المسيح المحمدي في الأساطير والأديان القديمة والأديان الكتابية

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)

الحلقة (1)

الأساطير والأديان القديمة:

فلنترك الأشياخ وسطحيتهم جانباً، ونذهب إلى عمق القضايا.. فقضية المسيح هي من أهم وأخطر القضايا في الإسلام، وفي الأديان عامة، وفي التراث البشري.. وموضوعها يتعلق بقضية الخير والشر في الوجود، وفي هذه المرحلة من تاريخ البشر على الأرض.. كما أن قضية المسيح هي قضية الخلاص.. وهي تتعلق بآخر الزمان.. فكل الإشارات، والبشارات بالخلاص من الأسطورة والدين، وحتى العلمانية تتحدث عن المخلص، وآخر الزمان أو اليوم الآخر، أو نهاية التاريخ.. والقضية كلها تدور حول الكمال الإنساني الذي يتحقق في الارض، في وقته.

ولما كانت القضية بهذه الأهمية، فهي لم تغب عن التراث البشري، وقد تناولتها حتى الأساطير القديمة.. ونحن هنا سنتناول بعض الأساطير، والأديان القديمة للقضية، كمدخل للحديث عنها في الإسلام.

أورد لنا ميرسيا الياد في كتابه (ملامح الأسطورة)، عدداً كبيراً من أساطير الشعوب، من مختلف القارات والبلدان.. وحسب هذا المرجع، فإن معظم أساطير شعوب العالم ترى أنه كان هنالك كمال في بداية الخلق، وأنه ستكون هنالك عودة لهذا الكمال في نهاية الزمان.. يتحدث ميرسيا عما يسميه (أساطير الأصل)، وفي هذه الأساطير دائماً هنالك عودة للكمال الذي كان في الأصل.. فهو يقول مثلاً: (إن الفكرة القائلة ان الكمال كان في البداية، تبدو ممعنة في القِدم، وهي، على أي حال، واسعة الانتشار، وكانت بالطبع تقبل، إلى ما لا نهاية، أبعاد التعبير عنها، وأن تندمج في تصورات دينية لا حصر لها..).. وهو يلاحظ أنه دائماً يتم (إسقاط فكرة الكمال الحاصل في البدايات على المستقبل).. ويقول في ذلك: (غير أن مدلول الأصل يرتبط بفكرة الكمال والغبطة على وجه الخصوص. لهذا ففي التصورات المتصلة بنهاية الكون التي يفهم منها المرء أن الخلق سيتم في المستقبل، إنما نجد أساس كل المعتقدات القائلة بحصول العصر الذهبي، ليس فقط أو ليس إطلاقاً - في الماضي، بل بحصوله أيضاً، أو بحصوله فقط، في المستقبل..).. وهو يذكر أن كل أساطير العالم عندما تتحدث عن نهاية العالم، أنما تتحدث عن نهاية عالم قديم، و ميلاد عالم جديد، أكمل منه في مكانه.. ونحن لا نحتاج إلى التوسع في ذكر الأساطير التي تتحدث عن هذا الأمر، وإنما نكتفي بنموذج واحد من هذه الأساطير.. يقول ميرسيا: (يعتقد أبناء جزر أندمان Andaman أن إنسانية جديدة سترى النور، بعد نهاية العالم، ستتوفر لها شرائط الحياة الفردوسية، لن تصاب إطلاقا بالمرض ولن تنالها الشيخوخة.. و لن يدركها الموت. وأما الأموات فسيبعثون إلى الحياة بعد الكارثة..).. لاحظ ان الاسطورة تتحدث عن جنة الارض في هذه الحياة، وليس في الحياة الاخرى بعد الموت.. وهي تتحدث عن صور من الكمال.. كما أنها تتحدث عن بعث للموتى في هذه الحياة وليس في الحياة الاخرى.. فلنصطحب هذه المواضيع معنا، فهي تتكرر في جميع النبوات التي تتحدث عن الكمال، وجنة الارض، بما في ذلك الاسلام.. ومعظم الأساطير تقول بأن العودة للأصل تم عن طريق جد اسطوري، ينتظر له ان يظهر في آخر الزمان ليحقق الكمالات المذكورة.. ويتابع ميرسيا الظاهرة، واشكال التعبير عنها حتى في العصور الحديثة.

أما فراس السواح، وهو من المتخصصين في الميثولوجيا، وله دراسات تتحدث عن نهاية التاريخ.. ضمنها في كتابه (الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات الشرقية).. فقد جاء من أقواله عن الديانة الزرادشتية، ومراحل خلق الكون عند اهورامزدا ما نصه: (يسير التاريخ عبر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى مرحلة الخلق الطيب الحسن الكامل. المرحلة الثانية هي مرحلة امتزاج الخير والشر في نسيج العالم عقب هجوم انجرا ماينو عليه وتلويثه. المرحلة الثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر ودحر الشيطان ورهطه، والارتقاء بالعالم نحو المستوى الماجد والجليل الذي ينتظره في نهاية التاريخ..).. ففي البداية كان الكمال.. وفي الوسط امتزاج الخير والشر.. وفي النهاية مرحلة الخير والكمال الذي يقوم على دحر الشيطان _ مصدر الشر _ ورهطه، والارتقاء إلى الكمال الجديد الذي يكون في نهاية التاريخ.. ويكون: (في المرحلة الأخيرة من التاريخ، سوف يظهر المخلص المنتظر المدعو شاو شنياط وهو الذي سيقود المعركة الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ويقضى عليه، ومع القضاء على الشيطان يتم تدمير العالم القديم الملوث بعناصر الشر، وتجديده بطريقة ما، تقود إلى خلق جديد. ثم تفتح القبور وتلفظ الأرض ما أتخمت به من عظام عبر الزمن فتهبط الأرواح من البرزخ مكان إقامتها المؤقت).. لاحظ القضايا الأساسية: الصراع بين الخير والشر، وانتصار الخير، عن طريق المخلص وقد اورد له اسماً.. هزيمة الشيطان وتدمير العالم القديم الذي كان الشيطان يشارك فيه، ويلوثه بعناصر الشر.. ثم ميلاد عالم جديد خال من الشيطان ومن الشر، به يتحقق الكمال، وبعث الموتى.. وهي نفس القضايا الي سبق ان ذكرناها بالنسبة للأساطير.. ويقول فراس السواح: (وأما خيار الإنسان في المعركة فوعيه، وحريته، وخياره الأخلاقي. ويتجلى خياره الأخلاقي من الناحية العملية، في عناية الإنسان بأخيه الإنسان، و ببقية الكائنات الحية، لأنهم جميعا صنعة الخالق الواحد. كما عليه أن يراعي جسده وروحه في آن معاً).. سلاح الانسان اذاً، الذي يقوده للخلاص من الشر، ومن الشيطان هو الفكر(وعيه) والقيم الاخلاقية التي تتجلى في العناية بالآخرين من البشر ومن المخلوقات _ الفكر هو الاخلاق.. أما بالنسبة للإنسان نفسه فعليه أن يراعي جسده وروحه معا، فلا تتم مراعاة أحدهما على حساب الآخر.

هنالك شبه بين الزرادتشية والمسيحية، فيما يتعلق بالمخلص، ففي كليهما ولد المخلص من عذراء!! يقول فراس السواح: (في المرحلة الثالثة تبدأ عملية الفصل بين الخير والشر، والتي تنتهي بدحر الشيطان ورهطه ليعود الكون كاملاً وطيباً إلى الأبد، و ينتفي منه المرض والألم والحزن و الموت. ولقد ابتدأت المرحلة الثالثة بميلاد زرادشت، وتأتي إلى خاتمتها بميلاد المخلص المدعو شاو شنياط أو (شوشانز)، وهو الذي يقود المعركة الأخيرة الفاصلة بين قوى النور وقوى الظلام. سوف يولد المخلص من عذراء تحمل به عندما تنزل للاستحمام في بحيرة كانا سافا، فتتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظتها الملائكة هناك إلى اليوم الموعود).. ويتابع ميرسيا الفكرة إلى الزمن الحديث.. فينقل عن نورمان كون قوله عن النازية والماركسية، الذي جاء فيه (وراء لغة علمية منتحلة تستخدمها كل من النازية والماركسية، نلمح، رؤية للأشياء، تذكر، بشكل غريب، بالهذيان الذي كان المرء يستسلم إليه في القرون الوسطى.. هنالك الصراع النهائي، الحاسم الذي تقوده النخبة (ولتكن الآرية أو البروليتاريا) ضد جحافل إبليس (اليهود أو البرجوازية) وهناك متعة السيطرة على العالم، أو متعة العيش في مساواة مطلقة، الاثنين معا، والممنوحة بموجب قرار من العناية الإلهية موجه إلى النخبة التي ستلقى، على هذا النحو، تعويضا عن كل آلامها، هنالك أيضاً تحقيق الأهداف القصوى للتاريخ، في عالم يتخلص أخيراً، من الشر).. ويقول: (إلا أن ماركس عمل على إثراء الأسطورة المرموقة، العائدة إلى أيدلوجية المسيح المنتظر في اليهودية والمسيحية، فمن جهة أولى، نلمح ذلك الإجراء من خلال الوظيفة الخلاصية، التي منحها إلى البروليتاري، ومن خلال دور البروليتاري في النبوة بالمستقبل. ومن جهة ثانية، هنالك الصراع بين الخير والشر، الذي يمكن بسهولة مقارنته بالخلاف الشديد في رؤية النهاية القصوى، عند المسيح والدجال، والمتبوع بظفر نهائي وحاسم للمسيح..).. في النازية المخلص هو العنصر الآري الذي يقوم بدور المسيح.. واليهود هم الشيطان او المسيح الدجال.. اما في الماركسية فالمخلص هو طبقة البروليتاريا، والبرجوازية هي الشيطان او المسيح الدجال.. وفي الماركسية جنة الارض هي الوصول الى مرحلة الشيوعية _ من كل حسب طاقته وإلى كل حسب حاجته _ وهي استعارة لمرحلة المشاعية الاولى، حسب مراحل التاريخ في الفكر الماركسي.

ويطبق ميرسيا التصور الاسطوري لنهاية التاريخ على مجالات مختلفة، منها التحليل النفسي، ومفهوم العقل الباطن، وبصورة خاصة مرحلة الطفولة عند فرويد، وفي مجال الفن الحديث، يرى الصورة في مدارس فنية بعينها في مجالات الرسم والشعر، والرواية والمسرح.. ففي مدارس ومن هذه المدارس، التكعيبية، والسريالية، والدادائية، فهو يرى أن الصعوبة والإبهام في مثل هذه المدارس إنهيار لعالم لغة الفن القديمة، وإعادة عالم فني جديد.

في وقتنا الحاضر، ظهر الكاتب الامريكي فرانسيس فوكاياما الذي قال بنهاية التاريخ وخاتم البشر، وضمن فكرته في كتاب ترجم الى اللغة العربية بنفس الاسم.

في جميع المجالات التي ذكرناها، نهاية التاريخ، لا تعني نهاية دوران الفلك، او نهاية الحياة على الارض وانما تعني وصول الحضارة البشرية الى قمة ما عليها من مزيد.. ففوكا ياما مثلا يقول: (انه من غير المستطاع ان نجد ما هو افضل من الديمقراطية الليبرالية مثلا اعلى).. ويقول عن ماركس وهيجل: (كان في اعتقاد كل من هيجل وماركس إن تطور المجتمعات البشرية ليس إلى ما لا نهاية، بل إنه سيتوقف حين تصل البشرية الى شكل من أشكال المجتمع، يشبع حاجاتها الاساسية والرئيسية، وهكذا افترض الاثنان أن (للتاريخ نهاية): هي عند هيجل الدولة الليبرالية، وعند ماركس المجتمع الشيوعي.. وليس معنى هذا أن تنتهي الدورة الطبيعية من الولادة، والحياة، والموت، وان الأحداث الهامة سيتوقف وقوعها، وان الصحف التي ننشرها ستحتجب عن الصدور.. وإنما يعني هذا أنه لن يكون ثمة مجال لمزيد من التقدم في تطور المبادئ والانظمة الاساسية، وذلك لأن كافة المسائل الكبيرة حقا ستكون قد حلت).. ويقول: (وقد أكد هيجل إن التاريخ قد وصل إلى نهايته بقيام الثورتين الامريكية والفرنسية، بالنظر إلى ان هذا النضال، من أجل الاغتراب الذي يحرك عملية التحول التاريخي، فقد حقق مراده في مجتمع يتميز بالاغتراب المتبادل، والشامل، ونظرا لأنه ليس هنالك ترتيب آخر للمؤسسات الاجتماعية الانسانية، يمكن ان يشبع هذه الحاجة على نحو أفضل، فليس بالامكان حدوث المزيد من التحولات التاريخية بعد الآن).. واضح أن هيجل يرى ان الغاية النهائية هي الاغتراب المتبادل، فإذا تحقق لن يكون هنالك تحول في التاريخ.. وبالطبع هذا أمر فيه نظر.. أما فوكاياما فيقول متبنيا موضوع الاغتراب: (إن الحاجة إلى الاغتراب والتقدير اذن يمكن ان تكون الحلقة المفقودة بين الاقتصاد الليبرالي والسياسة الليبرالية).. وفي مكان آخر يقول: (ويقول فوكوياما لقد كتب ألكسندر كوجييف في القرن العشرين، وهو أعظم شراح فلسفة هيجل، يؤكد في صلابة أن التاريخ قد انتهى، لأن ما اسماه بالدولة العامة والمتجانسة "وهو ما نفهمه على انه الديمقراطية الليبرالية، قد أوجدت حلا قاطعا لمسالة الاعتراف بالمنزلة إذ أحلت بمكان السادة والعبيد اعترافا يعم البشرية ويقوم على أساس المساواة. فالهدف الذي ظل الإنسان يسعى إليه طوال تاريخه والذي كان يحرك المراحل الأولى من التاريخ، هو الاعتراف به. وقد وصل إلى هذا الهدف في النهاية في عالمنا الحديث مما أرضاه إرضاءاً كاملاً")!!.. أما فوكاياما فيقول: (ليس بوسعنا أن نتخيل عالما هو في جوهره مختلف عن العالم الراهن، وأفضل حالا في نفس الوقت. صحيح أن عصورا أخرى، هي دوننا من حيث الفكر، ظنت نفسها أنها هي أيضاً أزهى العصور. غير أننا إنما نصل إلى هذه النتيجة بعد أن جربنا لأمد طويل بدائل كنا نحسب أنها بالضرورة خير من الديمقراطية الليبرالية..).. كل هذا فيه نظر.. وحتى الديمقراطية لم تتحقق حتى الآن.. والمفارقة الكبيرة هي انهم يتحدثون عن المجتمع، ويهملون الفرد اهمالا يكاد يكون تاما، خصوصا فيما يتعلق باشباع حاجاته الفكرية والروحية فنحن لنا الى كل هذا عودة..

نقف هنا فيما يتعلق بالحديث عن الاسطورة والاديان والفلسفات المعاصرة.. وندخل إلى موضوع الحديث عن المسيح، وما يتعلق به من قضايا في الأديان الكتابية، قبل أن ندخل إلى الموضوع في الإسلام، كما تعبر عنه الفكرة الجمهورية.. فنحن الآن سنتحدث عن اليهودية والمسيحية.
يتبع..

رفاعة

 

آراء