المسيح المحمدي في الأساطير والأديان القديمة والأديان الكتابية

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

الكمال
الحلقة "١"

خالد الحاج عبدالمحمود
كمال الدين:

مدخل " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ"
لابد من أن ننطلق في الحديث من الواقع.. ونبدأ هنا بالواقع من حيث الدين.. ونحن هنا نتحدث عن الدين بمعناه الواسع ، وهو معنى يشمل أديان التوحيد، وأديان التعدد.. فحديثنا عن الدين كإطار للتوجيه وموضوع العبادة ، وهذا لا يخلو منه أحد من البشر .. فالحاجة إلى الدين مودعة في جميع النفوس البشرية.. إذًا، القضية كما يقول إيرك فروم :( ليست قضية دين، أو لا دين ، وإنما هي قضية أي دين ؟ فللمؤمنين دينهم ، وللكافرين دينهم.. يقول تعالى " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ " .. فللكافرين دينهم ، و لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه.. والاختلاف ليس في مبدأ الدين ، والتدين، وإنما الاختلاف في المحتوى.. يقول إيرك فروم عن تعريف الدين بمعناه العام: "إنني أفهم أن الدين بأنه: أي مذهب للفكر والعمل ، يشترك فيه جماعة ما، ويعطى الفرد إطاراً للتوجيه، وموضوعا للعبادة".. اعتقد أن هذا تعريف بسيط وواضح ، ويمكن الإتفاق حوله.
الواقع بالنسبة للدين في الأرض هو أن الدين السائد هو دين (العلمانية).. وهو دين يقوم علي عقيدة أساسية هي (المادية).. و موضوع أساسي هو (الدنيا).. فهو يعلي من شأن المادية و الدينيوية ، وينظم كل النشاط البشري في إطارهما.. وعلى هذين البعدين يقوم إطار التوجيه فيه، وموضوع العبادة.. هذا الدين، يختلف بصورة جذرية عن دين الإسلام،
واديان التوحيد الأخرى.. الاختلاف الأساسي بين أديان (التوحيد)، والاديان الأخرى، هو في التصور الذي يقوم على التوحيد من جانب، والذي يقوم على غياب التوحيد من الجانب الآخر.. وجوهر الاختلاف بين الإثنين، يتعلق بتصور الألوهية.

الألوهية هي أصل أي دين، وكل دين.. فلا يوجد دين بدون إله.. فالمؤمنون إلاههم الله.. والكافرون إلاههم غير الله.. فالمحك الحقيقي في جميع الأديان، هو تصور الألوهية، وما يُبنى عليه من فكر، وعمل.. وهذا التصور هو الذي يحدد للفرد، إطار التوجيه، وموضوع العبادة.

منذ آدم عليه السلام، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، كان الناس دائما في حالة من حالتين: اما حالة (فترة) أو حالة (بعثة).. في حالة (البعثة) تكون السيادة في إطار التوجيه، وفي موضوع العبادة، هي لله.. وفي حالة (الفترة) تكون السيادة لغير الله.. وعهد البعثة يركز على الدنيا والآخرة، على أن تكون الدنيا وسيلة للآخرة.. وعهد الفترة يركز على الدنيا فقط.

أمر عهد الفترة، وعهد البعثة مأخوذ من قوله تعالى: "يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍۢ مِّنَ ٱلرُّسُلِ".. قوله (على فترة من الرسل) تعني فترة انقطاع للرسل، وهي تسمى بالاصطلاح الدين (جاهلية).. وهي لا تعني مطلق الجهل، وإنما تعني الجهل بالله _ غياب التوحيد.. ووفق هذا التصنيف نحن الآن في فترة من انقطاع الرسل، فترة جاهلية، وقد مضى على اخر بعث ديني، وهو البعث المحمدي اربعة عشر قرنا، فيها نصل المسلمون عن دينهم، واصبحنا في جاهلية، وأصبح الدين السائد هو دين العلمانية، وهو الآخر منذ منتصف القرن العشرين بدأ في عده التنازلي، وبذلك أصبحنا في أكبر منعطف تاريخي، ننتظر عهدا جديدا.. وهذا العهد عندنا، عهد بعثة، عهد دين، هو عهد الإسلام بالذات.. فكما يقول الأستاذ محمود: الحياة لا تقف ولا ترجع، وهي تسير على رجلين، وقد قدمت الآن رجل المادة واعتمدت عليها، فلكي تواصل مسيرتها لا بد لها من تقديم رجل الروح، وهذا ما نحن بصدده.

واقع المسلمين:
الأمر الواضح بالنسبة للمسلمين هو انهم ليسوا على شيء من الدين.. فقد مضى على عهد البعثة اربعة عشر قرنا نصلوا فيها عن الدين، وادركتهم عديد نزارات المعصوم.. منها قوله: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كتداعي الاكلة على القصعة.. قالوا او من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، لكنم غثاء كغثاء السيل، لا يبالي الله بكم).. والغثاء هو ما يحمله السيل مما خف وزنه.. والوزن عند الله إنما يكون بالتوحيد، فلغياب الوزن، جاءت عبارة (لا يبالي الله بكم).. وإنما يبالي الله تعالى، بمن قلوبهم عامرة بالتوحيد، قال المعصوم: (مثقال ذرة من لا إله إلا الله أثقل من جبل أحد).. وفي حديث آخر يقول المعصوم: (لتتبعن سنن من كان من قبلكم شبرا بشبر، وذراع بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه.. قالوا: أفاليهود والنصارى؟ قال فمن!!).. فقد اتبع المسلمون اليهود والنصارى، حتى دخلوا معهم جحر المادية الخرب!! فاصبحوا مثلهم، يذهبون إلى مساجدهم، وعندما يخرجون إلى الحياة ينسون الله، ويتعاملون بغير ما أمر به.. وفي حديث ثالث يقول المعصوم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إثنين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل من هي يا رسول الله؟ قال من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).. وادركت هذه النزرارة المسلمين منذ وقت طويل، وأصبحوا متفرقين، يكفر بعضهم البعض، ويقتل بعضهم البعض.. فالإسلام اليوم غائب عند المسلمين، هذه حقيقة لا بد من توكيدها، وإلا فإنهم لن يتحركوا لبعث الدين فيهم.. وبعث الدين لا يكون إلا في مستوى الواقع الحضاري، الذي
تمثله الحضارة الغربية السائدة اليوم، فهذا الواقع يفرض مستوى معين من الخطاب الديني.. فأي دعوة للتغيير، دينية كانت أو غير دينية، لا بد أن تحل مشكلات الإنسان المعاصر، وعلى رأسها مشكلة السلام وأزمة الأخلاق الطاحنة و مشكلة البيئة.. الخ..
لأول مرة في تاريخ الحضارة البشرية توحد الكوكب الأرضي جغرافيا، وأصبح الناس في أصقاعه جيرانا و لا تستقيم حياتهم إلا على قيم الجوار، فيعيشوا على قيم السلام والتكافل، وإلا فإن تطور الأسلحة الحديثة قد يؤدي إذا نشبت حرب عالمية إلى فناء الحياة!! وهذا الأمر أصبح معلوما للجميع فأصبحت المعادلة إما السلام أو فناء الحياة!! وقد فشلت الحضارة السائدة فشلا واضحا عن تحقيق السلام، يكفي أنه الآن بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا أصبح العالم مهددا في أي وقت باندلاع حرب نووية!!
فأي بديل للحضارة الغربية لا يمكن أن يكون مقبولا إلا إذا كان أفضل من هذه الحضارة بصورة واضحة، وأكفأ منها، فيحل جميع مشكلات الإنسانية المعاصرة و على رأسها مشكلة السلام.. فما هو موقف الإسلام أو المسلمين من هذا التحدي؟! هل يصلح الإسلام أن يكون بديلا للحضارة الغربية، ويتفوق عليها في حل جميع المشكلات المعاصرة ويحقق السلام على الأرض؟!
و إجابتنا نحن الجمهوريين واضحة، وهي: ان الإسلام يصلح للمهمة بصورة يعجز عنها غيره، ولكن يجب أن يكون واضحا أن الإسلام في مستوى الشريعة _المستوى الذي طبق على أمة المؤمنين في القرن السابع الميلادي _ ليس هو ما يصلح، وإنما الذي يصلح هو المستوى من الإسلام الذي عاشه النبي في خاصة نفسه، مستوى السنة، وهي تقوم على أصول القرآن.. وما يحدد الأصول والفروع هو مستوى الخطاب، فالأصول أكثر تحقيقا للتوحيد، وأكثر تحقيقا لكرامة الإنسان وحريته، وحل مشاكله الفردية والجماعة، وهي ما قام عليها عمل النبي في خاصة نفسه.. أما الفروع فهي ما تنزل لواقع الناس في القرن السابع الميلادي بعد أن عجزوا عن العمل بالأصول وهذه الفروع صلحت للقرن السابع وما يليه من القرون ولكنها لا تصلح لوقتنا الحاضر، ويكفي للتعليل على ذلك أن الفروع قامت على الوصاية: النبي الكريم وصي على الأمة والمسلمين أوصياء على غيرهم من أصحاب الأديان، والرجال أوصياء على النساء، وقتنا الحاضر هو وقت الحرية والمساواة، لا تصلح له الوصاية، وفوق ذلك كله، مستوى الشريعة يقوم على الجهاد بالسيف، وحاجة العصر تقتضي السلام.. والسلام لا يوجد، ولا يمكن أن يوجد في آيات الفروع التي كانت مطبقة في القرن السابع، فهي تقوم بصورة واضحة على الجهاد بالسيف، وهذا أمر لا خلاف حوله، أما آيات الأصول فهي تقوم على الحرية وعلى السماح، تقوم مثلا على قوله تعالى "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"، فحق الكفر نفسه مباح!! وأما آيات الفروع التي قام عليها التطبيق في القرن السابع فهي تقوم على الجهاد بالسيف، بالصورة المعروفة وتمثلها آية السيف و هي تقول "فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" المستوى في الخطاب بين الآيتين واضح جدا..
من يقل أن الإسلام رسالة واحدة، هي ما طبق في الشريعة، في القرن السابع الميلادي، يقول أن الإسلام دين تاريخي أدى مهمته وانتهى وليس له دور في مستقبل البشرية.
بين الإسلام والإيمان:
مشكلة المسلمين اليوم أنهم يخلطون خلطا ذريعا بين المعاني والمفاهيم، حتى ان عند الكثيرين منهم، لا فرق بين الشريعة والدين، ولا السنة والشريعة، ولا الإسلام والإيمان.. فلا بد من ضبط المعاني ضبطا دقيقا، وخصوصا بين السنة والشريعة، والإسلام والإيمان.. فالسنة هي عمل النبي الكريم في خاصة نفسه، والشريعة هي عمل الأمة، وهي تنزل للأمة إلى مستوى ما يطيقون..
أما الإسلام والإيمان فالأمر فيهما يحتاج إلى بعض التفصيل، لا مجال له هنا، يستطيع من أراد الرجوع إلى كتب الفكرة، خصوصا كتاب (الرسالة الثانية).. وما يمكن أن نقوله هنا باختصار هو أن الإسلام سلم سباعي المراحل.. يبدأ بالإسلام الأول ثم يليه الإيمان، ثم الإحسان، ثم علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، والدرجة السابعة هي الإسلام من جديد، إلا أنه في هذه الدرجة يختلف عنه في الدرجة الأولية اختلاف مقدار.. فهو في الدرجة الأولية انقياد الظاهر فقط، وهو في الدرجة النهائية انقياد الظاهر والباطن معا.. وهو في الدرجة الأولية قول باللسان، وعمل بالجوارح، ولكنه في الدرجة النهائية انقياد واستسلام ورضا بالله في السر والعلانية.. وهو في الدرجة الأولية دون الإيمان، وإليه الاشارة بقوله تعالى عن الأعراب "قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَٰلِكُمْ شَيْـًٔا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" وهذا الإسلام يكون قبل دخول الإيمان في القلوب، ولذلك هو أقل من الإيمان.. أما الإسلام الذي هو فوق الإيمان فيشير إليه قوله تعالى مثل " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" فبعد اتقاء الله حق تقاته يجئ الإسلام الأخير.
الإسلام مرحلة عقيدة، ومرحلة حقيقة أو علم.. أما مرحلة العقيدة فدرجاتها ثلاث هي: الإسلام والإيمان والإحسان.. أما مرحلة العلم فدرجاتها ثلاث هي: علم اليقين، وعلم عين اليقين، وعلم حق اليقين.. وكلها واردة في القرآن.. ثم تجئ بعد ذلك الدرجة السابعة وهي الإسلام الأخير .. وهذا الإسلام لم يتحقق في التاريخ إلا للأنبياء وحتى الآن لم تجئ (أمة المسلمين).

مرحلة العقيدة هي مرحلة أمة المؤمنين، وهي التي تقف عند درجة الإحسان.. يقول تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ" واضح أن عبارة (الذين آمنوا) هي اسم للأمة ولذلك سماهم الذين آمنوا ودعاهم للإيمان!!
كمال الدين:
كمال الدين الذي نتحدث عنه له عدة وجوه.. من أظهر هذه الوجوه

١/ تحقيق (أمة المسلمين).. وهذا التحقيق هو غاية الدين ، منذ أن بدأ الدين في الأرض.. فجميع رسالات السماء من آدم عليه السلام وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، كانت تعمل لغاية واحدة وهي تحقيق الإسلام الأخير الذي تحدثنا عنه.. وهو أعلى مرحلة في الدين.. وهو يشكل المرحلة التي يكون كل التطور الديني بعدها، في إطارها ولا يمكن أن يخرج عنها إلى غيرها .فللإسلام الأخير بداية، ولكن ليست له نهاية، فالسير في مضماره سير سرمدي..
والمسلمون بهذا المعنى هم إخوان النبي، وقد سماهم كذلك في العديد من الأحاديث.. فأمة المؤمنين هم (الأصحاب) وأمة المسلمين هم (الإخوان) و واضح الفرق بين الصاحب والأخ.. وقد وصفهم المعصوم بأنهم ليسوا بأنبياء ولا شهداء ويغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم من الله.. وبظهور هذه الأمة يسود الإسلام جميع الأرض ويتحقق قوله تعالى " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا" فيسود الإسلام في الأرض بحيث لا يكون فيها إلا مسلما.. وهذه هي الغاية التي ظل الإسلام يعمل لها منذ البداية، ولكن لم يكن من الممكن أن تتحقق إلا في وقتها "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" ولم يكن من الممكن أن تتحقق إلا بعد مجئ رسولها صاحب القامة المعينة التي تؤهله لهذا التحقيق، بقوله تعالى:"وَلِكُلِّ أُمَّةٍۢ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"
وبمجئ أمة المسلمين يكمل تطبيق الدين، بعد أن كمل إنزاله في القرن السابع الميلادي ، قال تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا).
وبكمال الدين، إنزالاً وتطبيقاً، تتم النعمة (أتممت عليكم نعمتي) وهذه نهاية الخير في الأرض، وقمته التى ما عليها من مزيد.
(2) ومن الوجوه الهامة لكمال الدين، تمام الطاعة لله، وهي طاعة يطاع فيها الله كما في السماء كذلك في الأرض.. فلا معصية، إلا في مستوى حُجب الأنوار.. وإلى هذه الطاعة يشير قوله تعالي: (وَأَشْرَقَتِ ٱلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ وَجِاْىٓءَ بِٱلنَّبِيِّۦنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ).. وأشرقت الأرض بنور ربها، يعني بنور المعرفة بالله.. فمرحلة الإسلام الأخير، هي المرحلة التي يفتح فيها الباب لجميع الأفراد ليدخلوا مداخل اليقين.. هم يبدأون من الإسلام الأول، فالإيمان، فالإحسان، ولكنهم لا يقفون عند الإحسان كما فعلت الأمة الأولى، وإنما ينفتح الباب أمامهم يترقوا في مراقي اليقين، وحتى الإسلام الأخير.
(3) هذا المستوى من الدين، تتحقق به جنة الأرض – جنة المعاني وجنة المباني- فالجنة هي معرفة الله والقرب منه، والتخلق بأخلاقه، هذا هو الأصل.. أما الفرع، فهو جنة المباني، جنة اللذات الحسية، ونحن لنا إلى هذا الموضوع عودة.
(4) لما كان الإسلام الأخير، المبشر به، هو الذي سيسود في الأرض جميعها بهذا السمو والرفعة، فإن رسوله لا بد أن يكون في مستوى القامة الروحية التي تحققه.. فرسوله الذي يطبقه، هو المسيح المحمدي.. ومقامه هو مقام ولاية النبي، الذى قال عنه المعصوم (لي ساعة مع ربي لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل).. رسول أمة المسلمين هو الإنسان الكامل، الذي قال عنه تعالى:( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)..كان هذا في الملكوت، في عالم الروح، ويتجسد في الأرض، في دورة اليوم الآخر، وبه تتحقق الكمالات التي أشرنا إلى طرف منها.
ذكرنا أن الظهور يكون فجأة، فقد يتبادر إلى بعض الأذهان : كيف تتحقق هذه الكمالات فجأة؟! في الواقع، الإعداد لهذا الأمر أخذ وقتاً طويلاً، طويلاً جداً.. فقد كانت بداية الحركة منذ الردة إلى أسفل سافليين، ثم عبر ملايين السنين من التطور، تهيأت الأرض للنبأ العظيم!! وهذه هي سنة الله في خلقه.. ولتقريب الصورة، نذكر مثلاً: نحن نعرض الماء للحرارة، ولا نشعر بالتحولات التي تتم فيه.. ولكن فجأة، عند درجة معينة من التسخين، يتحول إلى بخار.. وهذا معنى قوله تعالى في عديد الآيات:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ).. نفحة المسيح المحمدي، الإنسان الكامل، تكون في قمتها ألف عام، يعني لا يبدأ الهبوط التدريجي من هذه القمة إلا بعد ألف عام!!
هذا الكمال في الدين، تنبني عليه الكمالات الأخرى التي سنتابعها بإيجاز في الحلقات القادمة.

يتبع
رفاعة

 

آراء