اللبلاب

 


 

 

Convolvulus Brushwood اللبلاب

في رحيل الأم الثانية : ( سعاد إسماعيل )

(1)

لا يُجاري الدمع النُهير ،
ولا تسبق العواطف ركض العواصف ،
ولا يقدر أن يطأ دُنيانا أنبياء جُدد ،
بفكرة قديمة.
أو تُدوي أسماعنا رعود الرصاص الذي اعتادنا ،
ولا يخيف .
(2)
في جمعة ، بادية الملامح ، هادئة الطباع ، خالية من كل الضجيج . قضيت يومي مفرق الأهواء . أصنع من القضايا الصغيرة ملفات للأرشفة . طعام بنصف إشباع ، ونوم مُتقطع الحواف . على أجمار ، بعضها قصص رصاصٍ  ودماء في زجاج التلفزة . لا تعرف أنت من القاتل ومن المقتول . أظلمت الدنيا على ضحايا الكون كله ، ولا نعرف الآن القتلة ولا نستبين نغم الرصاص من إيقاع الأغاني على شبكات الإعلام . كلها تهدم ، ولا تُميّز أنت الكذابين من بعضهم . أرقام أشلاء ، وضحايا تنشرها ماكينة إعلام تستوطن مدينة بعيدة عن موقع الأحداث ...
(3)
جاء خبر رحيلها مثل زوبعة مفاجأة . أكبر من ردود أفعال الحزن على المآقي ، وعلى الجسد المنهك البعيد . يأتيه الخبر الدامي ، فيدلهم الليل فجأة ، وتتغطى السماء بظلمة وتطير العصافير إلى سكن الليل كأن المساء قد جاء ، مخدوعة بقصة الكسوف العظيم ، حين لن ترى أُمك الثانية  مرة أخرى . وأُغلق الباب على التيتُم بالمزلاج ، فقد رحلت هي ومن قبلها الأشقاء وأمها  وأمي الأولى وخالي . 
من تورّد الطفولة الناعسة في أيامها الأولى ،كانت الذكرى مستودع الفرح .وجاء الحزن مخشوشن العُدة والعتاد في حاضري ، سكين على الخاصرة أو رمل تحت بطن القدمين العاريتين  حارقة .
كنت أقضي معهم ،في مسكن خالي والد ( سعاد ) ، بعض الطفولة . كان خالي حينذاك من كبار موظفي السكة الحديد . مسكنه الحكومي  قرب محطة الخرطوم الرئيسة لسكك حديد السودان قبل هدمها  . كل عطلاتي المدرسية وأنا تلميذ صغير كنت أقضيها في مسكن خالي ،مع أسرته على أكُف العواطف والحنين والرفقة الطيبة . تمُر الأشهر مرور الطيف في الحُلم . هناك كانت قطعة من الماضي البهيج مبهرجة ألوانها ، يدوي صوتها في وهج الذاكرة . وترحل الأم الثانية الآن، في زمان صعب ، تُنيخ فيه الأحزان الرواحل كل يوم وكل ليلة .وردة العُمرِ الطافي ، جاء اليوم لتزوي تلك البسمة الملائكية التي كبُرت مع الأيام ، ...لن ينسينها الرحيل أبداً.
(4)
كتاب الطفولة هو صندوق الدُنيا الساحر ، بدأنا به حياتنا ولا تنقضي أزاهيره اليانعة . نقرٌ خفيض على الغطاء فانفتح . ما تيقنت من صدق حديثه إلا عند هوامش الصدفة . وضربت الفأرة على الأيقونة ،فانفتحت أكُم الزهر وتفجرت الألوان صداحة بالكلام . وحين وقف الرحيل بيني وبين أن ألقاها، انفتح صندوق الذكرى ، وقفزت أرانبه  من جحورها إلى الحقل :
كنتُ في عمر السابعة ، في أواخر خمسينات القرن الماضي ، حين أهبطُ من سيارة  خالي، ويدي تمسك حقيبة صغيرة ،بها كل ما أحتاج في عطلة الصيف . كنتُ أصغر المُقيمين  هناك في مسكن خالي وأسرته . فربُّ الدار مديراً لمصلحة المرطبات آنذاك ،تلك الإدارة التي  تلتصق بالسياحة  والفنادق  وسكك حديد السودان والطيران . المطاعم والمخابز ومصانع المياه الغازية المتنوعة الألوان في قوارير مدورة القناني الزجاجية ، وعليها الخاتم SR.  زوجة خالي ربة منـزل .و( صلاح )  و( عبد الوهاب ) و(سعاد ) و (حيدر) ،جميعهم  في مرحلة الدراسة الثانوية . كانوا في عُمر الشباب . وحدي كنتُ في السن التي يكون للطفل فيها رونقاً . كثير السؤال ، يحب اللعب ، ولا ينام كما ينام الآخرون .
المدخل الرئيس للبيت باب من خشب الزان ، كبدي قاتم  اللون ، على ذات النظام الذي ابتنته السكة حديد لكبار موظفيها . أعلى المدخل لوحة فيها رقم . إنه المسكن الأول من المساكن المُخصصة لكبار الموظفين . تدخُل، وإلى اليسار المطبخ الخارجي والمخزن. أمامك باحة واسعة إلى يسارها أرضٌ ثابتة عليها طبقة رقيقة من الرمل . إلى اليمين حديقة فسيحة: الحشيش الأخضر ومُغطيات التُربة والشجيرات ثم الأشجار ، وعلى الحائط تمتد المُتسلقات وترتمي من فوق الحائط تنظر الطريق العام. في الأمام فرندة مفتوحة على الباحة بطول المبنى الأرضي . على الطرف الأيمن صالون الضيافة والحمامات على طرف آخر .وعلى الطرف الأيسر الغرف . إحدى الغرف هي غرفة معيشة  لها باب خلفي يقودك لمدخل الحديقة الخلفية التي يسورها سياج شبكي. مُحرّم دخولها دون رفقة .( حيدر ) أصغر أبناء خالي وهو أقربهم عُمراً يكبُرني  بسبع سنوات . اتخذني رفيقاً للصحبة وللتسلية . 
كنتُ دُمية إنسانية صغيرة ، كثيرة الشغب ومدللة .كسرت رتابة العادة في المسكن أيام العطلات ، بالضجيج وبالصخب  . كانت ( سعاد ) سيدة الرعاية اللصيقة ، تُعد ملابسي  ، بل تشتري ما تراه يناسبني أكثر من الألبسة والأحذية البيضاء والسماوية اللون والقرمزية . وكنتُ أتعبها بالملاحقة ، فكثير من التفاصيل التي تهمها ، لا أكترث لها، وما عرفت قيمتها إلا عندما كبُرت . ولكنها طوعتني بالعناية وطوقتني بالرعاية ، وعلمتني أن المظهر يسهم في إزهار الدواخل .
أمضيت أيامي الأولى وأنا ألح على( حيدر ) أن نزور  دغل اللبلاب أو ( الغابة ) كما كانوا يسمونها كل يوم . فهي مكان لا يدخله إلا زراعي أجير يأتي كل أسبوع لرعاية النباتات بالشتل والتسميد والسقاية والقص والنظافة .
بعد إلحاح ، يختار ( حيدر ) وقت القيلولة التي ينام فيها الكبار ، ونتسلل إلى الغابة خلف السياج  .دغل اللبلاب مُسيطرٌ على المكان .يمتد طولاً وعرضاً  بحوالي مائة متراً مربعاً ويمتد زاحفاً أعلى الحوائط.شجرة برتقال هنا وليمون هناك و أشجار ( البلتفورم ) وشجيرات ( الفيكس ) و( السرو ) و  ( الجهنمية ) تنتشر أحزمتها هنا وهناك  .
الفراشات الملونة تُحلق بلا رقيب ، تبحث في الأزهار عن الرحيق . تتبادل المنافع رحيقاً في مقابل حمل طيوب التكاثر . جلست إلى نبات اللبلاب ، أنظره بعين الدهشة أول مرة . أدهشني أكثر ،حين توقفتُ على زهراته القُمعية الشكل . كأس تستدعي شراب الأرواح . هذه هي الزهرة الساحرة ،في وهج الشمس مرآها يُحيّر الألباب. وردية فيها  أخلاط من اللون الأبيض و من لون البنفسج الفاقع . تناثرت الأزهار على الرقعة الخضراء . وتوقفتُ من فزعٍ وأنا أسمع طنين الجُندب أول مرة . زحام من الكائنات الصغيرة والدقيقة تحتمي بالدغل وتسكن . أمسكت بزهرة اللبلاب وسألت ( حيدر )  : أيمكنني قطفها ؟ .
قهقه هو من الضحك .
سألت عن الأفاعي ، فقيل لي أنه قد ظهر منها صغير رفيع لا يتجاوز طوله قدماً . وهو من الثعابين غير السامة . لكن الحذر أوجب ...
هكذا كانت أيام الطفولة ، تلك مروجها ، السفوح والجبال الساحرة التي تتجمل كلما يبتعد الزمان بنا  . فنحن أمةٌ نسير على غير هدى الأمم الأخرى ، ماضينا كان ورغم كل شيء أفضل من الحاضر!.
(5)
انتبه الحزن إليَّ من قرميد الطفولة بسطحه اللامِع. الآن قطع رحيل الأم الثانية  الحبل الممدود من الذاكرة وبساتينها الغناء ، فأجهشتُ وحدي بالبكاء الصامت الذي يُعذب صاحبه . ها هي الأم الثانية ( سعاد ) التي  كانت نجمة تلك الأيام  وآخر من تبقى من رياضنا اليانعة  ترحل ، بعيداً قبل أن أراها . فالمسكن الذي قضيت فيه بعض طفولتي والمساكن الحكومية  من حوله ، قد أزالها  التتار الجُدد ، حين بدءوا  المسيرة بسمها القاتل . وهدموا بيوت موظفي وعمال ومكاتب السكة الحديد، قرب محطة الخرطوم الرئيسة حيث ينتهي إليها شارع القصر . وهدموا من قبلها " السكة الحديد " مبنى ومعنى . فجروا  الشريان الذي ربط القرى والبوادي ومدّ حبال الوصل منذ 1897م .أسهم الشريان في صناعة الوطن المتراحم أهله ، والمتشابكة أصوله . ها هو الآن وقد هدمته أيديولوجية التدمير التي بدأت سيرتها قبل أربعة وعشرين عاماً   .
ما رأيت في إطلالتي  على الأم الثانية في كل حين وفي كل زمان  ألتقيها ، إلاّ وتسأل عني دائماً بعبارة الحنين الجارف  الذي لا تمتصه إلا المسام التي سمعت صوتها حين تخاطبني : " كيفك يا عبدو ".
(6)

اللهمّ إنها أمتُكَ الذي صنعتها يَداك القادرة وشكّلتْ صورتها ورَسمت بنانها ووهبتها من مِنّتِكَ أن تقرأ باسمِكَ فقرأت. ووهبت  الخير كله، فقد غرزتَ فيها محبة الناس ، فما أدخلت يدها في كأس فيه شرابٌ باسمك ، إلا و تجلّت نِعمتُكَ عليها . وما أوحيته للنّحلِ ، جعَلته من فطرتها التي فطرتها عليه . وما مقامُكَ العلي إلا حيث بينّتَ فيها حكمتكَ . بنوركَ يستضيء العُبّاد .وتحت دوحتك الظليلة كان لفقيدتنا العمر منذ صرخة الميلاد الأولى وإلى استردادكَ أمانة الروح التي هي من أمركَ نعمةٌ سوّاحةٌ ، تسير فينا سير النسيم حتى ننتبه أنّا في غفلة الزمانِ قد نستريحُ ولا مُستجار  إلا أنتَ.
عبد الله الشقليني
3/5/2013

abdalla shiglini [abdallashiglini@hotmail.com]

 

آراء