المشاهد الأخيرة لإعدام صديقي جبر الدار … بقلم: أسعد الطيب العباسي

 


 

 


ما كنت أحسب قبل موتك
 أن أرى أن الثرى يعلو على الأطواد..
سودت ما بين السماء وناظري
ومحوت من عيني كل سواد..
‏(الشريف الرضي)

‏كان أجمل من حملته المشنقة

كان صديقي الراحل الشاعر (جبر الدار محمد نور الهدى) تحمله قامة ممتلئة تميل للقصر، عريض الصدر بارزه، ضخم الأطراف في تناسق وجمال، يمشي بخطى واثقة، وبهامة مرتفعة، يدنوها وجه وسيم، تتوسطه عينان واسعتان، وثغر باسم منتظم الأسنان، وأنف مستقيم دقيق الأرنبة. كان في صوته صهل، وإذا شدا يحملك إلى أفق يمتلئ عن آخره بالشجن. أشهد أن (جبر الدار) هذا الصديق الحبيب الذي ذهب عنا مشنوقا في شهرنا الفائت، واضح الرجولة، وإنسانا نبيلا، وشاعرا خنذيذا، كان مؤمنا تقيا وصديقا وفيا، كان اذا عاشرتة ودودا، وان غبت عنه حفظ العهود.  
كان عف اللسان طليه، القرآن سميره ولا يفعل إلا الذي يرضاه ضميره. كان (جبر الدار) أجمل من حملته المشنقة، وأنبل من قتلته في تاريخها الطويل وسجلها العامر بالأموات.
 ألكني إليه بالسلام تحية وأنى ترد القول صم المقابر؟.

‏أملت في الله أن يختار له الحياة بيننا

كان إذا تحدث لي (جبر الدار) يغمرني السرور الكامل، كان يتحدث لي عن أمانيه وليس من بينها البقاء في الحياة، كان يطوقني بجمائل لا حصر لها، أدناها لطف حديثه وعميق مودته:
يا سيدا ترك الحياة ‎مؤججا
بحشاى جمرة لوعة لم تخمد..‏
قد كنت تحبوني الجميل مرددا
وتجل منزلتي وترفع مقعدي..
فعلام لا أبكي الدموع دما إذا
ما غبت عني في ضريح موصد..
نفسي تغالطني كأنك لم تمت
وهواي أن تبقى بعمر مخلد..
إن فجيعتي في (جبر الدار) لعظيمة، ورزيئتي فيه لكبيرة، ولا أحسب أن أثرا من آثار الحزن سيتبعني إلى آخر العمر مثل الأثر الذي تركه في موت (جبر الدار) وصعب أن أسافر من دمي وأن أغادر ذلك المكان الذي تركني فيه بين العبرة والدمعة، ولقد أملت في الله أن يختار له الحياة بيننا، ولكنه جلا وعلا قد أراد أن يجعله فداء لنا ويعلمنا من تجربته ما يكون لنا دليلا ومرشدا، وليعيننا على مصيبتنا إنه حليم لطيف عليم.

‏رحلة الفارس المشنوق

إن رحلة الفارس الراحل (جبر الدار) ما بين تسليمه نفسه لمركز شرطة (الهشابة) في  ١٨/ ٥/ ٢٠٠٥م تاريخ قتله لذلك الرجل ثأرا لقتله خاله وصديقه الحبيب المربي (العمدة أحمد عبدالقادر نور الهدى) -عليهم الرحمة أجمعين- وما بين إعدامه في ١٧/ ٣/ ٢٠١١م كانت رحلة طويلة ومرهقة مليئة بالأحداث والعبر، وامتدت لستة أعوام قضى جلها داخل زنزانة ضيقة وأرتال الحديد لا ترحم قدميه، ولكنه صبر على كل هذا الإبتلاء، وفلق ظلام زنزانته بأشعار كالشموس، وكتابات كالأبادر، وادخر في نفسه شجاعة وإيمانا، وأخذ يعد لكل حالة لبوسها لمواجهة كل أمر يسوقه له القدر كيفما بدا وعلى كل شاكلة يكون، وهي معان أفصح عنها في مربع علاه الشوق وضمنه ردا على لائميه:
دمير الشوق علا وقصد البنادر عدى..
وما بتنشاف جزاير صبرو قيفو انهد..
وما بنفع ملام بعد القدر ما هد..
تنقد الرهيفة إن شاء الله ما تنسد..!
ومن أرومته الكريمة ومن سماء تاريخها المرصع بنجوم العزة وشموس التصدي، إستمد (جبر الدار) تحديه للقيود، فقال وهو يستصحب ذكرى أجداده الذين إستماتوا في معركة نقد (أبو وديعة) التاريخية مفتخرا بأهله:
سكيك القيد زاد العزة في نفسي القبيل بطرانه..
وحكم الموت علي إعدام شنق ما هانه..
في بو وديعة لقد الموت ملينا الخانه..
كيف تاباهو نفسا بين بيتين عزاز ربيانه..

‏إعدامي غدا يا صديقي

لم يكن الموت بعيدا عن توقعات هذا الفارس الصنديد، بل كان يحس بدنوه ولا يهابه، وهذا ما أفصح عنه بقول شعري مؤثر ضمن قصيدة رثى بها والدي-عليه الرحمة- فقد خاطبه واعدا بلقائه قريبا، قال:
قريب بلقاك يا عمي فوق دربا مشيهو فرض..‏
لأنو الدنيا عندي خلاس مسورا نجض..‏
وتمر الكرمة في الأعناق سلافا حمض..
وصفقة سدرة الأرواح زماما مرض..
وبوق الأزفة للميعاد سبيلو عرض..
في ليلة السادس عشر من مارس إتصل بي هاتفيا كما كان يفعل دائما، وقال لي:
ـــ إعدامي غدا يا صديقي (أسعد).
كاد الهاتف أن يسقط من يدي، وكان وقع جملته ثقيلا على وجداني وأمطر عيني بالدمع، ولم أستطع أن أنبس ببنت شفه.
 فأحس (جبر الدار) بتأثري وقال لي:
ـــ لا تجزع يا صديقي فأنت تعلم بأنني محكوم علي بالإعدام شنقا حتى الموت وأنني قد إستنفذت وسائلي القانونية في مناهضة الحكم، إذن لا يعقل أن تتفاجأ بمثل هذا الخبر.
 ثم قال لي وهو يضحك-أي والله وهو يضحك:
ـــ  إنتا قايل أنا جابوني السجن في نفقة.  

ما تبقى من تفاصيل المكالمة الأخيرة

قلت له وأنا أجاهد في إخراج الكلمات:
‏ـــ لا نملك يا صديقي سوى أن ندعو لك بالرحمة حيا أو ميتا.
‏ـــ عارفك ما بتقصر.
ـــ قل لي ماذا حدث بشأن محاولة الصلح والعفو المفترض أن يجريها مع أولياء الدم السيد (أحمد عبدالرحمن المهدي).
قال لي وقد ذهلت من حديثه:
‏ـــ يا (أسعد).. يا (أسعد) هذا الرجل له مكانته وله في قلبي مكانة ومحبة، ولا أرضى له أبدا أن يسعى في أمر ويفشل فيه ويعود خائبا، لذا رأيت ألا أترك أدنى إحتمال ليجرحوه، فوجهت بإيقاف المحاولة.
‏ـــ لا زلت آمل يا صديقي أن يحدث في غدنا خير.
‏ـــ على كل أنا في تمام الإستعداد فقد إنتهيت من تحضير الملاءة التي سيغطوني بها عقب إعدامي، لا بل فقد حضرت حتى السروال الذي سأرتديه غدا.
‏ـــ لا حول ولا قوة إلا بالله.
‏ـــ ونعم بالله، ولكن دعك من هذا الجزع، فلعل في موتي خير، ولعل القصاص كفارة لي، فلا تخشى عليّ، المهم أنا قمت بكتابة وصيتي ولدي دائن أنت تعرفه وهو (عيسى محمود) الصومالي فهو يطلبني مبلغ أربعين ألف جنيه، سأترك لك هذا المبلغ وسدده له عني، واطلب لي منه العفو.  
كان (عيسى) الصومالي قريبا مني في تلك اللحظة فأعطيته سماعة الهاتف ليتحدث إلى (جبر الدار) وفجأة سمعته يقول بأنفاس متهدجة وبعربيته ذات اللكنة:
‏ـــ لا أنا ما أريد قروش، أنا عافي، أنا بسلم عليك، أنا ببكي.
 ثم قذف لي الهاتف الذي بلله بالدمع وغادر المكان.
في تلك المكالمة الأخيرة والمطولة قال لي (جبر الدار):
‏ـــ سأترك لك أشعاري التي كتبتها مؤخرا في كراسة ستجدها مع شقيقي (مصعب) فافعل بها ماتشاء.
‏ـــ سأطبع ديوانك وأحققه وأشرحه.
‏ـــ أنت أهل لذلك يا صديقي.
كان يقول لي دائما سجل يا (أسعد) هذه المكالمات التي تجري بيننا.
وبالفعل استطعت أن أسجل أكثر من ساعتين من مكالماتي السابقة معه، تسجيل يكفي لكتابة سفر أدبي كامل، وهي بعض عزائي الآن، أسمع صوته في كل يوم وأدعو له بالرحمة.
كانت تلك الليلة طويلة وحزينة قال لي فيها:
‏ـــ عندما أذهب للنوم سأتوسد يمناي متجها للقبلة فهذا مران القبر.
‏ـــ علمت أنك صائم الفترة الماضية.
ـــ أنا صائم منذ فترة وسأموت غدا وأنا صائم ان شاء الله.
بعدها لم أنم حتى أشرقت الشمس حاولت أن أتصل به فوجدت هاتفه مغلق فإتصلت بـ (خالد) أحد زملائه بالزنزانة، فقال لي بحزن وأسى:
‏ـــ ربنا يستر عليه فقد أخرجوه قبل قليل لإجراءات تنفيذ الإعدام.

يا روح الورد مين يشتريك

كان (جبر الدار) يحدثني دائما عن ابنته النابغة (زينب) التي تركها وهي في الحادية عشر من العمر، وعن ابنه (أحمد) ابن التاسعة وصغيرته (رواح) ذات الستة أعوام وهي عمر مأساته.
 ولكنهم الآن لا يدرون كيف أن والدهم عندما إمتطى دكة المشقنة وهو في الرابعة والأربعين من العمر قد إمتطاها دون أن يطرف له جفن ودون أن يصيبه وجل أو خوف.
 قال جلاده العجوز:
‏ـــ لم أر منذ ثمانينيات القرن الماضي أن أحدا قد واجه المشنقة بذات الثبات والشجاعة التي واجهها بها الفارس جبر الدار.
قال لي الصديق (وجدي الكردي) الذي نشر لي قصة (جبر الدار) تحت عنوان (يا روح الورد مين يشتريك) قبل سنوات في صحيفة (حكايات) التي يرأس تحريرها بأنه عندما إلتقي بـ (جبر الدار) في سجنه قال له ضمن حوار بينهما:
ـــ أنحنا يا و(جدي) عارفين إمكن موتنا يكون متين، الكلام إنتو الما عارفين تموتو متين.
 وظل الأستاذ (وجدي) متعجبا من هذه الجملة إلى اليوم.

في باحة السجن قبل الإعدام

إمتلأت باحة السجن في يوم إعدام (جبر الدار) بجموع كثيرة من المودعين رجالا ونساء فأحالت الحدث إلى ملحمة.
خصصت إدارة السجن مدة زمنية معينة لكل خمسة أفراد متيحة للجميع فرصة لوداعه، فودعهم جميعا بثبات ورباطة جأش، وعندما أخذوا يقتادونه لغرفة الإعدام رفع يديه المقيدتين وقال بصوت جهور:
ـــ أها العفو ياناس مع السلامة.
 قال لي الأخ (عبدالرحمن دقة) الذي ترافق مع الأخ (أدهم) لوداع زميلهما في جامعة شرق النيل الراحل (جبر الدار) بعد أن أزف موعد رحلته الأخيرة بأنهما لم يستطيعا إكمال الوقت المقرر لهما لوداعه فقد كاد الأسى أن يقتلهما فانسحبا.
 وقال لي:
ـــ إن (جبر الدار) كان أشجع منهما في تلك اللحظات، فعندما بكينا لم يذرف دمعة بل زجرنا وعاتبنا، فخرجنا من باحة السجن ننتظر جثمانه الذي حمله أهله إلى حيث أوصى بأن يدفن إلى جوار جده (نور الهدى) بمقابر (حلفاية الملوك).
وقال من شهد التشييع أن خلقا كثيرا صلوا عليه وترحموا على هذا الفقد، ففوت (جبر الدار) خسارة لا يمكن تعويضها، ورزء لا يمكن إحتماله.
كل هذا من صنع ربك سواه وسماه بالوجود الفاني..
ليته حين أبدع الكون أعطاني
فؤادا غير الذي أعطاني..
أتلقى به الصعاب وأمشي
بين أحشائها قوي الجنان..
كل شئ سهل على النفس إلا
ما تعاني من فرقة الإخوان..        ‏‎

‎رفيقة الدرب وصنو الروح

وهناك في قريتة (أبومريخة) بمنطقة (أم أصلة) الواقعة بمحافظة (المناقل) غرب ولاية (الجزيرة) ناحت عليه النائحات، وبكاه الرجال مر البكاء، وامتلأ المكان عن بكرة أبيه بجموع المعزيين الذين أتوا من كل حدب وصوب.
وفي غرفتها كانت هنالك (فائزة) أرملته الصابرة تجتاحها الأحزان الكثيفة، كانت تسانده في محنته مساندة الزوجة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإذا غاب عنها حفظته في ماله وفي عرضه.
 خاطبها (جبر الدار) ذات يوم من خلف أسواره بمربع شعري يحمل مفارقة عجيبة، فقد كان (جبر الدار) يعمل محاسبا بشركة (جياد) التي تصنع ضمن ما تصنع القيود الحديدية التي يكبل بها السجناء، فدارت الأيام لتوضع ذات القيود على أعضائه، قال:
أم أحمد عزيز وصلك بقالنا محال..‏
وطالت الغيبة ما ختيت عصا الترحال..‏
بعد ما كت أفندي وفي جياد شغال..
لبست قيودا معليش الزمان دوال..
وقال في ذات مرة مربعا شعريا يأسر أصحاب الوجدان المتخثر والقلوب
المتحجرة، وقد زارته في محبسه صنو روحه ورفيقة دربه، ثم ودعته وداعا ما رغب فيه وهي تفرد يديها وتمدها تلويحا، فرأى ساعتها أن كل أيامه الزاهية تبدلت حلاوتها إلى طعم مر، فقال وهو يستل قوله من جوف الروعة ومن قلب الإبداع:
الليلة الصعيد أمسن بروقو إبرقن..
وما حاسب السنين من البريدو إفرقن..
وكت ودعنا فارد إيديهو لينا إتمدن..
مسخ لينا طعم أيام معاهو اتعدن..

أوقفوا الدائرة الجهنمية

وقف (جبر الدار) وهو في طريقه نحو المشنقة وقال لأهله وأصدقائه قبل
إخراجهم من الباحة إلى فضاء السجن الخارجي:
‏ـــ أوقفوا دوران هذه الدائرة الجهنمية، واقطعوا موجات الشر، فلا يتهور أحدكم، ولا تثأروا لمقتلي، فقط أدعوا لي بالرحمة والمعفرة، وليرحمني الله.
عندما عاد إليهم (جبر الدار) خارج السجن عاد جثمانا محمولا على آلة حدباء.
 قال لي من غسلوه أنه بدا كالنائم، نظيف الجسد، لا دماء ولا وجود لتلك الآثار التي تصاحب عادة المشنوق.
 طوبى له فقد أوفى دينه، وطهر روحه، وقد قال أشرف الخلق سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم:
ـــ تبايعونني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفا منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه فأمره لله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه.
صدق رسول الله الكريم.

‏شامة فوق ذاكرتي

ستظل يا (جبر الدار) قابعا داخل وجداني، مطبوعا في قلبي، وشامة فوق
ذاكرتي، وسأترحم عليك ماحييت، اللهم آنسه في وحدته، وفي وحشته، وفي غربته، اللهم أجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم أفسح له في قبره مد بصره وافرش قبره من فراش الجنة، واعف عنه ولقنه الإجابة عند السؤال، ودرجه عند السراط، وتخطفه بطيور رحمتك إلى الفردوس الأعلى في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة.
‎ ‎
اسعد العباسي [asaadaltayib@gmail.com]

 

آراء