alshiglini@gmail.com
(1)
ربما كانت أشواق الطفولة تُقلد نهج البلوغ في سعيها المحموم في سباق لا ينتهي ولكنها ذكريات ماضينا البعيد . كان السودان غير ما هو اليوم ،وكانت حوادثه تجري بسرعة بطيئة .يوجد الترام ، يصل المحطة الوسطى الخرطوم بنظيرتها في أم درمان والخرطوم بحري . الترام يسير بالكهرباء ، وهو تيار لا يتوقف ولا ينقطع ، لأن خدمات المياه والكهرباء جزء من الحياة ، لا تنقطع طوال اليوم .
كُنا نعود المدرسة الوسطى عصراً ، للبرنامج الرياضي ، وللاستذكار من الخامسة إلى السابعة مساء كل يوم عدا يوم الخميس . نجلس على ذات مقاعدنا الصباحية ، ويتحول المعلم الذي يراقب المذاكرة ، إلى شخصية رحيمة رفيقة ، يجيب على كل الأسئلة التي تنتظر بطيب خاطر وقدرة تكاد أن تمحو السياج الذي يفصل عالم التلاميذ عن عالم الأساتذة.
في حديقة مثلثة غرب بوابة المدرسة ، تقف منضدة خشبية عالية الإرتفاع ، ما يقارب المتر والنصف ارتفاعاً . يُنصّب على سطحها " تلفزيون أبيض وأسود " . يبدأ الإرسال التجريبي من بعد الغروب إلى الساعة العاشرة مساء. يتجمع المارة لرؤية تلك الآلة الغريبة !. ومثلها نُصبَ في حديقة المجلس البلدي بأم درمان وكذلك حظيت مدينتا الخرطوم بحري والخرطوم بأماكن مناسبة لنصب تكنولوجيا العصر أمام العامة.
(2)
ربما صدق كاتب القصص " عثمان حامد سليمان " ، حين أخبرني ذات مرة أن جرّة الطفولة ، هي مخزنه الذي يفتحه حين يرغب في كتابة قصة جديدة . لذا جرّبت أن اتفقد الجرة ، فاستخرجت منها قصة " المسترسل والحميراء" .
جلست مع "حسن " ، نستذكر دروس الجغرافية ، نستعيد منهاج السنة الثانية الوسطى حفظاً، لأننا بصدد الذهاب للسوق الخيري السنوي، الذي يقام في مدرسة "المليك الأهلية الوسطى للبنات".
ارتدينا أزياء نظيفة ، مُعتدلة كي نكون في أفضل حالات الحضور . سنزور فصل السنة الثانية في أيام السوق الخيري ، منذ الخامسة مساء وإلى أن ينقضي زمن السوق. عندها استخرجنا كنوز المعرفة ، ونحن نتبارى في استخراج المعارف الجغرافية بالتبادُل . ونبهر السيدات الصغيرات اللائي يقفنَّ أمام مُخططات الجغرافية ، وهنَّ خاليات الذهن . ومن هنا يبدأ حوارنا الماكر معهُن . نستدرج الحديث ، كمن يسأل ليعرف . ونبدأ ببطء ، ثم نستعيد مسلسل الحديث الذي لا ينقطع .
- منْ أنتم ؟
- أنا "أحمد "، وصديقي " حسن " .
- هو يسكن وطننا الجنوبي .
قلت أشرح :
- نحن من تلاميذ مدرستين مختلفتين : أنا من " مدرسة الأهلية الشمالية الوسطى " و
صديقي من " مدرسة أويل الوسطى " بجنوب السودان . قدم في عطلته السنوية لزيارتنا ، فوالده من أهل الشمال ولكنه يعمل هناك .
بدأنا سلسلة أحاديث ممتدة ، تمسك الواحدة بأختها . بدأنا بمراجعة المخططات الجغرافية المرسومة والمثبتة على ألواح العرض . هناك تنسيق بقدر الهمّة ، ألواح العرض منسقة ، ولكن خطوط العناوين مائلة ، وغير دقيقة . الألوان متعددة ولكنها تحمل آثار عمل أطفال أكثر من عمل المُحترفين . ففي مدرستنا نحرص على الدقّة ، ونختار أصحاب الخطوط المنسقة ، الخط الديواني مثلاً يتعين أن يكون ديوانياً إلى الآخر ، لا نختمه بخط النسخ . يستقيم الخط على الأفق ولا ينحني إلا بقدر إنحناءة الحروف.
التلميذات الصغيرات يرتدين اللباس المدرسي النظامي: فستان أزرق و" طرحة " بيضاء .كان رسم الدخول خمسة قروش . نتنقل كالنحل بين الفصول الدراسية المخصصة لعرض المنهج بصور مُحببة ، تُظهر المنهاج وتلخصه بصورة مُيسرة ، والبرنامج الدراسي كان مستقراً . فقد كانت " بخت الرضا " تُشرف على المناهج الدراسية . والمدرسين والمدرسات ، معظمهم قد تخرجوا من المعاهد التعليمية المتخصصة للتدريس وللتربية .ويعرفون أسس نظام التعليم وطراقه المتعددة . وكيف يُمازج المدرس بين النابغين وغيرهم .
تعرفنا على تلميذة سمراء اللون ، مُسترسلة الشعر ، دقيقة الملامح وجميلته ، فأسميناها " المسترسل " . وتعرفنا على تلميذة أخرى ، صديقتها ، والأخيرة بسمرة فاقعة ، وجمال نبيل . فأسميناها " الحُميراء " . احتفظنا بمصطلحاتنا تلك لأنفسنا.
طوال تواجدنا اليومي خلال أيام السوق الخيري الثلاث ، تعرفنا إلى التلميذتين ، وأحببنا البقاء طويلاً عند العروض معهنَّ نستأنس . تجاذبنا أطراف الحديث ، وشعر كل منا بشعور غريب نحو الآخر المُختلف. مشاعر الارتياح بادية بيننا ، رغم روح المنافسة التي تملكتنا ، تجاذبنا أطراف الحديث ببراءته. تبادلنا إعجاب من نوعٍ خاص . نحن لم نعتد المدارس المُختلطة ، وعند تجربة السوق الخيري الخاص بمدرسة " المليك الوسطى للبنات " ، بدأنا نتعرف على عالم الأطفال الآخر ، ففي أوائل ستينات القرن الماضي ، كانت البلاد تزخر بهيبة العلم ورجالاته .فمدرسة " بيت الأمانة " و " مدرسة الأحفاد " و" مدرسة المليك " ، كانت جميعاً تُمثل الطرف الأهلي للمدراس الخاصة . بها ذات المنهاج المُشترك ، وذات نظام التعليم الحكومي وذات الأسس .
ناظر مدرسة " المليك " ، هو العم " بابكر المليك " نفسه . هو قصير القامة ، ضامر الجسم ، ، ويرتدي جلباب كجلباب المشايخ ، له حزام في الوسط ،يضع " طربوشاً " على رأسه. دائماً ما كان يحمل في يده سوطاً قصيراً يُحركه لإخافة التلميذات . يضبط إيقاع النظام بصوته العالي.
(3)
نحن في سن الثالثة عشر ، لم تكن مغامرتنا البريئة تلك إلا سباقاً محموماً ، نرغب الوصول لمرحلة البلوغ ، إن استطعنا أو لم نستطع. إن مشاعر الإعجاب لدى الأطفال ، تمتاز بالبراءة ، فلم تزل الأعواد الخضراء تتدرّب ، ولسنا في حاجة لعلاقات محمومة أوشائكة . ليس لدينا من لغة غير السئوال المتأدب عن منطقة السكن والمرحلة الدراسية . ونسينا الأسماء ، وتلك مصيبة لا يعدلها إلا سوء الطريق إلى المعرفة .
(4)
في اليوم الأخير للسوق الخيري لمدرسة" المليك "، لم نكُن نصدق أن التاسعة مساء ، وهي ساعة الختام قد أزفت . خرجنا جميعاً ، ورافقنا صديقاتنا الصغيرات الجُدد إلى محطة باصات " الثورة" ، وهو الحي الجديد الذي اختاره " العهد العسكري الأول " ليصبح امتداداً لمدينة أم درمان شمالاً . كان تقسيم الحارات في ذلك الوقت في مدينة " الثورة " يبدأ من الحارة الأولى وينتهي عند الحارة السابعة .
ركبنا البص مع التلميذتين ، في إتجاه مدينة " الثورة " .و عندما توقف البص في الحارة السابعة وكانت الأخيرة، ترجل الجميع. ترجلت التلميذتين وكذلك نحن. أودعناهنَّ سيراً على الأقدام إلى عتبات البيوت . بعدها نزلنا إلى الأرض الفضاء شمال الحارة السابعة . الظلمة تمتد شمالاً . وأعمدة الإنارة تضيء الطريق الذي يحد الحارة شمالاً . استنشقنا النسيم العليل وقضينا وقتاً ممتعاً نسترجع ما فات ، وبعدها انتظرنا البص ليقلنا عائدين إلى داخل المدينة . داخل البص الذي تجّمع فيه حوالي سبعة أشخاص معنا . شرع راديو البص يردد أغنية عيد الكواكب من أشعار وألحان "محمد عوض الكريم القرشي" وغناءالمطرب "عثمان الشفيع ":
فلتسالوني عن عيد الكواكب
الفيه نور الدنيا صفاه ساكب
*
دا الدهب المجمّر بجماله انضر
دا الفل يحكي لونه ما أحلى نونو
مشاعر كثيرة تضاربت ، ونحن نُضاهي بين عيد الكواكب الذي ودّعناه ، وعيد الأغنية ونحن في قمة فرحتنا نحاكي في شجن رقص الكواكب وهي تتقلب ، مثل الحظوظ و قراءة البخت والأبراج .فردتُ كف صديقي " حسن " لأقرأ له الكف ، وكنتُ قد سبقته ببعض المعارف .قرأت حظ المال ووجدته بخير وفي توسع مُستمر، غير أن خط حياته ينقطع في زمان لاحق ليس ببعيد . فلم أتحدث عن الأمر .
لم نكُن نصدق أن ذلك اللقاء هو الأخير بيننا وبين الكويكبات الصغيرة تلك. انقطع حبل الوصال وذابت تلك القصة القصيرة وانزوت في كهوف الذاكرة التي تمتلئ بها جيوب أم درمان ولياليه . ربما صارت الآن أي من التلميذتين جدَّة في زماننا هذا .
ارتحل صديقي "حسن" إلى عالم آخر منذ عشر سنوات بعد حادث حركة مفاجئ ، لستُ أدري كم هي المصائر هناك فيما وراء الرحيل أو الموت . لم يعُد أحد من هناك ليحدثنا عن العالم الآخر. قليل منهم منْ كاد أن يعبر الصراط ثم تراجع عنه وعاد .
الحارة السابعة صارت الآن جزء من أم درمان القديمة، ربما في وسط المدينة . وامتدت الحارات شمالاً وتعدّى امتداد مدينة " الثورة " رقم المائة وزادت.أصبحت البلاد ليست كما عرفتها الذاكرة البعيدة. تغيرت الأماكن وتغير البشر.وامتدت العوالم وغزت كل مناطق الخصوصية في عوالمنا ،وصرنا مكشوفين بلا أسرار . كأننا الآن نكُتب عن مدينة أخرى وبشر غير الذين عرفنا.
عبدالله الشقليني
30 ديسمبر 2017
////////////////