غيَّب الموت أمس الأحد أستاذ الأجيال والرمز الصحافي الكبير إدريس حسن، بعد خدمة طويلة ممتازة في محراب صاحبة الجلالة؛ امتدت لأكثر من نصف قرن من الزمان، أجزل خلالها العطاء ولم يستبق شيئاً .
كان أستاذنا الراحل بحق نسيج وحده، وصاحب مدرسة متفردة في الصحافة السودانية، بشهادة مجايليه والأجيال المتعاقبة التي تتلمذت على يديه، ونهلت من معين خبراته الواسعة، وتجاربه الثرة العميقة، وتشربت أخلاقيات العمل الصحافي وفي مقدمتها المصداقية والدقة والموضوعية والتوازن في عرض وجهات النظر المختلفة والحياد ما أمكن .
عُرف في الوسط الصحافي، بالمخبر الأول، الذي لا يجارى ولا يبارى، متسلحاً بعصامية نادرة وإرادة فولاذية وذاكرة حديدية، مسنودة بعلاقات ممتدة وعميقة مع المصادر والقيادات السياسية من مختلف ألوان الطيف الحزبي، وبوسطية وسماحة عرف بها الاتحاديين جعلته قريباً من اليمين غير بعيد عن اليسار .
خلال تجربته في الرأي العام التي امتدت من ١٩٩٧ الى ٢٠٠٥، والتي بدأها نائباً لرئيس التحرير قبل أن يصبح رئيساً للتحرير، نجح في قيادة طاقم التحرير لتقديم مطبوعة نادرة المثال عصية على التكرار، بعد أن سكب يومها عصارة خبرته التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً، وأظهر قدراته العالية كربان ماهر أبحر بسفينة الرأي العام - رغم تلاطم الأمواج- إلى بر الأمان، وبعد أن عرف كيف يستغل هامش الحرية المتاح إلى أقصى حد ممكن، ويتفادى في الوقت ذاته الاصطدام بسفينة الإنقاذ التي كانت أيامها تبحر عكس التيار لا تبالي بالرياح .
في سنواته الثماني، بالرأي العام، ظلت الصحيفة الأقوى تأثيرا، و الأكثر توزيعا، بعد أن بقيت على مر السنوات الأكثر سبقاً وانفراداً بالقصص الإخبارية المتكاملة التي كانت تنسج من عدة عواصم في بعض الأحيان.. الخرطوم والقاهرة وأسمرا وبدرجة أقل لندن وربما عواصم خليجية؛ أينما تقيم وتحل قيادات التجمع المعارض .
ولئن شهد الوسط الصحافي لأستاذنا إدريس بقدراته الفائقة حتى تَوَّجه البعض ملكاً للأخبار، فإننا نشهد له بدربته العالية في إدارة وتوظيف المعلومات بعد التدقيق والتأكد من صحتها.. وأين ومتى تنشر ..
متى تبرز كـ"مانشيت" أعلى الترويسة،
ومتى تصاغ كخبر ٣ أعمدة أو عمودين أو عمود،
ومتى تدس في متن الخبر ولا تبرز في العناوين،
ومتى تمرر لمسؤول حكومي أو حزبي لنفيها وبالتالي تمريرها للقارئ (الذكي اللماح)،
ومتى تحال إلى الصفحة الأخيرة في الباب المقروء (أسرار ليست للنشر)،
ومتى يوظفها في الصفحة الثالثة بعموده المعروف (بلا رتوش)،
ومتى ترمى في المقبرة (كرتونة كبيرة وجدتها بمكتبي الذي كان يشغله قبل أن ينتقل لمكتب رئيس التحرير، وقد أسماها أستاذنا الآخر المرحوم أحمد باشري بالمقبرة بعد أن لاحظ أنها أصبحت مدفناً للمواد غير الصالحة للنشر).
ومع أن أخباره غير قابلة للنفي، إلا أنه بـ"حقانية" عرف بها لا يتردد لحظة في التصحيح والتصويب والتوضيح متى ما ثبت له حصول خطأ أو لبس في النقل، وبالمقابل يرفض التصحيح والتصويب - غير هياب ولا وجل - وينحاز للصحافي في مواجهة المسؤول ما دام الأول محقاً، وإن جاء النفي من علٍ .
كان لأستاذنا إدريس تعريفه الخاص للصحافي؛ فالصحافي في نظره لا يستحق أن يطلق عليه صحافياً إن لم يحمل هم الصحيفة معه في حله وترحاله في دوامه ومنامه .
بقي أن أقول أن أستاذنا الراحل أظهر حرصاً بائناً على تقلد الشباب القيادة التحريرية في الصحف؛ فعند خلو منصب مدير التحرير في الرأي العام بعد أقل من شهرين من صدورها الأخير في نوفمبر ١٩٩٧، انقسم مجلس إدارة الصحيفة إلى تيارين؛ أحدهما يفضل إسناد المنصب إلى أحد أصحاب الخبرات من خارج الصحيفة، في حين قاد الراحل تياراً يدعو لإسناد المنصب لشباب الجريدة، واستطاع أن يقنع المجلس برؤيته وترشيح شخصي الضعيف لتولي المنصب - قبل أن أكمل سنتي الخامسة في دروب المهنة - وتحفيزي على كسب التحدي.. واليوم بعد مرور أكثر من عشرين عاماً، أزعم أن جيل الشباب الذي يتسنم اليوم أرفع المواقع في الصحف السياسية مدين للراحل ببعض الفضل .
ألا رحم الله أستاذنا إدريس وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وألهم آله وتلامذته وعارفي فضله الصبر الجميل .