المحكمة الجنائية الدولية بين قوة القانون وقانون القوة

 


 

 

بإصدارها مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي بوتن، تصعد تكون بذلك محكمة الجنايات الدولية المعروفة قد صعدت من ملاحقتها لمرتكبي الجرائم المصنفة جرائم ضد الإنسانية على أساس نظام روما الذي أنشأت بموجبه لأول رئيس دولة بحجم روسيا إلى قمة الصراع الدولي على المستوى القانوني والسياسي. ويكون الرئيس الروسي الثالث من بين زعماء العالم الذي تصدر بحقه مذكرة اعتقال والثاني كرئيس على رأس السلطة بعد الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير. ومما ورد في حيثيات مذكرة مدعي المحكمة اتهام الرئيس ومفوضة حقوق الأطفال ماريا لفوفا بيلوفا بترحيل أطفال من أوكرانيا إلى روسيا. وبالتالي تكون هذه المذكرة بمثابة توجيه للدول الموقعة على نظام المحكمة التقيد الزاماً بتنفيذ أمر التوقيف بحق الرئيس الروسي.
ولم تكن هي المرة الأولى التي تصدر فيها مذكرة توقيف من محكمة الجنايات الدولية، ففي اعقاب توجيه مذكرة لعدد من المسئولين السودانيين الضالعين فيما عرف بالإبادة الجماعية في إقليم دارفور غربي السودان ومن بينهم رأس النظام على خلفية جرائم حرب ارتكبت راح ضحيتها بحسب تقديرات الأمم المتحدة بثلاثمائة ألف قتيل ونزوح أكثر من مليوني انسان. ولم يمثل أمام المحكمة من قائمة المهمتين سوى متهم واحد. ولم يحدث أن أوقفت الدول المصادقة نفسها على نظام المحكمة والبالغ عددها مائة ثلاثة وعشرين دولة مطلوباً واحداً للمحكمة. وبالنظر الى الدول المصادقة على نظام المحكمة باستثناء دول أوربا الغربية دولاً تعد ذات تأثير محدود على المسرح العالمي مما يعيق من تنفيذ إجراءات مذكرات توقيفها فدول كالولايات المتحدة التي رحبت بمذكرة توقيف الرئيس بوتن، والصين حليفة روسيا وغيرها من الدول في الشرق والغرب مما يقوض جهودها فيما يقتضيه تنفيذ العدالة من تعاون في سياق قوة تنفيذ القانون.
ومحكمة الجنايات الدولية ظلت مكان جدل منذ إنشائها وطبيعة دورها واختصاصها وتصديها فيما يقول نظامها الأساسي لمرتكبي الإبادة الجماعية وملاحقة الهاربين من العدالة. وأي يكن الموقف القانوني من عدالتها تجاه قضايا العالم الشائكة وتلك لا تزال ترتكب في عدة بؤر متفجرة حول العالم. وتسعي المحكمة في تحقيق العدالة اقتصاصاً للضحاياً وعقاباً لمرتكبيها حتى لا تتكرر كما تقول أديباتها. فإن ما أحاط بدورها لم يخل من ظلال سياسية وتعقيدات قانونية محل جدل طال ولايتها ومدى تعارضها مع سيادة الدول ومبدأ حصانة الرؤساء وبين دول تشعل الحروب في مختلف البقاع كالولايات المتحدة التي لم توقع على المحكمة حماية لجنودها وبين حروب داخل الدول وما يرتكب فيه من فظاعات تدعى استقلالية أجهزتها القضائية بما ينفي الحاجة إلى تدخل محكمة الجنايات.
وضع هذا التداخل السياسي والقانوني المحكمة في خضم صراعات تتفاوت في درجة سخونتها وطبيعتها بين صراعات دولية وحروب أهلية داخلية وإقليمية وضع الدول الموقعة وتلك التي ترتكب جرائم تنتهك القانون الإنساني (حقوق الانسان) فأصحبت صورتها كمحكمة شعوب بمفهوم القانون الروماني القديم صممت لملاحقة قادة بلدان العالم الثالث ولا تخلو من انحياز سياسي قطبه ومصدره المركزية الأوربية بتاريخها الإمبريالي مع شعوب العالم خارج النطاق الأوربي. وعلى الرغم من وجاهة بعض من هذه الاتهامات إلا أنها لا تبرر لانتهاكات ترتكب باسم السيادة الوطنية خاصة في نظم ذات تكوين سياسي سلطوي لا تأخذ بسلطة سيادة القانون. ولكن من جانب أخر تجرى انتهاكات من دول لا تطالها مذكرات المحكمة الجنائية على فداحة ما ترتكبه، فإسرائيل مثلاً تصعد من عمليات الاغتيال في الأراضي الفلسطينية المحتلة والتهجير وعلى مدى مما رفعته السلطة الفلسطينية والهيئات القضائية لملاحقة بحق قادة إسرائيل لم تصدر المحكمة مذكرة واحدة بأي أي من قادة إسرائيل، على تأكيدها في قرار سابق على ولايتها القضائية في الأراضي الفلسطينية.
وبالعودة الى مذكرة التوقيف بحق الرئيس الروسي الذي يخوض حرباً ضد أوكرانيا ومن ورائها حلف الاطلنطي في حرب لا مدى منظور لنهايتها ولا يمكن التنبؤ بحجم المواجهة فقد استقبلت خبر مذكرة التوقيف باستخفاف كما هو متوقع. ولكن ذلك لا يمر دون تعقيدات جديدة ستجد القيادة الروسية إضافة الى حالة العقوبات الدولية والآن القانونية أمام أوضاع معقدة. وعلى الرغم من صعوبة تنفيذ بل واستحالة تنفيذ مذكرة الاعتقال بتسليم الرئيس الروسي إلا أن رمزيتها ستصم موقف رئيس أكبر بلدان القوة النووية وستتقلص مساحة تحركاته على المستوى العالمي. وعلى اية حال روسيا ليست صربيا سلوبودان ميلوشيفيتش أو بلداً افريقيا أو لاتينينا فهي إحدى دول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن ولديها تأثيراتها السياسية والجيواستراتيجية مما يضع محكمة الجنايات الدولية أمام اختبار صعب بين العدل الذي هو جوهر القانون وبين معايير القوة أمام القانون.
إن دور محكمة الجنايات الدولية التي لا حدود لولايتها على الجرائم الي ترتكب ضد الإنسانية فهي لبست كمحكمة العدل الدولية التي تفصل في النزاعات بين الدول على أساس القانون الدولي. ولكن محكمة تعمل وفق اختصاص بما يشبه الاختصاص القانوني الدوليUniversal Jurisdiction العابر للحدود والسيادة والأسس القضائية المحلية للدول، وهو دور مشكوك في فعاليته في غياب آلية تنفيذية مجمع عليها. كثيرة هي المعاهدات والوثائق التي حاولت منذ نهاية الحرب العالمية وضع حدٍ للجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية وخاصة خلال الحروب من وضع مبادئ قانونية ملزمة لكل الدول إلا أن مطابقة هذه المبادئ للواقع كان دائماً ثغرة أخلاقية في مصداقيتها.

anassira@msn.com

 

آراء