المستقبل .. ذاك الذى نبحث عنه ! … بقلم: د . أحمد خير -واشنطن
13 November, 2009
Ahmed Kheir [aikheir@yahoo.com]
هناك العديد من الباحثين ممن يبحثون فى أحداث الماضى ويخوضون فى مجريات الحاضر ويتنبأون بماسيجرى فى المستقبل ! ولكن ، دعونا نتمعن فى تلك المسميات ، ونخوض فى الدلالات .
نحن نعلم أن هناك ماض بدليل تجارب مررنا بها ، أثرت فينا إيجابا أو سلبا . وبذا يصبح الماضى ماهو إلا واقع عشناه وخبرنا دهاليزه . وكذا الحاضر هو مانعيشه فى وقتنا الراهن ، ويمكننا بالتالى موازنة مانتصوره حيال ذلك الواقع .
أما المستقبل ، وهنا مربط الفرس . ماهو المستقبل ؟ فى الغالب الأعم يصور المستقبل على انه مجموعة من توقعات يمكن حدوثها ، أى هى جزء من غيبيات!
مابالك أيها القارئ الكريم إن قلنا لك بأنه ليس هناك مايسمى بـ " المستقبل " ليس نتيجة نظرة تشاؤمية أو عدم إيمان بالقدرية ، ولكن المستقبل هو مانتوهم حدوثه فى زمن آت ، لم نصل إليه بعد !وهذا فى إعتقادى هو الخطأ الذى تقع فيه الغالبية ! والواقع هو أن ما يسمى بـ " المستقبل " ماهو إلا ماض خبرنا بعض من جزيئاته ، وتعرفنا على معالمه ، ولكننا لم نتوقف عندها . ولكى نخبر ما يسمى بالمستقبل علينا محاولة نقل تجاربنا السابقة إلى حاضرنا لنعيش المستقبل . وبهذا يكون المستقبل فى نظرى هو حصيلة ماضينا وحاضرنا . إذن المستقبل ليس إلا وهماً نتوقعه بدون أن ندرى أننا سبق أن تلمسناه !
للدلالة على مانقول ، ليسأل الفرد منا نفسه ، كيف سيتعرف على مايسمى بالمستقبل أو مايتوقع حدوثه ان لم تكن جزيئات صورة ذلك المستقبل قد سبق له التعامل معها أو كانت جزءاً من ماض أو حاضر تعرف عليه ؟ لذا، انه يصعب تصور حدث من الأحداث مالم تكن لنا سابق معرفة بجزيئات أو تركيبة ذلك الحدث .
أخذاً بسياق ماسبق ، يظل المستقبل هو ما نبحث عنه ولانتوقف عنده ! وهذا مايجعل للحياة جمالها ورونقها . فالمستقبل يظل توقعات ، إن تمعنا فيها سنعى أن مانتوقعه ما هو إلا من صنع أيدينا وليس هناك ماهو مجهول فى مجمله ! وهنا علينا أن نقر بأن صورة المستقبل ربما لاتكون بنفس الوضوح الذى نحاول رسمه ، ولكن جماليات تلك الصورة أن يكون فيها جزء خفى ! وذلك الجزء الخفى هو ربما ما يجعل للحياة قيمتها وأهميتها .
إذا ما أخذنا بلعبة اللغز " بوزل " أو " شيكر" كمثال ، فبالرغم من تواجد الجزيئات يظل الوصول إلى الهدف هو غاية كل لاعب . وهذا ما يجعل للعبة جمالياتها .
إذا ما حاولنا تطبيق حيثيات ما جئنا به آنفا على واقعنا السياسي فى السودان فحتما سنجد أن كل حزب ، معارض كان أوحكومة ، يعى ماحدث فى الماضى من منجزات وإشكالات أوصلت بالبلاد إلى ماهى عليه الآن ، أى حاضرها الذى تشكلت معه حياة كل فرد فى السودان . ذلك الماضى الذى شهد فترات الإحتلال الأجنبى ، والكفاح الوطنى والمثابرة إلى أن تحقق الإستقلال . هل كان أولئك الذين ضحوا بأرواحهم فى مسيرة الكفاح كانوا على علم بماسيؤول إليه الوضع بعد الإستقلال ؟ بالطبع ، جميعهم كانوا على علم بجزئيات فقط وأن تلك الجزئيات كانت تقول بأن مابعد الكفاح هو " الإستقلال " أما ماذا بعد الإستقلال ؟ فهذا ما كان خفيا ، وذلك ما جعل للإستقلال مذاقا خاصا ، علموا كنهه بالرغم من أن أيديهم لم تكن قد توصلت إليه فى ذلك الوقت ! ثم أن من كافحوا وقاوموا المستعمر كانوا يعلمون فقط أن بعد رحيل الإستعمار ستتشكل حكومة قومية من أحزاب كانت لها مشاركة فى كفاح ورحيل ذلك المستعمر . أما ماذا سيكون عليه الوضع بعد قيام الحكومة " القومية " فهذا كان الجزء أو الجانب الخفى الذى شكل العامل الإيجابي فى إستمرار المقاومة .
عندما اندلعت الثورة الشعبية السودانية فى اكتوبر 1964 كانت الجماهير تنادى " التطهير واجب وطنى " وفى ظنهم انه عندما يحدث التطهير سينقى الثوب ويصبح لزاما التعرف على ذاك الجزء الخفى لتيحقق المبتغى! ماكان فى درجة الوعى فى ذاك الوقت هو ان الثورة قد وضعت نهاية للحكم العسكرى . اما " ثم ماذا بعد؟! " كما تساءل الكاتب الصحافى الكبير محمد حسنين هيكل ، فهذا ماكان يسمى بالمستقبل . أى ماذا تخبئ الأيام ؟ وإن كان كل من هيكل والجماهير السودانية على علم ببعض من ذلك المستقبل حسب ما تشير إليه الدلالات الماثلة أمام الجميع .أى ماذا بعد الحكم العسكرى؟ والإجابة بالتالى تكون بالمقابل هى الحكم القومى أى التعددية المتمثلة فى المشاركة فى الحكم من قبل أكثر من طرف واحد . وهذا ماكان واضح وبين للجميع ، وقد طبق على أرض الواقع عندما تشكلت جبهة الهيئات بألوان طيفها !
حتى إخفاقات الحكم القومى كانت جزيئاتها معروفة سلفا ، لأن عناصر تكوينها لم تسقط من السماء ، بل كانوا من بين أناس خبرهم الشارع ويعلم كل العلم مدى التباين بينهم فى المنهج وفى الأيدولوجيا ! تلك التركيبة بالرغم من أن مكوناتها التى لم يشك أى سودانى فى وطنيتها ، إلا أنه كان معلوما عدم تمكنها من أن تتعامل مع بعضها البعض . هذا ، بالرغم من وحدة الهدف المتمثلة فى التغيير من حكم شمولى إلى حكم قومى تعددى! وبالتالى كان التنبؤ بالفشل قائما وماثلاً أمام أعين الجميع بالرغم من الظن" التوقع " بحدوثه فى المستقبل ! أى أن المستقبل كان على مرئى من الجميع !
سيقول قائل ان التنبؤ بحدوث شئ لايعد مستقبلاً ، لأن الشئ المتنبأ بحدوثه من الممكن أن يحدث أو لايحدث ، بينما المستقبل هو قطعى الدلالة وواجب الحدوث! وهنا لنا أن نتساءل: هل فى الإمكان أن يحدث شيئ ما من فراغ ؟! أى هل من الممكن أن يتصور الإنسان " يتصور هنا معناه الإقرار سلفا بأن الإنسان يمتلك جزيئات ما يتصوره" وقوع حدث ما من لاشئ ؟! بالطبع لا . إذن نحن نستخلص المستقبل من ماضينا وحاضرنا ، ومن ليس له ماض وحاضر ليس له مستقبل .
إذن ، إن كنا نعلم سلفا ومن تجاربنا ، أن الحكم العسكرى الشمولى له من المساوئ أكثر من ماله من منافع ، وذلك بما خبرناه من ماض قريب "عمليا وليس ماض قرأنا أو سمعنا عنه " ذلك الماضى المتمثل فى النظام العسكرى بقيادة الرئيس إبراهيم عبود ، لماذا إذن قبلنا وأيدنا " فى البدء " نظام عسكرى آخر بقيادة جعفر نميرى فى 25 مايو 1969 ؟! هل يعنى ذلك أننا لم نكن قد تعلمنا من ماضينا ؟! أم أن الواقع المرير الذى أوصلتنا إليه الأحزاب ، وضع غشاوة على الأعين ، الشئ الذين دفعنا للعمل على الخلاص من وضع قائم بأن نغفل ما سيجرنا إليه نظام آت على ظهر دبابة ؟! أى أن التاريخ كان قد أعاد نفسه فى غفلة من الجميع !
وأطيح بحكم النميرى الشمولى مع إنتفاضة أبريل 1985 ، ذلك النظام الذي تحكم وتجبر طوال ستة عشر عاما ! بعدها توقعنا مستقبلا يأتى لنا بالرفاهية ورغد العيش ! ولكن ، بدون أن ندرى قدمنا الرقاب لنفس الأحزاب التى خبرنا فشلها ! هل حواء السودان لم تلد غيرهم ؟! أم أننا لم نكن نعى دروس الماضى القريب ؟! أم أخذنا بمقولة " ضرر أخف من ضرر" وسقطنا فى ذات المستنقع!
ثم كان إنقلاب 30 يونيو 1989 ليبدأ فى السودان حكم شمولى آخر! والقضية هنا ليس من جاء بذلك النظام ، ولايعنينا هنا أن يكون الحزب الإسلامى وحده هو من خطط ونفذ ذلك الإنقلاب أو بمساندة حزب آخر . فالإخوان كانوا من المشاركين فى الأنظمة السابقة وفى محاولات عسكرية إنقلابية مثلهم مثل بقية الأحزاب الأخرى . قضيتنا مع العسكر ليس بصفتهم المهنية ، ففيهم الشرفاء والمناضلين ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. ولكن قضيتنا مع صيغة الحكم العسكرى هى أنها دائما ماتقترن بالشمولية ومساوئها ، ولا أخال السلطة فى السودان ستخالفنى الرأى ، وإلا ماكانت قد شرعت فى إنتخابات ليقول فيها المواطن كلمته .
ونخلص هنا إلى تساؤل عريض ألا وهو: إذا كان هناك ما يطلق عليه مستقبل ، وأن ذلك المستقبل يتكون من مفردات لم نعهدها من قبل ، لماذا إذ ن مستقبلنا نحن أبناء السودان يتكرر كل بضعة أعوام إلى حد المطابقة وبلا تغيير يذكر ؟!!!