المصالحة الثقافية: في تحية حسن موسى وكمال الجزولي
31 December, 2009
هذا الخميس
قالوا له: الحريق في البلد،
هل مسَ -قال- في شارعنا أحد؟
***
قالوا له النيران في شارعكم
تلتهم الأشجار والحجارة
أطارت -قال- منها صوب بيتنا شرارة؟
***
قالوا له: رماداً صار بيتكم
هذا المساء
صاح: غرفتي، وأجهش بالبكاء!
(قصيدة بعنوان مثقف للشاعر كمال الجزولي)
في الولايات المتحدة ظل البروفيسور نوام تشومسكي يسارياً نقياً وثورياً مخلصاً ومواطناً أمريكياً مناهضاً لسياسات بلاده الرسمية على الدوام، لكنه في المقابل ظل يحصل دائماً على تكريم وإحترام مؤسسات بلاده الأكاديمية والثقافية والأهلية تقديراً لفتوحاته المجيدة في علوم اللغويات والفلسفة والسياسة والإجتماع. نال تشومسكي الحظوة المستحقة فتم تكريمه بحوالي 33 شهادة تقديرية فخرية أمريكية ودولية من مؤسسات رفيعة مثل هارفارد وجورج تاون وأكسفورد وكيمبردج واستقبلته مدرجات الجامعات دائماً بالتصفيق وقوفاً والإحترام.
وفي استراليا تتابع مؤسسة أهلية وطنية رفيعة تسمى مؤسسة الرعاية الوطنية (ناشونال ترست) مجهودات العلماء والمفكرين والنشطاء في القارة المترامية الأطراف، وقد أعدت هذه المؤسسة قائمة محكمة بأسماء اشخاص اعلنت عن أنهم كنوز وطنية حية. هذا الإعلان ليس إعلاناً رمزياً فحسب لكنه شرف سيرسخ على الدوام في ذاكرة الأمة، وهو مطالبة للشعب كله وليس للدولة فقط بتوفير الرعاية والتوقير والإحترام للسيدات والسادة الواردة أسماءهم في القائمة والتعامل معهم تماماً كما يتم التعامل مع الكنوز.
لم تتردد المؤسسة في تضمين أسماء لمبدعين وعلماء ونشطاء ظلوا غالب حياتهم على خلاف مع الدولة، أو حتى مع قطاعات واسعة من المجتمع مثل رسام الكاريكاتير والفيلسوف مايكل ليونيغ الذي لم يتلق تعليماً نظامياً عالياً وكان يعمل في أحد المصانع حتى دخلت بلاده حرب فيتنام على الخط الأمريكي، فبدأ الرسم المناهض للمشاركة في تلك الحرب. منذ ذلك الحين وحتى الآن لم يكف ليونيغ عن التعبير عن مواقفه بالرسم الساخر أو حتى بالتظاهر، وظل أحد القلائل الذين ينتقدون ممارسات دولة اسرائيل ضد الفلسطينينن في مجتمع أستراليا الغربي الحساس جداً تجاه المسألة اليهودية. ذات مرة اعتبر في إحدى رسوماته الذائعة إن بناء اسرائيل للجدار الفاصل هو إعادة لبناء معسكرات المحرقة النازية التي قام هتلر باعتقال اليهود فيها ثم قتلهم بشكل في غاية البشاعة. وضعت هذه اللوحة الساخرة صاحبها في مرمى نيران اللوبي اليهودي لكنه لم يكف عن الرسم والتعبير عن آرائه من مسكنه الريفي في إحدى المزارع بولاية فكتوريا. ظل ليونيغ رغم كل هذا كنزاً أسترالياً حياً منذ عام 1999 وظل مئات الآلاف من قرائه ومحبيه يتلقون كل سنة نتيجة العام التي يزينها برسوماته البديعة مع صحف مؤسسة فيرفاكس التي يرسم في إحداها .
وفي مصر القريبة هذه ظلت الدولة (وليس المجتمع فحسب) تتولى بالرعاية والتقدير والتكريم الكثير من المبدعين والمفكرين والنشطاء الذين ليس هناك ما يربطهم بنظام الحكم في بلادهم سوى العداء، وتشهد على ذلك قوائم ومنح التفرغ التي تمنحها مؤسسات الثقافة للكتَاب والشعراء والمبدعين كل عام، وهي منح توفر العيش الكريم لبعض منسوبي هذه الفئات مقابل أن يتفرغوا هم للإنتاج الفكري والإبداعي. هكذا رأينا مصر ترعى علاج الفيلسوف الراحل عبدالرحمن بدوي الذي غادرها في الخمسينيات ثم ما انفك يشتمها حتى قضى نحبه بعد حياة طويلة وعامرة. ورأينا أيضاً كيف قامت الدولة ممثلة في وزارة الثقافة بتكريم الروائي والكاتب اليساري المعروف صنع الله ابراهيم وقيامه برفض تكريم مؤسسة الدولة في حادثة شاهدها الناس على الهواء حيث الوزير يقوم بالتكريم والمبدع يرفض المال والجائزة.
***
تحتفي الخرطوم هذه الأيام بمقدم الفنان والكاتب والمفكر البارز د. حسن موسى المقيم في فرنسا منذ سنوات طويلة لم ينقطع فيها عن الإنشغال بالهم العام في السودان. منذ قدومه في إجازته هذه والخرطوم تشتغل بحراك ثقافي وفكري وفني من نوع مختلف وشديد التميز فليست كل المحافل كالمحافل التي يكون حسن موسى حضوراً فيها، فما بالك إذا كان هو الشخصية الرئيسية أو المحورية فيها. تابعت إحتفاء البلاد (صحفاً ومؤسسات اهلية) بالتشكيلي الكبير وكنت اتمنى لو انفتحت الدولة والجامعات ومراكز الدراسات والتفكير (الخربة) والتي يعشش العنكبوت على أبوابها بالمثقف الوطني المحترم، وأتاحت له متسعاً في المكان وبراحاً للنقاش حول أفكاره وآرائه وتصوراته فتقدم الأمم مرهون بالمبادرات الخلاقة والقدرة على التنظير للتغيير والتحول، وليس إنتظار الفرج والتشبث بما هو قائم.
***
ليس ثمة شيء قابل للتسليم به دون مناقشة ونقد وتفكير وتمحيص عند حسن موسى لذا فإن الكتابة عنه قدحاً أو مدحاً هي دخول في عش دبابير هائل. من اليوم الذي قرأت فيه مقالته القديمة عن صورة الإمام المهدي قبل سنوات عديدة وأنا أجتهد ما وسعني الأمر لقراءة الرجل وقد بذلت منذ ما يزيد عن العشر سنوات جهوداً حثيثة للحصول على مجلة (جهنَم) التي كان يصدرها بصورة غير دورية، ثم كففت عن طلبها حين تبينت انه كان يوزعها بالإسم على خاصة أصدقائه. تحتفي صالات معارض العالم وغاليريهاته من دبي الى نيويورك مروراً ببيروت والعواصم الأوروبية جلها بلوحات حسن موسى وأفكاره ومن باب أولى أن تحتفي بها بلاده التي غادرها شاباً ثائراً ومتطلعاً وطموحاً ويعود اليها اليوم –مؤقتاً كما دأب كل بضعة أعوام تطول وتقصر- وهو شيخً –في مقتبل الشيخوخة- (ولد بمدينة النهود، غربي السودان، عام 1951م). لا يكف حسن موسى ولن يكف عن إثارة الجدل بلوحاته البديعة وأفكاره المبهرة، ومنذ حوالي الستة اشهر تناولت صحيفة (لوتيليغرام) ومواقع على شبكة الإنترنت تفاصيل الجدل الذي اثارته إحدى لوحاته التي عرضت في محفل فرنسي بإحدى الكنائس حيث تم نزع اللوحة في اليوم التالي للإفتتاح بسبب وصف الكنيسة لها بأنها "صادمة للحساسية الدينية"، وتصور اللوحة صورة بن لادن على مرايا منعكسة من شخصية امرأة عارية الظهر جزئياً.
لدي حوار لم ينقطع منذ أشهر مع المثقف الكبير على موقع (السودان للجميع) على شبكة الإنترنت والذي تشرف عليه (الجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية) ومقرها في باريس. وبالرغم من طول أمد الحوار وتشعب موضوعاته وإختلافنا على كل شيء تقريباً، إلا أنني لا أكف عن التصريح بأن ذلك الحوار كان مفيداً بالنسبة لي وتجربة مميزة حازت على نسبة إقبال وقراءة واسعة من الكثير من القراء والمهتمين إذ يستخدم حسن موسى أدوات مختلفة تتراوح ما بين الكتابة والرسم ومصادر متعددة للمعرفة وأدوات متمايزة للحصول عليها عبر لغات ثلاث –على حد علمي- وتجربة فريدة في العيش في بلاد النور في فرنسا كفنان ومثقف فاعل في محيطه ذاك وفي فضائه الأوسع.
لست هنا في معرض الحديث عن تجربة حسن موسى الكبيرة ولكنني مشغول بقضية ما يمكن أن اسميه مؤقتاً هنا ب(المصالحة الثقافية)، وهي في تصوري المبكر هذا محاولة لإستيعاب وتوطين الجزء الثقافي في الحوار الوطني الذي يعتمل الآن في بلادنا على أكثر من صعيد. لقد أنجزت الدولة مصالحة سياسية مع القوى التي حاربتها في الماضي واسالت في الطريق الى تلك المصالحة أنهاراً من الدماء والدموع تم تجاوزها بكثير من المرارات بطبيعة الحال. أفضت تلك المصالحة الى تغيير كبير وهام جداً في البلاد وهو تبديل قواعد اللعبة السياسية في البلاد والإنتقال الى مرحلة جديدة يحتفظ فيها جميع اللاعبين برؤاهم واختلافاتهم السابقة حول الكثير من القضايا العامة، لكنهم يتفقون جميعاً على أدوات مبتكرة للتعبير عن تلك الإختلافات والعمل على تضييق شقتها عبر الحوار داخل أطر معروفة متفق عليها، ووفق نظم تم وضعها بالمشاركة وعبر التفاوض والمساومة. لم يتم استيعاب الجانب الفكري والثقافي على أهميته الكبيرة في هذه المصالحة بل على العكس تم الإبقاء على الخصومة الثقافية وإذكاء نارها بمزيد من الزيت فيأحيان كثيرة، وهكذا مثلما أغفلت المصالحة أو التوافق الوطني جانب السند الأهلي والشعبي فإنها استبعدت تماماً الرافد الثقافي والفكري.
لا يحمل حسن موسى سيفاً في يده لمحاربة السلطة القائمة لكنه لا يخفي رفضه لها، وفي المقابل لا ترفض السلطة –أو هكذا ينبغي أن يكون- من يخالفونها ويرفضون وجودها لأنها لا تستطيع بطبيعة الحال إلغاءهم. تعتقد السلطة القائمة انها الأحق بالحكم فيما يحسب حسن موسى أنها لا تستحق سدة الحكم لكن الطرفان متفقان على أن الوطن هو الأعلى من كل الأفكار والتصورات. الحكومة في حاجة الى معارضين أنقياء يرفضونها ويقدرون على تبيان الأسباب وليست في حاجة لمعارضين يتفقون معها على كل شيء لكنهم يساومونها على المقاعد. من أجل تقوية موقفها وسلطتها ونفوذها تحتاج السلطة- أي سلطة- إلى من يبين لها مواطن عجزها وضعفها وليس أفضل لمثل هذا العمل من مواطن شريف وفرت له الحياة والموهبة فرصة لحياة أكرم وأفضل خارج مدار مقاعد الحكم. مواطن شريف كهذا يستعصي على السوق والإنقياد وفق مقررات لجان الحزب الغامضة أفضل في المعارضة من ألف مشروع لساسة يدخلون أيديهم في جيوب السلطة وينظرون الى مقاعدها الوثيرة ويقولون لها كلاماً ناعماً أو خشناً حسب تقلبات الحال.
***
كانت الخرطوم محظوظة مساء الثلاثاء 2009/12/29 بالندوة التي أقامها إتحاد الكتاب السودانيين وحاور فيه الشاعر والمفكر الكاتب كمال الجزولي صديقه القديم.
تعرفت على كمال الجزولي –من بعيد- منذ سنوات طويلة وقرات أشعاره وحفظت الكثير منها ثم قررت أن هذا الرجل سيسكن مكتبتي بعد ان قرأت مرثيته الفريدة للشاعر الراحل محمد المهدي المجذوب:
"إرفع الكأس الجنوبي الغبوق
لعلنا بالراح نشفى
واجترع في صحة الطوفان
والطير الأبابيل اليزلزل صمتنا.. قصفاً وعصفاً
ثم حدثني عن الغرقى، عن الناجين، هل رجل على
ظهر السفين يصفّنا ..
صفاً فصفا؟!
حين أوشكت على إكمال دراستي في كلية الآداب بجامعة النيلين كان مقرراً على أن أقدم بحثا علمياً كشرط للتخرج فقررت أن أكتب دراسة نقدية عن شعر كمال الجزولي لكن منعتني عن ذلك عدة أسباب أهمها صعوبة الحصول على مدخل يقدمني للرجل لمحاورته وهذه قصة أخرى. لم انقطع عن متابعة مساهمات الرجل الفكرية والأدبية والتي ظل يقدمها بدأب راهب نقي طوال السنوات الماضية. حين أعلنت الإنقاذ (الطبعة الأولى) قانون التوالي السياسي لم يكن هناك سوى كمال الجزولي ليبيِن خطل الفكرة كلها في بلاغة وحذق لم يتأتيا لكثيرين غيره فكانت تلك السلسلة البديعة التي نشرتها جريدة الفجر اللندنية المعارضة حجة لنا جميعاً. وحين بدأت ازمة دارفور في التشكل وفق ممارسة حربية عنيفة في النصف الأول من هذا العقد كتب كمال الجزولي على صفحات هذه الصحيفة ذاتها مقالة ناضحة بالحكمة والموعظة الحسنة بعنوان (دارفور: كيلا نمسح الدهن فوق الصوف) (17 مارس 2003). وحين وقع التجمع الوطني الديمقراطي المعارض إتفاق جدة (الإطاري) مع الحكومة لم يكن هناك سوى كمال الجزولي يبين في إتقان وبصارة مواطن العي والحصر في كتاب الإتفاقية.
منذ أكثر من عقد يواظب الأستاذ كمال على كتابة مقالة أسبوعية مطولة يقتطع لأجلها الساعات الطوال ويكدح في سبيل ضبطها وتدقيقها وملئها بالفائدة ما لا عين كاتبة في السودان رأت ولا أذن سمعت إلا قليلاً. يمكنك أن تتفق مع كمال الجزولي أو تختلف معه بطبيعة الحال لكنك لن تقدر على تجاوز النظر إليه ك(كنز سوداني حي) يتوجب التعامل كما يتم التعامل مع الكنوز وإلا فكم كمال جزولي تملك هذه الأمة العظيمة؟
سعدت صيف هذا العام بلقاء كمال الجزولي في داره الرحبة برفقة الأستاذ مصطفى عبدالعزيز البطل، الكاتب المعروف، والأستاذ ضياء الدين بلال الصحفي اللامع ومدير تحرير هذه الصحيفة. كنت سعيداً بتلك الرفقة والصحبة الطيبة. تبادلنا بعض الكلمات الطيبات وتفضل اهل بيته بإكرام وفادتنا ثم تجولت بعيوني في الصالون الأنيق. قد تظن للوهلة الأولي من وجودك في الصالون إياه إنك لست في الخرطوم بسبب ما اعتادت عليه عيوننا من شكل نمطي لمنازل الطبقة ما فوق المتوسطة أو الطبقة العليا من حيث الدخول الإقتصادية. تجد هؤلاء يكومون أحجاراً يلصقونها بأطنان من الأسمنت والرمال تكفي لبناء سد في الريف حتى إذا اكتمل البناء المهول (المكعوج) كوموا بداخله أطناناً أخرى من الحديد والخشاب على هيئة كراسي وأسرة وطاولات تمسك عنك نَفَسَك وتخنقك خنقاً فإذا كان البيت مملوكاً للدولة رأيت اللون الأخضر والأصفر يصيبانك بالتوتر والأسى، وإذا كان المنزل ملكاً خاصاً أفزعتك التضاريس الناتئة على الحوائط . بيت كمال الجزولي هو بيت شاعر فبمقاعده الأنيقة البسيطة كان يوفر مساحة في المكان لوضع بعض التحف والأزهار البسيطة والهدايا التذكارية وبمراياه التي تتوسط الحائط على شكل نافذة كبيرة تحس باتساع في المكان يزيد من شعورك بالسكينة والراحة! كل هذا دون ترف وإسراف. التهوية ممتازة والكهرباء تكمل ما عجزت عنه الطبيعة. اذكر أنه كان يتوجب علينا مفارقة مضيفنا خلال ساعتين لإرتباطات مسبقة له وارتباطنا بلقاءات أخرى لكنا وجدنا أننا بحاجة للبقاء هنا فألغى هو ارتباطه عبر هاتف نقال أنيق من طراز (نوكيا) بينما أغفلنا نحن موعدنا الذي ذهبنا إليه متأخرين. هكذا طاف بنا الحديث فولجنا في السياسة وأزمة الوطن ودارفور ومتاعب الكتابة والصحافة ولم نأت –للأسف- على ذكر الشعر..ما بال الشعر يتراجع دائماً حتى لنكاد ننساه! لا علينا فقد امتلأت العقول منا فكراً وأدباً والبطون لحماً وثريداً على حد قول مصطفى البطل.
***
ترتكز كتابات الجزولي أيضاً على معارف متنوعة وقدرات فذة ومواهب كبيرة ومصادر قراءات مختلفة لغاتها ما بين العربية والإنجليزية والروسية (يحمل دبلوماً متخصصاً في الترجمة إضافة الى ماجستير القوانين) وتشكل مقالاته الأسبوعية المتصلة ذاكرة مفتوحة للجميع لتبيّن نظر الرجل الثاقب كما إنها تشكل متكأ للتدبر وبلوغ الحكمة ومورداً لا ينضب للمهتمين بالسياسة والفكر والأدب والتاريخ.
مثلما هو الحال مع د. حسن موسى، يصعب الإتفاق على كل شيء مع الأستاذ كمال الجزولي، لكن يمكن الإتفاق دائماً مع كليهما على أنه ينبغي أن يضع الجميع نصب أعينهم ان السلطة دائماً وأعني سلطة الحكومة وسلطة المعارضة زائلتان ولكن ينبغي لهذا الوطن أن يبقى بعيداً عن الحرائق وفي مأمن من نزق الساسة، ولعل أكثر السبل سلامة لبلوغ هذه الغاية هو العمل على التأسيس لعقد ثقافي جديد يقوم على إعادة الإعتبار للمثقفين، وعلى تمكينهم من حيازة الوسائل اللازمة للتعبير عن أفكارهم وطرحها مهما بلغت من الحدة والخصومة، لأن الحكمة كل الحكمة في الحصول على عدو عاقل لا الإبقاء على اصدقاء جاهلين.
قد يلحظ البعض إنتماء كلا الرجلين (حسن موسى وكمال الجزولي) الى اليسار ولكن ما الغضاضة في ذلك وقد توقف اليمين السوداني كله منذ عهد بعيد عن إنجاب المفكرين. لم ينتج اليمين السوداني مفكراً نابهاً بقامة حسن الترابي والصادق المهدي منذ سنوات طويلة –إذا استثنينا د. حسن مكي- بل تراجع دور المثقفين الأصغر سناً من هذا الجانب فانزوى التجاني عبدالقادر وبهاء الدين حنفي ومحمد محجوب هارون وسيد الخطيب، وأعلى أمين حسن عمر وآخرون السياسي على الفكري.
منذ سنوات طويلة ما انفك اليمين السوداني يفرخ أثرياء جدد ورجال أعمال جدد وأغنياء غفلة جدد لكن اليسار نفسه يعيش أزمة مماثلة فقد كف، هو الآخر، عن إنتاج المثقفين والمفكرين لصالح إنتاج (نشطاء) ما يسمى ب(المجتمع) و(ناشطي) حقوق الإنسان المتفقين على تدهور أوضاع حقوق الإنسان، والمختلفين دائماً على توزيع منح التمويل الأجنبي والأسفار الخارجية والدورات التدريبية في عواصم الغرب الذي كان إمبريالياً فصار حراً.
إذن هي دعوة لمصالحة ثقافية وفكرية لا تتعالى فيها الدولة عن الإستماع لصوت العقل المخالف ولا يترفع فيها المثقفون على الحوار بسبب الحلم بيوتويبا لن تتحقق، وفق أكثر التقديرات تفاؤلاً، خلال قرون قريبة!