المحبوب عبد السلام في دائرة الضُّو وخيوط الظلام: قراءة نقدية ونقضية

 


 

 


4-12

تحدثنا في الحلقة الماضية عن تهميش المحبوب لمسائل الفكر والتجديد، في غضون عشرية الإنقاذ الأولى، التي اهتم بتسجيل إنجازاتها وإخفاقاتها، ولاحظنا أنه أهمل متابعة هذه المسائل بالذات، ولم يسجل ما جرى بصددها، وتفادى الحديث عنها، حتى في سياقات التحليل، التي كانت تحتم عليه التعرض لأثر العامل الفكري التجديدي الذي يفترض أن دعوة الترابي ومشروعه السياسي قد نهضا عليها.
من المسؤول عن بوار أطروحات الترابي الفكرية؟
وعندما اضطر إلى الاعتراف بفشل أطروحات الترابي الفكرية التجديدية، لدى نصبها للتطبيق، في عشرية الإنقاذ الأولى، حلا له أن ينحل أسباب فشلها إلى الآخرين، بدل أن ينسبها إلى صاحبها الذي افترعها، ورعاها، ثم أعرض عنها، منشغلا بأمور السلطة والتسلط، والمسائل الانصرافية التي كان أولى به أن ينصرف عنها ليبذل جل اهتمامه إلى قضاياه الأصولية، التي ما كان قبل أن يصل إلى السلطة يتحدث عن غيرها.
قال المحبوب إن:" الوعي الواجب بها [أي بهذه الاجتهادات التي جاء بها الترابي] والعمل المُمهِّد لها في النُّخبة والمجتمع، ثم الاجتهاد اللازم لبيان أصولها وبسط فروعها وفِقهِ تنزيلها علي الواقع لم يُتَصَدَّ له بما يستحق من إفراغ الوُسْع الفكري والتذاهن والاجتهاد البحثي الفردي والجماعي الذي تهديه التَّجربة ويُطوٍّره النظر ".
وهكذا بنى المحبوب عبد السلام أسباب فشل حركة الاجتهاد التي ابتدرها الترابي على المجهول.
والحمد لله تعالى أنه لم ينسبها إلى نائب الأمين العام السابق السيد علي عثمان محمد طه، الذي طفق المحبوب يكيل له الذم، والنقائص، وينسب إليه أكثر أسباب فشل العمل الإسلامي، وأداء الدولة، خلال العشرية الإنقاذية التي كرس كتابه للتأريخ لها تأريخا غير نزيه.
تفادى الأستاذ المحبوب أن ينسب أسباب الفشل إلى صاحب الأطروحات نفسه، أي الأمين العام السابق، الذي لم يتجه ويهتم بما يكفي لتأسيس مدرسة أو تيار فكري، أو حلقة حوار بين حوارييه، (يفترض أن يرأسها المحبوب الذي ينصب نفسه حواريا أول من حواريي الشيخ) لتتدارس أطروحاته وتلاحقها بالتفصيل والتطوير.
ولكن الأمين العام السابق كان في حقيقة الأمر يقاوم أشد المقاومة، عن طريق أساليبه الملتوية، جميع محاولات العمل الفكري والبحث المنهجي الجماعي في نطاق الحركة الإسلامية السودانية، مما دل على أنه لم يكن جادا في سبيل تفعيل أطروحاته الفكرية التجديدية، وإعدادها للتطبيق العملي في المستقبل، وأكد بما لا ينقضه شك أو برهان، أنه كان يستخدمها كما تستخدم الشعارات في الأحزاب الدنيوية.

ضعف ثقافة الترابي الاقتصادية:
ورغم وضوح هذا المآل فعندما تحدث الأستاذ المحبوب عبد السلام عما سماه بالاجتهادات الاقتصادية، في الحركة الإسلامية السودانية، أراد من طرف خفي أن يجيِّرها لصالح حسن الترابي، فقال:" ثم أسئلة الاقتصاد والتي وَجَدَت توفيقاً طيباً بأفضل مما وجدت أسئلة السياسة والمجتمع قبل أن يرتد وينتكس بها الخلاف حتى إباحة الرِبا ".
ولو صدق المحبوب لقال إن الترابي لم تكن له اجتهادات في مجال الاقتصاد، ولم تكن له اهتمامات فكرية بأمره.
وهذا أمر يشهد به الكثيرون من المنصفين ممن لا تأخذهم في قول الحق لومة لائم.
وقد كنت في ثمانينات القرن الماضي أقول لبعض أفراد النخبة الفكرية الإسلامية السودانية إن ثقافة حسن الترابي الاقتصادية ضعيفة، وغير متناسبة مع ثقافته السياسية، والقانونية، وثقافته العامة، التي يشهد لها كل منصف بالسعة، والعمق، والقوة، وكان قولي هذا يصدم البعض، ويغضب البعض، ويُروِّع آخرين.
وحقا فقد كنت أستخدم لفظا حادا في التعبير عن رأيي في تواضع ثقافة الترابي الاقتصادية، انتقدني فيه ذات مرة أخي الدكتور مجذوب الخليفة، وذلك رغم أني ما كنت أهدف إلى إغضاب أحد أو إرضائه، وإنما إلى التنبيه إلى أن الحركة الإسلامية تسير نحو السلطة بزاد منقوص من الفقه الاقتصادي.
وها هنا يقتضينا الإنصاف العلمي، وقد كان يقتضي الأستاذ المحبوب أيضا أن يعترف بأن التوفيق الذي أصابته الاجتهادات الاقتصادية الإسلامية، إنما جاء نتاجا لجهود فكرية من خارج الحركة الإسلامية السودانية.
ومن المحقق أن أكثر بحوث الاقتصاد الإسلامي إنما أنشأها مفكرون إسلاميون من خارج السودان(من باكستان، ومصر، وسوريا على الخصوص)، ولم يكن للإسلاميين الحركيين السودانيين فيها نصيب يذكر.
فلم لا يعترف المحبوب بهذه الحقيقة، التي لا جدال فيها، ويقر بأثر الجهود الفكرية لغير الإسلاميين السودانيين على النجاح الجزئي للتطبيقات الاقتصادية الإسلامية ببلادنا؟
أم يا ترى أن المحبوب ما يزال على وفائه لخلته التي أعده، وأعداه، بها حسن الترابي، الذي كان قلما يثني خيرا على أحد غير بعض أتباعه من الإسلاميين السودانيين، ويتنكر لمن عداهم ولو كانوا خيرا منهم؟!
هيئة الأعمال الفكرية الترابية:
وقد كان تقدم أبحاث الفكر الاقتصادي الإسلامي في بقاع  خارج السودان كفيلا بأن يحث إسلاميي السودان على الإسهام فيه، وعلى المضي قدما لتطوير الفكر الإسلامي الحديث، وتقديم البدائل الإسلامية المناسبة لنماذج الفكر الغربي في مجالات الحياة الاجتماعية المتنوعة.
ولكن الترابي كان يقف بإباء عثرة في سبيل ذلك، وظل يحطم بأساليب المماطلة والتزهيد جميع المبادرات التي قادها المخلصون، من مثقفي الحركة الإسلامية السودانية.
وأحد أبرز تلك المحاولات التخريبية ذلك الحصار المالي الذي شاء الأمين العام السابق أن يفرضه على مركز الأبحاث، المسمى بهيئة الأعمال الفكرية، عندما تولى أمره أحد مثقفي الحركة، ممن يحق للحركة الإسلامية السودانية أن تباهي به جميع مثقفي العالم الإسلامي بلا استثناء، فعجز المركز عن النهوض بأبحاثه بسبب ذلك الحصار العنيد.
ولكن عندما تولى المحبوب عبد السلام رئاسة ذلك المركز (البحثي) زيدت ميزانيته عشرين ضعفا، ومنح موظفوه امتيازات مالية عالية، من أجل تطويعهم لخدمة فكر الترابي، وإكمال تحرير تفسيره المزعوم للقرآن الكريم، المسمى بالتفسير التوحيدي الذي يبدو أنه سمي بهذه الصفة ليجرد تفاسير القرآن الكريم السابقة منها مع أنها ليست خلوا منها.
وجرى على يد المحبوب تكريس فكر الترابي فكرا طائفيا، وتم نصب الترابي مفكرا أوحد في الحركة الإسلامية السودانية، في وضع شبيه بالوضع الذي يتمتع به الصادق المهدي في حزب الأمة.
(وفي الحلقة القادمة نتابع، بإذن الله تعالى، أعراض داء الطائفية الذي أصيب به الأستاذ المحبوب عبد السلام، ونتلمس مظاهره وتجلياته، كما بدت في كتابه محل النقد).



mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]

 

آراء