراءة لا تجيب على السؤال: هل كان المؤتمر الوطني محتاجا لهذه الدرجة من السقوط للطبخ؟؟ وهنا توجد إجابتان: إجابة الذين يعتقدون أن قصد الطبخ موجود ولكن هذا الشكل المزبلي لم يكن مقصودا، بمعنى أنه ناتج ثانوي للطريقة التي كانت تدار بها المفوضية. فالتوظيف داخل المفوضية كما كشفت تقارير ومقالات وحوارات منشورة بصحف مختلفة كان ينهل من منهلين: منسوبي "الإنقاذ" الذين أمسكوا بملفات المعلوماتية والإعلام والطباعة وغيرها من الأمور المحورية في العملية، وأقرباء أعضاء المفوضية ومحاسيبهم على نحو ما تتبعت بعض الصحف حتى تساءل أحد أعضاء المفوضية لدى محاورته: لماذا فلان وحده؟ في إشارة لأن الجميع ضالعون!، الشيء الذي حدا بمرشحي الرئاسة الحديث في مذكرتهم (18/3/2010م) عن مراجعة إدارية ومالية لأداء المفوضية. وبرأي أصحاب هذا التحليل أن تجاوز شرطي الكفاءة والنزاهة لصالح أصحاب الولاء والأقرباء في عمليات التوظيف داخل المفوضية هو السبب الأساسي في هذا التلاعب (الشجري) من جهة والسقوط (الفني) من جهة أخرى، فهي بالتالي عملية ليست مقصودة، ولكنها من طبيعة الأشياء مثلما أن الذي يزرع الشوك لا يجني العنب!

الإجابة الثانية تظن أن الأشياء لا تتسرب من بين أيدي (الجماعة). هذه القراءة حملها أحد الأحباب المحاورين ونحن نبحث حول الإجابات، قال إن هذا السقوط مقصود، فالمؤتمر الوطني لن يحتمل الاستفتاء في يناير المقبل، وسيعمل كل ما بوسعه لتخريب الانتخابات ولتفقد أية شرعية ومصداقية وليكون مطلب إلغاؤها مطلبا متفقا عليه، وبالتالي لا يمكن إجراء الاستفتاء في زمانه لأن المؤتمر الوطني يحب الوحدة مع بترول الجنوب حبا جما ولن يطيق أن يفارق هذا الذهب الأسود الذي عما بريقه المكتوم بصره وبصيرته بسبب العشق العميق! ولو أراد المؤتمر الوطني ذلك فإن المجتمع الدولي كان أشطر إذ أعلن اكتمال نصاب الانتخابات على لسان كارتر منذ اليوم الأول، وقال ما يكفي حتى الآن لقبول الانتخابات ونتائجها!!

ولكن يغالط هذه القراءة الأخيرة أن المؤتمر الوطني لم يسع للاعتراف بعيب الانتخابات بل كنا نستمع لقناته الفضائية السافرة (الشروق) التي تخلت عن كل إهاب للموضوعية مفارقة إياها فراق الطريفي لجمله بعد أن كانت تتجمل وكنا نقول إنها تحترم المشاهد وتخفف من حزبيتها أكثر مما يفعل التلفزيون القومي. في استطلاعات الشروق مساء الجمعة 16/4 كانت لا تتحدث إلا لمادحي العملية الانتخابية بشكل يثير الضحك وشر البلية ما يضحك، أحدهم قال إن كل شيء على ما يرام وإن الانتخابات تمام التمام وإنه قد اقترع في دقيقة! إمعانا في نفي ما قيل عن تعقيد الانتخابات، وضرب لنا مثلا ونسي خلقه! أن السيد عمر البشير اقترع في سبعة دقائق وعقيلته في عشر! وهكذا!

ومما صاحب محاولات الإخفاء صرف الأنظار عن السقوط بنشر الشائعات والريب حول الأحزاب التي قاطعت الانتخابات. فإذا بنا والاقتراع في أوجه والسقوط في أبدى صوره يفتح ملف المال الذي استلمه حزب الأمة القومي بتسريب أرقام متعارضة ومضخمة للمبلغ الحقيقي.. وقد التقط بعض قادة الصحافة الطعم جريا وراء سراب بقيعة.. فالصفقات التي جرت بالفعل ظلت في الظل بينما ولجت صحف بأكملها وخصص برنامج تلفزيوني بقناة النيل الأزرق (بث في 14 و15/4) حول حزب الأمة القومي والمال الذي تسلمه بدون أن يستمع للحزب في البداية بسبب ملابسات رويت لا تزيح لوم المرتاب، بينما في اليوم الثاني تم الاعتذار برغم وعد المواصلة واستضافة الحزب لأسباب مبهمة!!

لقد أظهر حزب الأمة القومي في بيانه المنشور بصحيفتي الأخبار والتيار أمس أسس المال المستلم كجزء من حقوق الحزب المسلوبة والتي تم الاعتراف بها والشروع في تسديدها في 2000م حيث تبقت منها حوالي 14 مليون جنيه (14 مليار بالقديم) وقال إنه سيظل يطالب بحقوقه حتى يتسلمها كاملة، وإن المؤتمر الوطني قصد التشويش بتسريبات للصحف متعارضة مع نفي بعض مسئوليه العلم بالأمر، مطالبا إياه بإعمال المساءلة لمعرفة لأين ذهبت المبالغ المزيدة التي تحدث عنها، ولكن ما يهمنا في هذا الأمر هو الغرض إذ قال البيان: "إن موقف حزبنا لا يمكن التشكيك فيه فقد حرصنا على الشفافية داخليا وللرأي العام، ناهيك عن موقفنا السياسي الواضح. والغرض من هذه الحملة التي اشترك فيها كثيرون بوعي أو بدون وعي هو البلبلة والتشويش وصرف النظر عن المهزلة التي أسفرت عنها عملية  الانتخابات المضروبة والتي أكدت صحة قرارنا المؤسسي". بيد أننا لم نتعجب من شيء قيل حول هذا اللغط الذي دار وتناوشته أقلام كثيرة، مثلما تعجبنا من تساؤل البروفسر الطيب زين العابدين (الذي نعده بحق من أعمدة الاستنارة ببلادنا وممن يصنعون إشارات التفكير ويعبدون طرقه المفروضة) تساؤله عن دخل المال والتمويل بالانتخابات مستنكرا أن يكون ضمن شروطنا تمويل وضمن مفاوضاتنا مال مستلم! هل يصدق البروفسور أن هناك حزب يستطيع خوض انتخابات بدون المال اللازم على الأقل لعمليتي الترحيل والرقابة؟ ولكن ذلك المقال بالذات ربما كتب بغير الطريقة التي يتبعها البروفسر في كل مرة يكتب فيها، ونعده كبوة جواد ماض ولكل جواد كبوة!

نعم.. ساقتنا المفوضية السجمانة للكوشة، وحمدا لله أن تركناها تجري لكوشتها والمؤتمر الوطني والشعبي والاتحادي الأصل (وحدهم) مع فكة قليلة من أحزاب ذات وزن أقل.. أما الشعبي فأمره محير ولا زالت كلمات الدكتور الترابي ترن في أذني في مؤتمر جوبا وهو يقول بالإنجليزي الفصيح إن النزاهة مربوطة بإجراءات قانونية وإعلامية محددة إذا لم تحقق قبل وقت كاف فيجب علينا جميعا أن نقاطع هذه الانتخابات اعتبارها مزورة، وظل يعاير أحزابنا بأنها لن تلتزم بما وعدت به في إعلان جوبا (سبتمبر 2009م) فإذا بنا نلتزم بسفينة الإجماع ويقف في زمرة ابن نوح ويقول إن التزوير اتهام خطير لا بد من دليل عليه! وأما الاتحادي كله من أخمص قدميه إلى سائر جسده وحتى مرشحه الرئاسي ظل ينادي بالمقاطعة وظلت عقدة القرار لدى السيد محمد عثمان الميرغني، وها هي النتائج أظهرت كم كانت حماقة السير في موكب الكوشة إياه.. والتي لم تخفها كل محاولات التجميل!

وليبق ما بيننا

Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]

 

آراء