المربع الأول – تصفير العداد

 


 

 

الحدثان المهمان اللذان شغلا الساحة منذ الثاني عشر من ابريل شهر رحيل رأس النظام البائد، هما انقلاب قائد الجيش على الوثيقة الدستورية واستقالة رئيس مجلس الوزراء، وبهما تم وضع لنهاية حكومة الانتقال التي جاءت بالدكتور عبد الله حمدوك رئيساً للجهاز التنفيذي، هذان الحدثان نحرا الوثيقة الدستورية واتفاق جوبا للسلام في وضح النهار، وكشفا للثوار أن الامور قد عادت لذات نقطة البداية - الصفر - التي هتف فيها الثائرون واحتفوا بسقوط صنم هُبَل، فالآن وبعد حدوث هذا الفراغ الدستوري لا توجد هنالك مرجعية يستند عليها في اتخاذ أي خطوة باسم الثورة او الثوار، فالحكومة الأخيرة قد تقدم وزراؤها باستقالاتهم لرئيس الوزراء المستقيل، من بعد خروجه للناس من قيد الاقامة الجبرية واعلانه عن اتفاق سياسي بينه وبين قائد الجيش، الرجل الذي تم تنصيبه رئيساً للمجلس السيادي مرتين، في غلوطية دائرية وطلاسم قانونية لا يفك شفرتها الا اساطين علم القانون الدستوري، ومن اكبر مصائب هذه البلاد ولعناتها عدم قدسية المواثيق والعهود والنكوص عنها في أي وقت ولاتفه الاسباب، فقد اصبحت الاتفاقيات المنعقدة بين شركاء العمل السياسي مجرد احصنة طروادية يمتطيها ذوو الغرض.
لقد اثخن جسد الشعب السوداني بطعنات الغدر الموجعة ممن يسمون انفسهم رواد للعمل السياسي بمختلف الوان طيفهم الجغرافي – بلا استثناء، فمع بزوغ فجر أول منظومة حكم (وطني) طفح كيل الخلافات الشخصية، وغطّت سحبه اجواء الممارسة العامة في اروقة الفعاليات السياسية داخل دوواين الحكومة وبين دهاليز مؤسسات الاحزاب والحركات المسلحة، وما زالت المقولة المأثورة (لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً) تنطبق على حال هذه الاجسام الفاشلة، التي استلمت الراية الثورية من ايدي الشباب المقتولين غدراً أمام باب الجندي (الحارس اموالهم والحامي اعراضهم)، لكل هذه التداعيات خرج شباب الغد واسمعنا الجواب وقال فيما معناه: (من تحزب خان، ومن ناصر حركة هان، ومن داهن عسكرياً فهو جبان)، واندغمت جميع القوى الحيّة تحت اعلام الشباب التلقائي الصادق والقاصد تحقيق كينونة الوطن، وطويت صفحات الماضي المكتوب عليها مفردات العار وكلمات الخزي والعيب، وجردت حساب السنتين الماضيتين وتوصلت لخلاصة مفادها:(ماحك جلدك مثل ظفرك).
الحزن المقيم في قلوبنا احد اسبابه ترك الشباب الثائرين لوحدهم في الساحة، بعد انقضاء عامين من تسنم حقائب الحكم الانتقالي، وبدون غطاء من التوافق السياسي من قبل جيل الآباء والاجداد الذين يمثلون هرم قيادة هذه الأجسام، ودون أن يعترفوا ويقولوا ومنذ البداية أنهم سيتلاعبون باحلام احفادهم حين من الدهر ثم لايعبأون لأمرهم ويعتبرونهم كأنهم لم يكونوا شيئاً مذكورا، هل الناس بحاجة لمن يعتلي ظهورهم من بعض ابنائهم وجزء من بناتهم، فما لبثوا أن فروا تاركينهم لفوهة بندقية حرّاس الدكتاتورية الجديدة، إن مآسي ومخازي اللاعبين القدامى يجب أن لا تصطحبها الأجيال الحديثة، لأن مرض الجرب يعدي الصحيح الذي يختلط بالمريض بالملامسة والمساكنة والمعايشة، فالوصاية الأبوية الممارسة من جوقة العهود البائدة، لن تصمد أمام موجة الوعي المكتسحة لعقول الشباب الحاضرين والصغار القادمين، وليس هنالك ما هو امضى مرارة من أن يتركك من كنت تظن أنه المنقذ، وأنت تبني الآمال العراض حول كاريزماه لكي يقود مستقبل التحول الديمقراطي عبوراً ميموناً مباركاً فيه ومنتصراً.
من حسنات ترك الأب لابنه وهو يخطو خطواته الأولى على عتبة مشوار الحياة، هي الصقل والنضج والاستقلالية لهذا الابن وهو يرسم ملامح مستقبله بيده لا بيد أبيه، مترنماً ببيت القصيد العريق: (ليس الفتى من يقول كان أبي، إنّ الفتى من يقول ها انذا)، انطلاقة الثائرين بعد الاستقالة هي الأكثر رسوخاً وثباتاً على الأرض من سابقاتها، وذلك لانكشاف الحقيقة واستبيان المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها الا الهالك المتربص بابناء حيّه وفريقه، فقد تم تصفير العداد ورجعت الأمور كلها لمربعها الأول، وهتف الناس بأن لابد من التحول الكامل نحو الحكم المدني، ورفعت سقوف المطمح الشبابي الثائر لما فوق الثريا – شعب واحد وجيش واحد يسد الثغور في الفشقة وحلايب وشلاتين والجنينة وأبيي، وكف ايدي العابثين بالكتاب القرآني القابع على منضدة قاضي القضاة، والذي ظل يقسم عليه الوزراء والحكام (دون اكتراث او مهابةً من عقاب الرب العليم العظيم الذي يعرف خائنة الانفس وما تخفي الصدور؟؟!!).

اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
5 يناير 2022
////////////////////////////

 

آراء