المصالحة الوطنية أولاً … بقلم: عمر الترابي

 


 

 


alnahlan.new@hotmail.com
 
يعتقد الكثيرون أن الرغبة الجامحة لتجاوز الماضي، ويظن أن الاتفاقات السياسية يمكن أن تعني بداية جديدة للمجتمع و من ورائه الدولة، ويظنون بذلك أن تجاوز المنطقة الرمادية بين الحرب والسلام الدائم يتم بإنجاز قدر كبير من المشاريع السياسية والاقتصادية والثقافية، وتوشيح المراسيم و القرارات بنفس قومي وحس وطني عالي وكثير من أدبيات الإحسان والإصلاح والمعاني النبيلة التي لا شك في أهميتها.
 لو صح ذلك لما احتجنا إلى حوار الآن بعد سنوات من الحوارات  وعشرات الاتفاقيات التي وقعتها (كل) الفعاليات السياسية مع بعضها البعض حاكمة ومحكومة، ولما احتاج الوطن إلى التعثر كل هذا الوقت ولبناء، ولما انفرط عقد الوطن و ضاع الشمال من الجنوب والعكس، فهذه الاتفاقات كانت محكمة البناء، و بالرغم من كل الحسابات المنطقية (الاقتصادية والسياسية) التي تضمن بقاءها، فما الذي ينقصنا إذا؟
ظلننا نكرر بوعي لتكرارنا وإدراك لثقله بأن المصالحة الوطنية هي أول ما يجب أن يحدث لتأسيس مجتمعنا على بينة بعد حروب السنين الطاحنة والمجهدة لنفسيات الشعوب بقدر إجهادها لطاقاته، و ليعود له الود والإلفة واللحمة التي هي أساس كل مجتمع، وهذه المصالحة هي الماء الوحيد يمكنه أن يهون القيظ الملتهب والغيظ المتقد الذي يعتمل في نفوس كل متصارع مع خصمه، فبلدنا شهدت حروبًا تحت مختلف اللواءات والمبررات والأسباب، ولكن لم تتم معالجة هذه الآثار النفسية و الاجتماعية على أي مستوى من المستويات، ولم تقم دعوات السلم الاجتماعي إلا ظلاً من ظلال السلم السياسي الذي اكتشف الناس أنه لا يسمن ولا يغني من جوع .
المصالحة والتسامح ليسا بالقدر من الصعوبة الذي يتوهمه الخائفون منهما، إنهما سلوك نفسي حقيقي نبذله لأجل أجيالنا القادمة، واتفاق حقيقي على تجاوز مراحل البغي والظلم والطغيان ووكلها إلى التاريخ، وهو سلوك لقيادات يجب أن تتعالى على نفسها وتعترف بأن الواقع أجبرها على خيارات لم تكن تريدها، المجتمعات والدول والسياسات مهما تعقدت فيها الآليات الاقتصادية والنظريات التكوينية و النظرات الجيوسياسية وغيره، فهي تتكون من بشر يحسون بكل فظاعات الماضي وآلام الحاضر، يملكون من الإحساس ما يمكن أن يؤثر على أحكامهم السياسية والفكرية مالم يُعالج، فلماذ نترك باب الفشل مفتوحًا ونتعامى عن ما يحتاجه الناس؟، أنهم يحتاجون لأن نقول لهم عفوًا فقد أخطأت بحقك، وأن يقول لنا عفوًا و فقد أخطأت في كذا، حتى يكون لنا حبًا وكرامةّ! تتأسس عليها التعاقدات الاجتماعية اللاحقة.
إنني لا أتبنى نظرة أخلاقية تغالي في الصفح، و تتعمد الخلط بين المصالحة والاعتذار والندم والعفو العام والتقادم وما إلى هنالك من متشاكلات، ولكني بدرجة ما أشير إلى أن من لا يؤمن بالمثاليات الأخلاقية عليه أن يتلمس الصيرورات البراغماتية التي توجب المصالحة الوطنية و التسامح والتفاعل به أكثر من غيرها، فحينما يقوم رجل في قمة الهرم الديني لدين ما بالاعتذار عن جريمة كيت وكيت، فإنه يقدم خدمة جليلة لأبناء دينه وتابعيهم، حينما يلقي عنهم الإحساس التاريخي المتراكم لدى الطرف الآخر.
ما الذي يمنعنا نحن من ممارسة سياسات أدنى ألمًا من الاعتذار، لا أطالب أن نقف على الأشهاد ونتفق على تعويض عن الضرر لأخطاء مارسها الأموات مثلاً، ولكن الأخلاقيات توجب أن نوقف حمولات البغض ومفتتات المجتمع الذي نرّحله للأجيال القادمة، فما ذنب حفيدي في قتال في تلك الناحية أو هذه مع هذا العرق أو تلك الديانة، والأجيال القادمة بلا شك سترحل إليها كراهية متعاظمة وأحزان متغالبة، مالم نضع حدًا لكل هذا.
نعم، قد تفشل المصالحة الوطنية في محو كل مواطن الفشل، وفد تطالبنا بابتداع سياسات للذاكرة على شاكلة جبر الضرر أو التعويض أو حتى الاعتذار، ولكنها بلا شك ستزيل الكثير من العوائق أمام الحل السياسي، و وحدها تجربة جنوب السوادن الذي يمضي الآن لتشكيل دولته وترك دولتنا، بالرغم من أن بقاءنا معًا كان أوفق وأكثر خيرًا، ولكنه اختار ذلك لأن الحل السياسي بُني على السياسة فقط، وأن دولتنا نست أن الدولة تُبنى من "ناس" و "بشر" يحبون ويكرهون، ويؤمنون بالذل والحب و الطيبة والسماحة، يبتسمون حينما يتذكرون عطايا الخير و يتجهمون حينما يتذكرون أصوات الحروب، وسياسات التفريق، وهذا وحده كفيل عندهم بتوجيه القرارات، ولو استمعنا لكل خطابات شعبنا في جنوب السودان لما وجدنا من تحدث عن بناء دولة اقتصادية أو عسكرية أو غيره، ولكنهم جميعًا تحدثوا عن بناء مجتمع كريم وحاولوا ذلك، أوليس مخجلاً أن نفقد جزء منا لسبب نفسي تاريخي؟
ألم يكن مجديًا لو جلسنا لنتحدث عن التاريخ، و بثثنا حلقات المصالحة الحقيقية، التي تعتورها ما تعتورها من لحظات حرجة وخطرة، ولكنها تفضي إلى تصافي، وهذه النتيجة لو خرجنا بها من كل السنوات لكان أفضل وأبقى، ألم يكن مجديًا أن نصفي النفوس؟!، مادام فشلنا في ذلك فيجب علينا قبل أن نتحدث عن حوارات استراتيجية ينبغي أن نقف على أعتاب آخر اتفاق، ونقلب الاتفاقات السياسية البارعة التي عقدت قبله لنجدن فيها من الحكمة الكثير، ولكنها فشلت، فما عسى أن يفيد اتفاق جديد، وفي النفوس ما فيها!
قدموا تنازلاتكم  و تعالوا على نفوسكم "وتعالو عليها"، وامنحوا هذا الوطن ما يستحقه من سياسات المصالحة والتسامح، اعتذروا عن أخطاء الماضي التي تمت، تطهركم من حمولات التاريخ يتم بنقدها وبتبيان مرضها، لسنا أوصياء على كل زمان ولكننا محاسبون على ما نقدمه للأجيال القادمة، فلنقدم إذًا مناهجًا تعالج هذه الأمراض، وترسخ حب الآخر والحوار معه وتقبله، تعزز من قيمة الفرد بخدمته لأمته وبحبه لأمه وأبيه وأخيه و كونه في حاجة الناس، نحتاج إلى معاني إنسانية لا تفرق بيننا، نحتاج لشباب ليس في رأسه بقايا الحروب التي تجبره على أن يكون متأليًا على التسامح ونافرًا منه كنفوره من الخنوع، نحتاج لمن يحب اندريا و أوشيب ومحمد أحمد، لا عن نفاق ثقافي ولكن عن إحساس بقيمة هذا الوطن ولو كان هذا الإحساس براغماتي.
قدموا الشباب فهم أقدر على ممارسة التصالح والتسامي على الخلافات، هكذا كان يفعل الآباء، يقدمون الشباب و يقتلون الخلافات، لأن الحرب والاحتراب والنزاعات ليست إلا ما عرفوا وذاقوا.
 
 

 

آراء