جيل الستينيات في السودان و عقل الحيرة

 


 

طاهر عمر
12 November, 2023

 

جيل الستينيات في السودان يجسد جيل عقل الحيرة المسيطرة عليه إستحالة مواجهة التحدي و التغلب عليه. لأسباب كثيرة منها كساد الفكر نتاج غياب التمحيص النقدي و غياب التفكير النقدي إستقرت حقول رؤية جيل الستينيات في السودان على مشهد الفكر في السودان و النتيجة إنتصار الخواء على الحياة و عندما نقول إنتصار الخواء على الحياة نقصد ما يعكسه واقع المناشط الفكرية التي يسيطر على ناصيتها أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب و أتباع الشيوعية المتحجرة بنسختها السودانية.
عقل الحيرة لجيل الستينيات في السودان نجده منعكس في محاولة التوفيق الكاذب لرموز ثقافية سودانية ظلت على الدوام تسيطر عليها عقلية محروسة بالوصاية و ممنوعة من التفكير و غير قادرة على مغادرة الذاكرة المفتقرة لتجربة تنتصر للحرية بدلا عن الغوص في خطاب الهوية المضطربة و الهوية الخائفة و قد فتحتا على الهوية القاتلة كما يقول امين معلوف.
أكثر من نصف قرن مر على جيل الستينيات في السودان و لكن ستار كساد فكرهم الحديدي يحول بيننا و رؤية المستقبل الذي تنشده مواكب البشرية في أفقها البعيد. جيل الستينيات في السودان مسؤول من ضياع بذرة فكرة الدولة الحديثة التي تركها المستعمر الإنجليزي كغنيمة حرب كان يمكن أن تفتح على تحول هائل في المفاهيم يؤدي الى فتح نوافذ فكرية تؤسس لعلاقة الفرد بالدولة بشكل مباشر و بالتالي منه يمكن أن يجني الفرد ثمرة مفهوم المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و أقصد إمكانية التأسيس لفكرة العقد الإجتماعي و فكرة الضمان الإجتماعي المنكشف في أدنى مستوياته في فكرة الحد الأدنى للدخل و هو مظلة يستظل بها الفرد و تمثل أساس كرامة الإنسان و فكرة الحق في الحقوق.
ضاعت الفرصة بسبب مثقف الستينيات و علاقته الطردية مع فكر لا يفتح إلا على الايمان بالمطلق حيث نجده قد تجسد في أحزاب اللجؤ الى الغيب و في شيوعية سودانية في غاية النشوة بفكرة هيغل و ماركس و فكرهما الغائي اللاهوتي الديني. و هنا يلتقي الكوز و الشيوعي في إيمانهما بالمطلق و خصومتهما في تقديم كل منهما لحلول نهاية. الشيوعي في نشوة دخوله جنة ماركس الأرضية في فكر ديني غائي لاهوتي يؤمن بنهاية التاريخ و إنتهاء الصراع الطبقي و هو لا يختلف عن الكوز و بحثه عن فردوسه المفقود و ماضي ذهبي و هنا يصبح ماركس و ماركسيته فكر ديني لا يختلف عن إنجيل مرقس و هنا تظهر حيرة الشيوعيي السوداني العاجز عن مغادرة الوثوقيات و هو يتطابق في شكله و مضمونه مع الكوز أسير سياجاته الدوغمائية.
نقول مثل هذا القول و الهدف بحثنا عن طريق يفضي للخروج من متاهة الكوز و الشيوعي السوداني و هما في دهاليز إيمانهما بالمطلق و إصرارهم على تقديم حلول نهائية و هيهات. جيل الستينيات في السودان عقبوا خروج المستعمر إلا أنهم جاءوا لساحة الفكر بعقلية مستعدة لقبول الخواء لذلك لم ينتصروا للحياة يوما في فكرهم سواء كان فكر أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب أو الشيوعية السودانية المتحجرة في وقت كانت الفلسفة السياسية و علم الإجتماع و الاقتصاديين و الأنثروبولوجيين و المؤرخين في حقولهم يبحثون عن كيفية البرهنة على البعد البؤري و كيفية تجدد الفكر الذي يفسر مكنون ظاهرة المجتمع البشري.
مثلا في صبيحة سبعينيات القرن المنصرم قدّم جون راولز نظرية العدالة كتجديد لفكرة العقد الاجتماعي و هي تجديد لفكر الكانطيين الجدد و فكر جون لوك الاب الشرعي لليبرالية بشقيها السياسي و الاقتصادي و في نظرية العدالة تجديد لفكر جان جاك روسو و علم إجتماع منتسكيو في وقت إنشغل جيل الستينيات في السودان بفكر الهويات و تجاهل فكر الحريات و لم ترث الساحة السودانية من حينها غير فكر الهووي الصاخب الذي لا يجيد غير التوفيق الكاذب.
جيل الستينيات و السبعينيات من القرن المنصرم في السودان مكنونهم فكر الشيوعية المقنّعة و إلتباس فهمها لمفهوم السلطة و مفهوم الدولة الحديثة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و لذلك تجد الشيوعي السوداني الى لحظة كتابة هذا المقال لا يؤمن بفكرة الدولة من الأساس و يتوهم الشيوعي السوداني في أن الحزب الشيوعي السوداني يجسد له في ذهنيته فكرة الدولة و إذا أردت التأكد من ذلك أنظر في الكيفية التي يتحدث بها الشيوعي السوداني عن الحزب و كيف يجسد الحزب الشيوعي السوداني صورة الدولة.
جيل الستينيات و فجر السبعينيات في السودان جيل مفهوم الدولة عنده كمفهوم حديث غبّش الوعي به نخب الشيوعية السودانية و ما سهل لهم سبيل تغبيش الوعي و زرع الوعي الزائف لأن جيل الستينيات في السودان ليس له موروث من الأجيال السابقة و منذ أيام أتباع مؤتمر الخريجيين فيما يتعلق بتطور الفكر الليبرالي مثلا لم نجد في السودان ما يقابل طه حسين عميد الأدب العربي في السودان و كيف قدم فكر في كتابه عن مستقبل الثقافة في مصر و كيف قدم فكر يقول فيه أن سبيل خروجنا من الإستعمار لا يكون بغير تبني العقل الغربي ذاته من أجل مقارعته و مصارعته و بالتالي الوصول لحلول معه.
في كتاب آخر نجد طه حسين قدم لنا فكر لو كان له مقابل في السودان أي مفكر في جيل الستينيات السوداني مقابل لوعي طه حسين عندما قال فيما معناه إنتصار معاوية بن أبي سفيان على الامام علي بن ابي طالب لأن الامام علي كان يريد إعادة تأسيس مجتمع على فكر لا يمكن إعادته. لو كان عندنا في السودان منذ ثلاثينيات القرن المنصرم مفكر بوعي طه حسين لما وقعنا في تسابق النخب السودانية الى أحضان الطائفية بعد إنهيار مؤتمر الخريجيين في ثلاثينيات القرن المنصرم و لا إزدهر حزب الكيزان في السودان لأن أحزاب الطائفية في السودان و مثلهم الكيزان ينطبق عليهم القول و أنهم حاولوا تكرار محاولة الامام علي بن ابي طالب و هو يحاول إعادة مجتمع بفكر لا يمكن إعادته لذلك كان معاوية و رغم إعتماده على بني أمية إلا أنه أقرب الى الانتصار على الامام علي و كذلك اليوم لا يمكن لأحزاب الطائفية و لا الكيزان إعادة المجتمع لماضي ديني متوهم و لهذا لم ينتصر غير الخواء في السودان لان الجميع لا يريد الإنتصار للحياة بفكر أبناء الحياة.
و نجد الشيوعي السوداني في الستينيات أيضا أراد أن يكون له دور في الكوميديا الإلهية السودانية لذلك تورّط عبد الخالق محجوب في بحث لدور للدين في السياسة و عقبه محمد ابراهيم نقد و إخلاصا للأستاذ كما يحلو للشيوعي السوداني المستظل بالأبوية المستحدثة وصل محمد ابراهيم نقد لفكرة العلمانية المحابية للأديا.ن و لا يختلف عنهم النور حمد في حديثه عن المؤالفة بين العلمانية و الدين و كذلك جاء الشفيع الى ساحة الكوميديا الإلهية بفكرة المساومة بين يسار سوداني رث و يمين غارق في وحل الفكر الديني.
و تستمر الكوميديا الإلهية السودانية الى لحظة تعايش الشيوعيين السودانين مع فكرة تخليد فكر الامام الصادق المهدي. ربما يقول قائل و ماذا قدم فكر طه حسين لتحقيق الديمقراطية في مصر مع فكر أستاذه احمد لطفي السيد و الإجابة سوف يظل فكر طه حسين و أستاذه احمد لطفي السيد كامن الى لحظة إنعتاق المجتمعات العربية التقليدية من حالة البيات الشتوي و هنا يظل فكر طه حسين موازي و على مستوى فكر أصحاب نظريات النمو الاقتصادي و هي تؤكد أن مسألة إنعتاق الشعوب العربية و الاسلامية من إيمانها التقليدي مسألة وقت و سوف تصل الى ما وصلت إليه الشعوب الغربية.
و من هنا تأتي أهمية فكر طه حسين و تقدمه على حتى جيل الستينيات و السبعينيات من القرن المنصرم في السودان و هو جيل ما زال يحاول إنزال فكر لا يمكن تحقيقه على الإطلاق.
يذكرنا جيل الستينيات السوداني و خاصة الشيوعيين منهم حال جيل الستينيات في فرنسا عندما كانوا يتهكمون على ريمون أرون و يقولون من الأحسن أن أكون على خطاء مع سارتر من أن أكون على صواب مع ريموند أرون و كذلك جيل ستينيات السودان الى اللحظة يفضلون أن يكونوا على خطاء مع الأستاذ عبد الخالق محجوب من أن يعيدوا الكرّة على فكر أثبتت الأيام أن من يتبعه يتأهب للخروج من التاريخ.
لهذا لا تستغرب من الشيوعي السوداني الذي ما زال يجهل أن إدورد سعيد إعتذر عن كتابه الإستشراق و أن فكره في كتابه الأخير الأنسنية و النقد الديمقراطي قد تخلّص فيه إدورد سعيد من فكر الستينيات المسيطرة على أتباع الشيوعية المقنعة وسط الشيوعيين السودانيين و تخلص إدورد سعيد من فكر ميشيل فوكو الذي إعتمد عليه في جميع كتبه ما عدا كتابه الأخير.
بالمناسبة الكساد الفكري الذي صاحب إنزال التحول الديمقراطي في السودان بعد إنتصار ثورة ديسمبر سببه سيطرة فكر جيل الستينيات في السودان بشيوعية مقنّعة لا يمكن تجاوز رموزها بالسهولة و نحتاج لزمن طويل حتى تختفي أصنامهم الذهنية المحتفى بها على الدوام و ليس لهم سبب معقول غير أنهم لهم القدرة على صناعة الضجيج و من يستطيع التفوق على الشيوعي السوداني في صناعة الضجيج؟
و عليه ندعو لفكر ينتجه مفكر قادر على مغادرة محطة الشيوعية المقنعة كما غادر إدورد سعيد فكر ستينيات القرن المنصرم حيث كانت النخب الفرنسية سارترية و اليوم الفكر في فرنسا توكفيلي و المضحك أغلب أتباع الشيوعية المقنعة في السودان ما زالوا يظنون أن فرنسا ما زالت سارترية و في وقت قد صارت فرنسا تستظل بفكر توكفيل.
المهم في ختام هذا المقال ندعو القارئ لمراجعة موقفه من فكر جيل الستينيات السوداني و خاصة أتباع الشيوعية المقنعة و هم أنفسهم ضحايا لأنهم لم يسبقهم جيل في الثلاثينيات يؤسس لفكر ليبرالي كما نجده في فكر طه حسين و فكر احمد لطفي السيد و لم نجده في الجيل الموازي لنخب سبقت علي الوردي و كانت خلفية لفكره الليبرالي.
لو قارنا أتباع الشيوعية السودانية و إصرارهم على الشيوعية الرسولية يمكننا أن نضرب مثل برجيس دوبريه و كيف كان في فورة ثورة في الثورة و كان بجانب جيفارا و قبض عليه و سجن و بفضل نشاط المفكريين الكبار أطلق من السجن و لكن ما يهمنا كيف ترك كتابه ثورة في الثورة و كتب مذكرات برجوازي صغير و هذا الذي لا يقبله الشيوعي السوداني لأن البرجوازية الصغيرة قد أصبحت في حيز السب و الشتيمة و بعدها واصل ريجيس فكره و وصل لفكرة أن الشيوعية نظرة تفاؤلية مريضة و عمياء.
و مثل ريجيس دوبريه نجد تطور إدورد سعيد المتأثر بفكر ميشيل فوكو و فكر ما بعد الحداثة و كيف إسترد إدورد سعيد عافيته الفكرية عندما إعتذر عن كتابه الإستشراق و قبل إعتذاره رصد مفكرون مغاربه تراجع إدورد سعيد عن أفكاره المرتكزة على فكر ما بعد الحداثة التي يتخفي أتباع الشيوعية المقنعة تحت قناعها الفكري و تراجع إدورد سعيد عن أفكاره لم يأتي بسهولة و يسر بل قد جاءت بفضل مفكرين فرنسيين و هما لوك فيري و ألان رينو و إصدارهما عام 1985 لكتاب ينتقد أفكار ثورة الشباب في فرنسا و فلاسفتها أي فلاسفة ما بعد الحداثة و من ذلك الزمن تراجع فلاسفة ما بعد الحداثة عن نقدهم لفكرعقل الأنوار و فكر الحداثة الغائب من ساحتنا السودانية.
و بالمناسبة كتابات لوك فيري و ألان رينو و نقدهما لفلاسفة ما بعد الحداثة تعتبر الضربة الثانية بعد نقد ريموند أرون لهم منذ أيام ثورة الشباب عام 1968 و هذا ما جعل فرنسا تتخلص من فكر الشيوعية المقنعة. و لهذا يحتاج السودان لفكر مثل فكر ريموند أرون الذي وصف ثورة الشباب بأنها ثورة الوعي الزائف و بعده بعقديين جاءت الضربة القاضية من كل من لوك فيري و ألان رينو أما عندنا في السودان فلا أحد يستطيع تقديم نقد لفكر عبد الخالق الذي يستمد فكره و بحثه لدور للدين في السياسة و كذلك كلامه و فكره الملتبس عن ممارسة السلطة و عدم ايمانه بفكرة الدولة من الأساس من فكر شباب ثورة الشباب حينها و مرت الأيام و قتل عبد الخالق نتيجة إعتقاده الخاطئ عن المثقف العضوي الذي يقود حزب شيوعي متحجر كالحزب الشيوعي السوداني. و بعده أي ريموند أرون جاء عام 1985 و هما لوك فيري و ألان رينو و قد أكملا ما بداءه ريموند أرون في نقد فلاسفة ما بعد الحداثة.
عندنا في السودان لم يسمع بهما أتباع الشيوعية الرسولية و بالتالي إنتصر المفكرون في فرنسا و أصبحت فرنسا توكفيلية و إنهزم ماركس و شيوعيته أما في السودان فما زال الشيوعي السوداني تحت نير نهاية الفلسفة المثالية الالمانية التي قد وصلت الى منتهاها في الهيغلية و الماركسية أما الفكر في فرنسا فقد تحرر نهائيا من الفلسفة المثالية الالمانية.
من هنا يمكننا القول أن ثورة ديسمبر ثورة شعب متقدم على نخبه و لا يمكن إنزال شعارها حرية سلام و عدالة إلا يوم تظهر أقلية خلّاقة تستطيع أن تجسر ما يفصل بيننا و طرق الفكر في المجتمعات الحية أما الآن و نحن نشاهد أتباع المرشد و الامام و الختم و الأستاذ الشيوعي السوداني الذي ينسب له الحزب في ساحة الفكر و كل منهم يظن بأن الامور ستصفى لصالحه نقول لكم أن إنتظاركم سيطول لأن التحول الديمقراطي ليس نزهة.
التحول الديمقراطي يعني نقلة للوعي الى مستوى يصبح الفكر الليبرالي قد أصبح بديلا للفكر الديني و هذا يفصلنا عنه مدى زماني طويل في زمن ما زال شيوعينا السوداني مؤسس لعلمانية محابية للأديان و كل الأحزاب السودانية فكرها اللاهوتي ينفي أي نزعة إنسانية.
بإختصار ستقف الحرب و سيرجع الناس الى ديارهم و لكن في غياب الأقلية الخلاقة سيطول طريق التحول الديمقراطي و كثر من السياسيين السودانيين و المفكريين التقليديين سيسقطون في مهاوي الردى في ظل نخب سودانية ما زالت مسيطرة على مشهد الفكر منذ ستينيات القرن المنصرم و ما زالت أسيرة خلق العبارة و يتيمة لريادة الفكرة و تعيد مقالات كتبت منذ ستينيات القرن المنصرم. المفكر السوداني التقليدي ما زال مطمئن لتبريره بأن توفيقه الكاذب الذي يجعله يعتقد في ديمقراطية تجلبها الأحزاب الدينية في السودان يظن و هو خاطئ بأن التحول الديمقراطي الذي أنتجه فكر ليبرالي قد صار بديلا للفكر الديني يخص تطور الفكر لدي المجتمعات الغربية أما هم فإن ديمقراطيتهم ستكون ديمقراطية أتباع المرشد و الامام و الختم و الأستاذ الشيوعي السوداني الذي ينسب له الحزب المتكلس.
لذلك يجتهد أتباع الفكر الديني من كل شاكلة و لون في السودان بأن يقدموا خطاب ديني يكون بديل للفكر الكيزاني في وقت يقول فيه شعار ثورة ديسمبر حرية سلام و عدالة و يعني أن أمر الدين شأن فردي و أن زمن الكاهن الذي يمثل قدس أقداس الاتباع قد إنتهى شعار ثورة ديسمبر يعني أن زمن عقلنة الفكر و علمنة المجتمع قد أطل.

taheromer86@yahoo.com
/////////////////////

 

آراء