المحروسة: الله يكضب الشينة!! … بقلم: ضياء الدين بلال

 


 

 


diaabilalr@gmail.com

دواع متعددة جعلتني أقضي العيد وإجازته بالقاهرة، ربما تمتد إقامتي فيها لأيام أخرى، هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها مصر بعد ثورتها على مبارك ونظامه، وجلوسها على مقعد القلق في انتظار القادم.
علمتني زياراتي السابقة أن أفضل الطرق لاستكشاف ما يحدث داخل الحياة المصرية التبصر في عبارات البيع والشراء.
تلك العبارات تعطيك مؤشرات الحالة المزاجية السائدة، بكل ما فيها من قلق وخوف وترقب وربما عشم في القادم.
في مرات سابقة كنت أجد ما في جيبي مستهدفاً بإلحاح من كل من التقيه في المعاملات اليومية، يتم ذلك الاستهداف بذوق ولطف وخفة دم تجعلك تقدم تنازلات اختيارية في المفاصلات السعرية.
الغريب في كثير من الأحيان قد تعجب بالطريقة التي خدعت بها، لأنك تجد أن خادعك بذل مجهوداً مقدراً في الوصول لمبتغاه. في السودان أنت تخدع بشكل وقح وكسول أشبه بما حدث في سوق المواسير.
ملاحظتي في هذه الزيارة أن عبارات اللطف أقل من المعتاد، والونسة أميل للاقتضاب. تخرج المجاملات من حواف الشفتين. والدم الخفيف أصبح أكثر كثافة. يشعرك سائق التاكسي وأنت لجواره كأنه يضع يده في جيبك ليأخذ حق المشوار.
حاولت بيني ونفسي تفسير هذا التغير في التعامل، قلت ربما ضغوطات العيد والتزاماته في ظل وضع اقتصادي مترنح هي التي تخرج سائقي التاكسي خارج سياق مالوفاتهم التعبيرية!
جاءني خاطر بأن الزائر لمصر قيمته من قيمة عملته الوطنية وربما التدهور المريع في العملة السودانية خفض قيمة الزائر السوداني.
سبب ذلك الخاطر أن الموضوع الذي كان دائم الحضور في زياراتي الأخيرة للقاهرة وغاب في هذه الزيارة هو مقارنة الجنيه المصري بالجنيه السوداني والدخول مباشرة في استكشاف إمكانية إيجاد فرصة للعمل في السودان.في مرة كنت تحت رحمة (مفكات) طبيب أسنان مصري كبير- كثيراً ما ترعبني الأصوات التي تصدر من معدات أطباء الأسنان لماذا لا يجدون في تصنيع معدات كاتمة للصوت- المهم إذا بطبيب الأسنان المصري وقتها يدير معي حواراً حول أفضل الشوارع بالخرطوم لفتح عيادة له، هل شارع المعرض أم عبد الله الطيب عند تقاطع عبيد ختم؟!
كنت في السابق استسهل الدخول لعوالم الواقع المصري عبر عربات سائقي التاكسي، ثقتي تراجعت حين نبهني أحد العارفين بأن إفاداتهم ليست ذات مصداقية عالية، لأن ما يثرثرون به هو جزء من حسابات المشوار، تحسب عبر (عدادك الخاص) الذي يرصد مدى ما تجنيه من متعة في الحديث وتستفيده من معلومات.
ذات الشكوى القديمة من الأوضاع الاقتصادية لا تزال تتردد، على قدر شعور الشعب المصري بالاعتزاز والفخار بالثورة وإسهامها في رد اعتبار الشخصية المصرية في كل العالم، ورفع قيمة أسهمها في بورصة الشعوب، إلا أنك تلحظ حالة بائنة من القلق على المستقبل جراء حالة السيولة التي تجعل كل شء قابل للثورة عليه.
المؤسسة العسكرية التي كانت في أيام الثورة مصدر ثقة الشعب وملاذه الأمن، الآن تشتم رائحة الشك والريبة في مانشتات الصحف وفي تفاصيل الأخبار وتعليقات الكتاب في كل ما تقوم به وتقوله المؤسسة العسكرية.
تذكرت أول زيارة لي لكينيا عندما تسلمت من إدارة فندق انتر كونتنينتل قائمة تحذيرات من خطورة الخروج ليلاً، ومقاومة اللصوص في حال التعرض للسرقة، مع تحذيرات مرفقة من بنات الليل ومرض الإيدز!
تذكرت ذلك والشركة الأمنية بالعمارة التي نزلت بها في القاهرة بالمهندسين تحذر أطفالي من اللعب خارج العمارة خوفاً من مجموعات إجرامية، أصبحت تخطف الفتيات والفتيان والأطفال، وتساوم أسرهم على مبالغ مالية!
كانت تلك الإشارة الأولى بأن القاهرة التي أعرفها لم تعد كما كانت، بدأت تفقد أهم مميزاتها، وهي الطمأنينة الأمنية. في السابق بإمكانك أن تحتاط لعمليات الاحتيال التي تتم بلطف وخفة دم، ولكنك الآن يجب عليك أن تخشى سيناريوهات مرعبة جدا. لا تبدأ بالخطف ولا تنتهي بسرقة جميع أعضائك الحية من قرنية العين الى أصابع الرجلين مروراً ب (حاجات تانية حامياني)، والتخلص مما تبقى في صحراء سيناء.
في صباح اليوم الثاني تبارت الصحف في تقديم عروض إجرامية من الحياة المصرية، معها تذاكر سفر للإسراع بالمغادرة!!
في المساء كنت في زيارة صديق يحمل جواز سفر بريطاني قال لي إنهم تلقوا رسائل من السفارة البريطانية بالقاهرة تحثهم على المغادرة قبل الانتخابات، حفاظا على ممتلكاتهم وأنفسهم.
8 شركات سياحية عالمية ألغت رحلاتها لمصر نسبة للتوترات التي من المتوقع أن تصاحب الانتخابات، سائقو التاكسي وأصحاب الشقق يروون لك معاناتهم مع الضربات الموجعة التي تلقتها السياحة. في شهرين تحول أكثر من 600 ألف مصري لصفوف العطالة، البورصة وحدها خسرت خلال أسبوع 3 مليارات جنيه.
الشرطة التي كانت سلوكياتها الاستبدادية في الماضي أحد أسباب الثورة على نظام مبارك؛ الآن سلبياتها تهدد سلطة المجلس العسكري ومقعد طنطاوي.
خلال أسبوع من وصولي القاهرة تم تفجير خط أنبوب الغاز الممتد لإسرائيل للمرة السابعة، والى هذا اليوم الذي أكتب فيه لا تزال معارك العائلات مشتعلة في سوهاج وقنا ودمياط وكفر الشيخ واشتباكات في الاسكندرية، يحدث ذلك لأسباب صغيرة جداً، مشاجرة بين أطفال في مراجيح العيد أشعلت حرباً بالنيران الحية بين قريتين، خلاف بين سائق ركشة وشاب فانطلق دوي الرصاص، مئوية الزمالك في القاهرة كانت ضمن فواتير الدماء المجانية.
أقلام مؤثرة في الصحافة المصرية أصبحت تطالب بتدخل الجيش لفض النزاعات، الأمر ليس محصوراً في الريف. كانت قمة الفوضى ما حدث قبل أسبوعين من اشتباكات بين القضاء والمحامين في الهواء الطلق، والحجازون يمتنعون!!
رغم كل ذلك لا تجد أصوات تعلن عن خيبة أملها في الثورة ولا تتحسر على أيام مبارك بل إن هناك من يروج أن تدهور الحالة الأمنية مرده لمؤامرات فلول العهد البائد، وأن معركة الجمل في ميدان التحرير لا تزال مستمرة وأن العدلي وجمال من داخل السجن لا يزالان يمسكان بخيوط الفوضى.!
من الواضح أن الأمر أكبر من ذلك، وأن القادم القريب قد يكون أسوأ من الذي مضى، وأن عودة الاستقرار لمصر قد تحتاج لأكثر من عشر سنوات، تزيد ولا تقل.

 

آراء