alshiglini@gmail.com
حُسامُك من سقراطَ في الخطبِ أَخْطَبُ .. وعودك من عود المنابر أصلبُ
ملكتَ سَبِيلَيْهِمْ: ففي الشرق مَضْرِبٌ .. لجيشك ممدودٌ، وفي الغرب مضربُ
وعزمك من هومير أمضى بديهة .. وأجلى بياناً في القلوب ، وأعذبُ
أحمد شوقي
(1)
حُسامك مجليٌ وناصع، وتاريخك يزدهي بأنك كنت بطول عُمرك وتاريخك، مجداً تطاول به بنوك وحفدتك عن استحقاق. كانت سيرتك في بذر بذرة التعليم للمرأة رائدة منذ بدايات القرن العشرين، وقاومت تشويه أعضاء المرأة التناسلية بدعوة الختان والعفة، وقاومت دعاوى التخلف والعادات تارة، ودعاة من حملة راية التديّن المدسوس في بنية التخلف تارة أخرى، فغمروا البحر بمجازر فتواهم، و ضيق أفقهم العلمي. فنبتَّ رائداً وللتعليم مُثابراً. وحين تشكك المُتشككون في نيّتك، قمت بتعيين مجلس أمناء لمدارس الأحفاد عام 1930، سائرة لمجدها مع كل سانحة من تاريخ وطن افترسته الذئاب الجائعة في كل سانحة له أن يتقدم. انقبضتْ الحياة حين صعد القتلة سُلم السلطة، فمرق بنوك وحفدتك مروق السهم من قوسه، لا تلحقه الردّة الثقافية ولا سلطة الجهالة،التي ترغب وقف صيرورة التقدم بالعلم. أرسيت مراسي التقدم، وحفتْ أقدامك تُكرم العلم والعلماء الذين يقولون الحق ولو على أنفسهم . فاستحققت المجد عن جدارة.
(2)
كتب الأستاذ " خضر حمد " عضو مجلس السيادة الأول، وخريج غردون التذكارية، في سفر مذكراته، يحاول أن يثبط همتكَ ويشوه تاريخك حين كتب:
{كما أن الأستاذ الكبير الشيخ " بابكر بدري" عندما نقل مدرسة الأحفاد من رفاعة إلى أمدرمانى ، أصدر تذاكر ذات قرشين لمساعدة مدرسته التي لم تكن في حاجة إلى مساعدة لأنها كانت لا تقبل إلا أولاد الأغنياء وأبناء البيوتات كأولاد السادة آل المهدي وبعض الأثرياء وأولاد أسرة بابكر بدري.
وقد حصل صدام كلامي أو صحفي بيني وبين الشيخ " بابكر بدري" في هذا الموضوع، فكتبت في جريدة "ملتقى النهرين " أهاجم هذه العملية وأبدي دهشتي من أن يتبرع الفقراء لتعليم أبناء الأغنياء. وقلت إن المدرسة ملك خاص للشيخ " بابكر بدري" وأنه لا يجوز التبرع لها كمدرسة عامة لأنها غداً سيرثها أولاده، ولن يكون للشعب حق فيها. وعلى أثر هذه الحملة فكّر الأستاذ في أن يجعل لمدرسة الأحفاد مجلس أمناء، ولكن الغريب أنه هو الذي اختارهم واختارهم ممن يستطيع أن يملي عليهم إرادته ويسير في طريقه دون أن يعترضوه أو يوجهوه.
وقد ذكر الأستاذ في مذكراته أو كتابه الذي سب فيه كل الناس، ولم يمجد إلا نفسه، ذكر أنه تحدث معي وأنني كففت عن الكتابة.
والحقيقة أنني لم أكن معروفاً لدى الشيخ " بابكر بدري" وكنا في زيارة للمستشفى ومعي الشيخ " عبدالرحمن النور" وكان الشيخ " بابكر اسحاق " مريضاً بمستشفى أمدرمان. وعند خروجنا قابلنا الشيخ " بابكر بدري"، فوقف معه " عبدالرحمن"، وسرت أنا في طريقي فناداني " عبد الرحمن" باسمي لكي أنتظره، فسمع الشيخ " بابكر" الاسم فناداني وأخذ يبحث معي هجومي عليه وعلى مدرسته والطريقة التي سلكها في جمع المال، ومنافسته للملجأ. وبنفس الأسلوب وقال أثناء النقاش أنه يريد أن يبني مجده، فقلت للشيخ إذا كان هذا عزمك، فليست هذه الوسيلة لبناء المجد وستعرف رأيي غداً في الجريدة.
وكتبت فعلاً مقالاً في الجريدة، أشرت فيه إلى المقابلة وذكرت مسألة بناء المجد، ونقدتها وقلت إن كان المجد يبنى بالتبرعات التي تُجمع من الفقراء لتأسيس المدارس الخاصة، فما أهون المجد وما أسهله على كل مخلوق.
وتقابلنا مرة ثانية، وفي منزل الشيخ " بابكر إسحاق" ، يوم احتفل أهله بسلامته. ودخلنا أيضاً أنا و" عبدالرحمن" إلى المنزل لنجد الشيخ " بابكر بدري". وأول ما رآنا ناداني و " عبد الرحمن". وأراد أن يستشهد بعبد الرحمن، على أنه لم يقل أنه يريد أن يبني مجده، وقال له الشيخ " عبدالرحمن" لا تسألني يا مولاي فإنك إما أحرجتني أو أحرجتك. ولكن الشيخ ألحّ في السؤال. فأجاب" عبدالرحمن" عليه بأنه فعلاً قال أنه يريد أن يبني مجده، وانتهى النقاش بالصمت من الجميع.
ولمسألة القرشين هذه دوافع، وهي أن خلاف النادي الذي قام بين الخريجين وقسّمهم إلى مجموعتين، مجموعة على رأسها " شوقي" والأخرى الشيخ "الفيل" - كان قسم الشيخ " الفيل" في يدهم الملجأ، ففكر الشيخ " بابكر بدري" من الاستفادة من جماعة " شوقي" بجمع القرشين لمدرسته، وبذلك استغل نشاطهم وأصحابهم في توزيع تذاكر القرشين.}
(3)
وكتب "الشيخ بابكر بدري " في صفحة 94 من كتاب ( حياتي ) الجزء الثالث:
{ صرت أفكر كيف أبني للمدرسة داراً وقد ظهر لها أعداء كثيرون متنوعون. بعضهم يكتبون ضدها في الجرائد المقالات المنفرة لولاة الأمور عنها، وبعضهم ينشر عنها شفوياً في المجالس أن التلاميذ الذين يتخرجون من مدرسة الأحفاد من رابعة وسطى لا يُقبلون في الثانوي. فيجيئني بعض المستائين لهذه التقولات ويطلبون مني أن أكتب في الجرائد رداً على هذه التقولات التي ليس لها أساس تقوم عليه. فأرد عليهم باننا شرعنا في عمل فإن نحن نجحنا فيه فيكف بنجاحنا رداً واضحاً مبرهناً على كذبهم. وإذا - لا سمح الله - وفشلنا، فلا داعي لكتابتنا في الصحف. وأقول لبعضهم هؤلاء الذين يكتبون ضدنا، هم من أولادنا، فلندعهم يتعلمون فينا الكتابة والانتقاد . وربما يأتي وقت نحتاج فيه لأقلامهم تذب عنا.
ومن أشد ما كانوا يكتبون ضد المدرسة هو " خضر أفندي حمد ". وما كنت أعرف شخصه، حتى زرت مريضاً بالاسبتالية الملكية يوماً، فاجتمعت بمن أعرفه فوقف معي، وتقدم عنه منْ كان معه، فلما أبطأ الواقف معي، تحرك صاحبه وناداه ( أصبر يا خضر حمد ). قلت هذا خضر حمد ؟ قال : نعم .قلت : تعال يا خضر أفندي حمد. وكان مؤدباً ، فلما وصلني سلّمت عليه. وبعد التحية قلت له: مالك تزعجني بكتاباتك في " ملتقى النهرين". وكانت الجريدة الثانية بالبلاد، الأولى جريدة الحضارة التي أسستها الحكومة. وكان يكتب بإمضاء اسم مستعار " طُبجي" تحت عنوان ( في الهدف) . قال لي: أنت يا عم بابكر تريد أن تبني مجدك على أكتاف الناس؟. قلت له : يا ولدي اخرج الأنبياء والمرسلين من جميع منْ اكتسبوا مجداً، هل تجد بينهم منْ لم يبنِ مجده على أكتاف غيره ؟. وكان خضر نبيهاً عاقلاً. أطرق قليلاً ثم قال: والله صدقت ياعم بابكر وأنا من هذه الساعة كسرت قلمي لا يكتب ضدك حتى ولو كلمة واحدة. فشكرته وافترقنا.}
(4)
سفر مذكرات " الشيخ بابكر بدري (تاريخ حياتي ) دون فيه صاحبه :يكتب الحوادث منه العاديّة للفكاهة وغير العادية من الحقائق للاقتداء بها حسناً وقبيحاً.
*
وقد تم تدوين الإهداء في مقدمة السفر الثالث:
إلى مجلس أمناء مدرسة الأحفاد المؤسسين، منْ لحق منهم بالرفيق الأعلى ومنْ لا يزال منهم يواصل الجهاد في خدمة المجتمع. وإلى مدرسي مدرسة الأحفاد منذ عام 1930 وإلى موظفيها وعمالها وإلى خريجيها، وإلى أولئك النفر من المواطنين في شرق السودان وغربه وجنوبه وشماله، الذين جادوا بالقرشين والألفين من الجنيهات لتقوم مدرسة الأحفاد شاهداً على صدق وطنيتهم ...إلى كل هؤلاء نهدي هذا السفر الذي يزخر بما لهم جميعاً من فضل وجهود بُذلت لكي تقوم مؤسسة الأحفاد في أحلك الأوقات وأصعبها وأشدها امتحاناً لصدق الوطنية ومر الجهاد فتكون دليلاً ينطق بفضلهم وتبقى أثراً بخلد ذكرهم، راجين أن يتقبلوا منا نحن الذين ننوب عنهم اليوم في هذه المؤسسة اعترافاً بفضلهم وتمجيدأ منا لعملهم.
من مجلس أمناء ومعلمي وتلاميذ كلية الأحفاد
*
تلك ذرة في ثمرة من ثمرات شجرة "بابكر بدري" الوارفة الظلال، تعمرُ منذ بداية القرن العشرين ، ويستمر ثمرها حلواً، رغم ضيق الحياة. فغلب إصرار الأبناء والحفدة ومجلس الأمناء على كافة أنواع القهر والاستهداف، وبلغوا المجد، ثمرة حلوة للذائقين.
عبدالله الشقليني
5 نوفمبر 2018