المحاكم الدولية والرموز الدينية … بقلم: كمال الدين بلال
17 December, 2009
اجتاحتني أفكار متضاربة عند تقديم حزب يميني لمقترح للبرلمان الهولندي لحظر بناء مآذن المساجد في البلاد على غرار سويسرا وذلك على أساس أن المآذن رمز ديني يشعر الهولنديين المسيحيين بالغربة في وطنهم. ومصدر استغرابي أن هولندا مثلها مثل سويسرا اشتهرت بالحياد تجاه الصراعات الدينية، وقد أهلها هذا الحياد للعب دور مهم عبر التاريخ في إنهاء الحروب مما جعل المجتمع الدولي يكافئها بجعل مدينة لاهاي مقراً لجميع المحاكم الدولية لدرجة أصبح معها يطلق على المدينة اسم العاصمة الدولية للعدل والسلام. من ناحية أخرى لاحظت خلال ترددي على مقار تلك المحاكم الدولية في فترات نهاية الأعوام الميلادية مظاهر الاحتفال بالكريسماس وأعياد ميلاد المسيح عليه السلام وإلقاء العاملين فيها على جميع الداخلين التحايا بعبارات ذات دلالة مسيحية، هذا إضافة لمنح تلك المحاكم للعاملين فيها عطلات رسمية في المناسبات الدينية المسيحية وذلك بالرغم من أن الدول الأعضاء فيها تدين بديانات مختلفة. في مقابل ذلك لا نجد في تلك المحاكم أي مظاهر احتفال في المناسبات الدينية الإسلامية وذلك بالرغم من أن أكثر من «20%» من سكان المعمورة مسلمون وهنالك عدد كبير من المسلمين يعملون في تلك المحاكم. وكنت عندما أرى شجرة الميلاد تزين واجهة إحدى تلك المحاكم أقول في نفسي ليتهم جعلوها نخلة بدلاً عن شجرة البلوط، فالقرآن الكريم أكد أن مريم العذراء أنجبت السيد المسيح تحت ظل نخلة، ولو فعلوا ذلك لكانوا قد طبقوا احد مفاهيم حوار الأديان.
الذين يزورون محكمة الجنايات في لاهاي هذه الأيام يجدون بهوها يتزين بشجرة الميلاد التي يربط البعض شكلها الثلاثي الأبعاد بمعتقد الثالوث المقدس في الديانة المسيحية. كما تتوسط نفس الشجرة قصر السلام الذي تتخذ منه محكمة العدل الدولية والمحكمة الدائمة للتحكيم مقرا لهما، كما يوجد داخل مبنى القصر الذي شيد بخارطة معمارية تشبه الكنائس تمثالان ضخمان الأول لمريم العذراء وهي تحمل وليدها والثاني لعيسى عليه السلام وهو مصلوب على الصليب. هذا إضافة إلى أن المبنى الذي مول تشييده المليونير اليهودي الأمريكي (اندرو كارنيغي) يتميز برمز ديني آخر بارز هو نجمة داؤود السداسية الأضلاع، وهي كما هو معلوم تمثل الرمز المقدس في الديانة اليهودية وتتخذها إسرائيل شعاراً لها في علمها القومي، وقد كنت حتى وقت قريب أشك في أن الشكل المنحوت على سارية البرج الأيسر للمحكمة أسفل الساعة الحائطية يمثل نجمة داؤود عليه السلام، وقد قطع الشك باليقين كل من الصديق «يوسف محمد الحسن» من أمانة مجلس الوزراء وشقيقي الصحافي «ضياء الدين بلال» حين زاراني قبل أربعة أشهر في لاهاي، وقد أخذتهما في جولة إلى مقر المحكمة، وطلبت منهما تدقيق النظر في الشكل المذكور دون أن أخبرهما بظنوني فأكدا لي أنها نجمة داؤود. فتمنيت في تلك اللحظة لو أن المحكمة أضافت رمزاً إسلامياً كالهلال مثلاً على المبنى حتى نصل إلى مرتبة أضعف الأيمان في المساواة بين الرموز الدينية في المحاكم الدولية، وهو ليس بطلب مستحيل كطلب أن توكل وظيفة الأمين العام للأمم المتحدة لمسلم، وللعلم تعاقب على الوظيفة منذ إنشاء المنظمة الأممية مسيحيون وعندما أوكلت لشخص من المنطقة الإسلامية اختير «بطرس غالي» لكونه مسيحياً متزوجاً من يهودية. ويذكرني طلب إضافة رمز إسلامي لمبنى المحكمة بالطرفة التي تحكي أن نادي المريخ رفض في فترة من الفترات أن يكمل بناء مئذنة المسجد الملحق باستاده خوفا من أن يضطر لوضع هلال أعلى المئذنة.
اهتمامي بهذا الموضوع ينبع من اشتغالي بالقانون الدولي وانشغالي بمقارنة الأديان السماوية كوسيلة لتعمق معرفتي بديني وذلك ليقيني الراسخ بأنها جميعا نهلت من معين واحد، فالمسيح عليه السلام احتفى به القرآن الكريم وبوالدته البتول حفاوة بالغة، كيف لا وقد اصطفاها الله تعالى للقيام بأعظم مهمة وأشقها على نفس عذراء وهي الحبل دون زواج ونكاح، وهو نفخة من روح الله جبريل عليه السلام مما جعل النواحي الروحية فيه تطغى على المادية ولهذا جاءت تعاليمه كلها روحية حتى تعوض المادية المغرقة التي غلفت الديانة اليهودية، وقد بشر المسيح عليه السلام بمجئ رسول الإسلام الذي مزج بين ما هو روحي ومادي بكل سلاسة.
لتوضيح دلالة شجرة الميلاد التي تعتبر عند المسيحيين رمزاً دينياً مقدساً لا بد من ذكر أنها مرتبطة بقصة مفادها أن جنود هيرودوس الملك الروماني الذي اعتنق اليهودية كادوا أن يقبضوا على المسيح عليه السلام وأمه وهما في طريقهما إلى مصر، وأن إحدى الشجرات مددت أغصانها فأخفتهما، فكافأها الله تعالى بجعلها دائمة الخضرة ورمزاً للخلود. وقد ورد في سفر التكوين ذكر شجرة الحياة التي يُرجح أن تكون شجرة الصنوبر الدائمة الخضرة، ويرمز المسيحيون بأشواك شجرة الميلاد للسلاسل التي أدمت معصم المسيح لحظة صلبه على حسب معتقدهم، بينما يرمزون بالتفاح الأحمر الذي يعلق على الشجرة لدمه المسكوب، ويرمزون بالكرات المضيئة التي يتم تزيين شجرة الميلاد بها إلى الشمس والقمر والنجوم ولهذا يطلق عليها البعض اسم شجرة الكون. ومن الملاحظ كذلك ارتباط الاحتفال بالكريسماس وأعياد الميلاد عند بعض الطوائف المسيحية بطقوس مرتبطة بمعتقدات قديمة منها أن الله تعالى يقوم بتوزيع أرزاق العام القادم في تلك الأيام، ولهذا يقومون بوضع الهدايا بجوار الشجرة أثناء نوم الأطفال لإيهامهم بأن المسيح هو من أحضرها، كما يكثرون من استخدام الأنوار المضيئة والألعاب النارية التي تصدر أصواتاً مزعجة وذلك لارتباطهما باعتقاد بأن الأصوات المزعجة تطرد الأرواح الشريرة بينما تهتدي الأرواح النورانية إلى الأماكن الخيرة بالأنوار المضيئة، وتتم ممارسة هذه الطقوس في آخر لحظات العام الميلادي تيمناً بأن يصبح العام الجديد عام رزق وخير تحل فيه بركة الملائكة في المنازل وتطرد منها الشياطين. وذهبت بعض كتبهم إلى أن الملائكة كانت تحيط بالشجرة لحظة ميلاد عيسى عليه السلام لحفظه، وهو الأمر الذي جعل الشياطين والجن يخمنون أن أمراً جللاً يحدث تحت تلك الشجرة، كما عرف علماء اليهود من كثرة تساقط الشهب وظهور نجم جديد في تلك الليلة أن شخصاً عظيماً قد ولد. وربما يشابه هذا الاعتقاد ما ورد في القرآن بأن الله تعالى يرمي الجن الذين يحاولون أن يسترقوا السمع للسماوات العليا لحظة نزول الوحي بالشهب لقوله تعالى على لسان الجن (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا).
دعونا نردد مع فيروز دعواتها بأن تتعانق الرموز الدينية في المدن التي تهم جميع معتنقي الديانات السماوية:
لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي
لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن...
عيوننا إليك ترحل كل يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد
لاهاي