المحطَّات الحنيِنَة الْقَصَّرَتْ مُشوارْ سَفَرْنَا

 


 

 




عالم عباس/جدة
22/5/2012
(إلى حمِّيد في عليائه)
(البي نغماتو
لَهْلَبْ عِشْق الناس الفُقَرَا
وبَرَّدْ جوفِنْ بي غنواتو
وياغنواتو الدخَلَتْ فينا
تمرُقْ جينا على انْجَلّاتو)

وألف شليل يا نورا يفوتو
عشان ما يجيكِ شليلِكْ ذاتو
ولمَّا يجيكِ شليلك ذاتو...؟)
دعانا حميد لتدشين ديوانه (أرضا سلاح) بقاعة الصداقة، في اكتوبر من العام الماضي، كان حفلا بهيا تداعى إليه الكثيرون، وتباروا في الاشادة بالشعر والشاعر، أصدقاء وشعراء ومغنون وغاوون. حين صعد الاستاذ محمد طه القدال، وقبل أن يقرأ من أشعار حميد، راق لي، وهو يقدم صديقه حين قال: إنه محمد الحسن سالم حميد واشتهر عند الناس بحميد، وأنا اسميه(HOME MADE)!
على طرافة المقابلة والتشابه في النطق، ما بين اللغة الانجليزية والعربية في الاسم الذي فطن إليه الشاعر القدال برهافة حسه، فقد أصاب المعنى والجرس وجعلني أتأمل في اندغام المسمى بمعناه، والذي جسده حميد، فحميد هو شاعر(HOME MADE) بامتياز ، شكل خلال العقدين الماضين ملامح من الشعر السوداني في عاميته الجزلة وبقاموسه المتفرد ما جعله يتردد على لسان أغلب أهل السودان في امتداده الواسع، في سلاسة ويسر، بالرغم من أن شعره وقاموسه يغلب عليه لهجة رقعة محدودة من السودان، هي ديار الشايقية، لكن بفضل شاعريته المتمكنة ووطنية قضاياه في همومها الانسانية وأشواق شعبه وتطلعاته التي انعجن بها وتمدد على وسع الوطن وصار (HOME MADE)!
مساء الثلاثاء 20 مارس،2012 ونحن نواريه الثرى بمقابر البنداري بالحاج يوسف ، استرعى انتباهنا، ونحن في دوامة الحزن الجارف والذهول، مجموعة من الشباب (من الجنسين) ، يهتفون ويرددون بحماس مقاطع ثورية من أشعار حميد، ذكَّرَتْ الكهول منا بأيام ثورة اكتوبر 1964م، لمن شهد تلك الأيام! كل هؤلاء الذين يرددون تلك الهتافات من أشعار حميد لم يكونوا قد ولدوا بعد، غير أن اللافت للإنتباه حقاً، هو كيف تسنى لهؤلاء وأغلبهم طلاب في الجامعات أن يحفظوا أشعار حميد ويرددونها بإيقاعاتها الداوية والمتنوعة في مظاهراتهم وفي يوم وفاته الكارثية من صباح ذلك الثلاثاء الحزين، فقد كانوا يرددون أشعاره ويحفظونها جيداً ويتبادلونها بينهم كخبزهم الثقافي.
في وقتنا الحاضر، حين يرد شعر العامية السودانية فإن أبرز ما فيها بعد محجوب شريف وهاشم صديق، ففي طليعتهم، بلا ريب، محمد الحسن سالم حميد ومحمد طه القدال، وهما معا يشكلان علامة فارقة من حيث ذيوع الصيت والقدرة على دفع موضوعات أشعارهم العامية إلى مستويات رفيعة ومعقدة لم تبلغها قبلهم هذا الشعر، بالرغم من الفتوحات الهائلة لمن سبقوهم من الرواد، أمثال محجوب شريف وعمر الطيب الدوش وهاشم صديق، فهؤلاء أعلوا مقام الشعر العامي في السودان بحيث نافس الشعر الفصيح بمستوياته المختلفة وبخاصة الجامعات والمعاهد والمراكز الثقافية والصحافة الاليكترونية، وبشكل أقل في الصحف الورقية. الهدف من هذه الاطلالة هو إلقاء بعض الضوء على مسيرة العامية في الشعر السوداني خلال نصف القرن المنصرم لنرى موقعها وما صارت إليه الآن وإسهام كل من حميد وجيله فيها.
في الخمسينات والستينات من القرن الماضي سيطر الشعر الفصيح في قوالبه الفراهيدية على الساحة الثقافية، ولاقت محاولات التجديد في شكله ومحتواه عنتاً بسبب سيطرة خريجي المعاهد العلمية والأزهر على مفاصل تدريس اللغة العربية، ولم تكن للغة العامية أية فرص للظهور أو الاهتمام في المنابر الثقافية، وربما انحصر معرفة الوسط الثقافي بالأشعار العامية في أشعار الحردلو الكبير، والذي احتلَّ منزلة رفيعة لدى عارفيه وهم نخبة محدودة، أو وسط أهله في رفاعة، وربما بعض مجايليه من أمثال ودشوراني وعكير الدامر وغيرهم من شعراء الهمباته والدوبيت، وربما تم تداول هذا الشعر، والذي غلبت تسمية الشعر القومي عليه، في المنتديات السياسية آنذاك في التحشيد الجماهيري لبعض الأحزاب عبر لياليهم السياسية، واختصار موضوعاته في مدح مآثر الزعيم والحزب وهجاء الخصوم . أما في الصحف والكتب فلا تجد آثراً إلا من بعض المقاطع منها مثلا في مجلة (الكبار) التي أصدرتها دار النشر ضمن مشروعها في محو الأمية، والتي كان الهدف منها ترغيب الكبار وتحفيزهم للاطلاع والقراءة ضمن ذلك المشروع، وربما أيضا، بشكل قليل، في المسرحيات التي عرضت أيامئذ (إبراهيم العبادي ورفاقه)، وفي مربعات خجولة في الصحف تظهر على استحياء بين آونة وأخرى ثم تختفي، ولكن بصورة عامة لم يكن محل عناية أو اكتراث أو ذيوع.
لم تقتصر معركة الشعر الحديث آنذاك مع سدنة المدرسة القديمة في شكل القصيدة وعمودها وتفعيلاتها وموسيقاها فحسب، بل امتدت لتشمل الاحتفاء بالشعر العامي أيضا وفي الدفاع عن العامية بشكل عام وبقدراتها في الافصاح والإبانة، وقد تجد نماذج منها في بعض الأشعار لدى صلاح أحمد إبراهيم ومصطفى سند بدرجات مختلفة، ولكن حرص واهتمام صلاح أحمد إبراهيم بها فهو واضح ومؤثر.
حين اندلعت ثورة اكتوبر تخلخلت معها كثير من المفاهيم كانت الجامعة مهد الشرارة التي انطلقت منها الثورة وكان الشعراء الطلاب وقتها من بادروا بصياغة أناشيدها وأغنياتها، وعبر تجمعاتهم الثقافية والسياسية تغيرت النظرة إلى العامية ووجدت لها حيزا معتبرا في أناشيد الطلاب ومسرحياتهم. ظهرت خلالها أسماء كبيرة أمثال علي عبدالقيوم، فضل الله محمد، كامل عبدالماجد، عبدالباسط سبدرات، وغيرهم. كما أن جماعة ابادماك الثقافية قادت دورا فعالا مشهودا وبخاصة في الريف، وهكذا لم يعد الشعر العامي منزويا.
هذا الحراك لم يتم بمعزل عن ما يجري حولنا فقد كانت مصر تمور بحراك واسع الأرجاء، والشعر العامي هنالك ينتزع الاعتراف به عبر بيرم التونسي وصلاح جاهين وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم وعبدالرحمن الأبنودي، والذي يعد علامة بارزة في العامية المصرية امتد أثره إلى السودان، وفي مجموعاته الشعرية المختلفة منذ (عم اسماعين/ يوميات حراجي القط/ الأرض العيال/ أنا والناس ..الخ) تكررت زياراته للسودان ولاقت لياليه الشعرية جماهيرية واسعة وأبدى إعجابه بشعراء العامية السودانيين. شكل كل ذلك لهم دفعا قويا، وهكذا بدأت الصحف من بعد تفسح حيزا لهذا الشعر .
جاءت مايو واستندت على ديناميكية اليسار (أو الديمقراطيين) في أيامها الأولى، وبخاصة في المجال الثقافي، وفي الذهن الاهتمام بالعمال والمزارعين ورفع مستواهم وتعليمهم والاحتفاء بثقافتهم، فأصبحت العامية تنافس الفصحي وتتسيد على المنابر وبرزت أسماء لامعة غنت للثورة والكادحين والفقراء وأهل الريف، أسماء مثل حدربي محمد سعد، هاشم صديق، محجوب شريف، عمر الطيب الدوش، وهؤلاء تحديدا ظلت كل قصائدهم بالعامية وشملت موضوعات قصائدهم الواقع الاجتماعي بجميع تعقيداته في كفاحه وغزله ومعاناته وصنوف استغلاله، إبائه وكبريائه، وعفته ورزانته وآماله الكبيرة.
بعيدا عما آلت إليه مايو منذ أحداث يوليو وما بعدها فقد تزاملت القصيدة العامية مع  الحديثة على الساحة وانحسرت القصيدة الكلاسيكية في قوقعتها الخليلية وعلى نحو خاص في الجمعيات والمنتديات الثقافية ومعهد الموسيقى والمسرح والجامعات والوسط الطلابي.
بواكر الثمانينات برز شباب لفتوا النظر بأدائهم الشعري المتميز في العامية وتفردوا بثلاثة أشياء، أولها، المواضيع التي يتناولونها، ثانياً، قاموسهم العامي الغني والجزل وقدرتهم في التحكم فيها، وثالثاً، الأداء الجميل وأسلوب الإلقاء المتمكن والآسر، (وكنت قد ذكرت من قبل معرفتهم وتأثرهم ، ولا شك بالأبنودي)، وأعني تحديداً، القدال وحميد.,
شكل الشعر الثوري الرافض لنظام نميري، وبالأخص في المؤسسات التعليمية ، أحد أهم خطوط المقاومة ، وكانت تلك المنابر ما تزال ساحة للفكر والتوعية سياسيا واجتماعيا وثقافياً، ولم يطالها الخراب الماحق كالحال الماثل اليوم. صار الطلاب يحفظون تلك الأشعار وبالمقابل كان الشعراء، وعلى رأسهم من ذكرنا، يجوِّدون من أدائهم، وصارت كل قصيدة من قصائدهم تشكل مظاهرة صغيرة تسري بين الطلاب بطول البلاد وعرضها، وذلك عبر الكاسيت وغيرها من الوسائل المتاحة (مسدار ود السرة لليانكي .. ، شيخ تلب، المداح .. إلخ للقدال ونورا، وعم عبد الرحيم، وتفاصيل ما حدث .. لحميد).
إنهار نظام نميري، ووئدت الديموقراطية التي أعقبته لفترة قصيرة، وعاد العسكر مرة أخرى بثوب جديد في يونيو 1989م، وإلى اليوم، ونحن في العقد الثالث نكابد مخاض الوجود والبقاء، تغيرت معالم الوطن وضاع ثلثه واشتعلت الحرائق في أطرافه وانكمش في ذاته ولم يسلم من التشرذم والتناحر ، كما لا يبدو في الأفق بشائر خلاص وشيك. مع كل هذا، ظل هؤلاء الشعراء يقومون بعملهم الرائع في الدعوة للخير والجمال ووحدة الوطن والتغني لإنسانه الفقير المغلوب على أمره من قصائد غاضبة عاصفة ومن حماسيات طاغية ومن ألفة محببة ودعوات للتسامح والسعي لإطفاء الحرائق الكثيرة التي اشتعلت في الوطن (أرضاً سلاح، لحميد كمثال). كان هنالك القدال بقصائده الغاضبة والساخرة، تتشبث بالوحدة المستحيلة (وأنا ما بجيب سيرة الجنوب!). جاب القدال أطراف السودان، وحيث ما حل تحلقت حوله الألوف يخاطبهم بإلقائه الأخاذ بمفردات عاميتهم. ما أن يبتدر القصيدة حتى تشاركه في إكمالها، فقد حفظوا أشعاره عن ظهر قلب منذ أول إلقاء له فيها، فصارت تسبقه إلى المنابر. القدال يهضم العامية السودانية بلهجاتها وطرائق أدائها المختلفة ويطوعها في قاموسه، وحيث حل ينشدهم قصيدة فيها عاميتهم ولهجاتهم ولسانهم كالتي بها ينطقون، فكأنه شاعرهم المتقمص لشخصيتهم التي يألفون.
أمَّا حميد، فهو يحفر عميقا في لهجة أهله ومنطقته وينقب فيها ويعيد سبك هذه اللغة الموحية في ثنايا قصيده، يتخيّر مفرداتها التي اندثرت فيعيد إليها الحياة، وحين يلقي قصائده في تنهيدته المحببة، يتهافت الناس لحفظها ، وهكذا انتشر قاموسه في البلاد وتعلم أهل الأصقاع البعيدة تلك اللهجة المفعمة بالمحنة والإلفة وأضافوا إلى قاموسهم مفردات جديدة أغنت لغتهم وأسهمت في التواصل والمحبة وصقل الوجدان.
واليوم فإن طلاب المدارس والجامعات في أنحاء السودان المختلفة، والشباب في أنديتهم يتداولون اشعار حميد والقدال في أشرطة الكاسيت والأقلام الإلكترونية ومواقع الشبكات الفضائية ويقودون بها المظاهرات التي تصارع الظلم والتسلط والطاغوت وتدعو لسودان جديد ولعدالة وديمقراطية تعلي من قدر الإنسان وتحفظ كرامته.
الفتح الذي أحدثه كل من حميد والقدال، والذي هو بالتأكيد امتداد لمساهمات كل من محجوب شريف وعمر الدوش وهاشم صديق، وقبلهم الرائد الأكبر الحردلو الكبير، مهد المجال لظهور أسماء جديدة ظهرت بعدهما ويشكلون إضافة حقيقية في نهر الشعر العظيم من أمثال عاطف خيري وعاصم الحزين ونضال  الحاج وإيمان بن عوف وناجي البدوي وعاصف المأمون وغيرهن وغيرهم.
رحم الله محمد الحسن سالم حميد، حميد ،(HOME MADE)، فقد كان فقده عظيما وكنا ننتظر أن تمتد به الأيام حتى يكتمل مشروعه الضخم. ولعل عزاءنا في صديقه وصِنْوِ روحه، القدّال، أمد الله في أيامه وأعاننا وإياه على هذا الفقد الجلل والخسارة الفادحة.


Alim Nor [alim.nor@gmail.com]

 

آراء