“المصالحة” بين ما أعني وتخرُّصات المرجفين (1/7)

 


 

 

(1 – 7)

أثارت وجهة نظر عرضتها بصورة شديدة الإيجاز، في حلقة إذاعية، قبل قرابة الأسبوعين، العديد من ردود الفعل الغاضبة. ورأيت أن أكتب هذه المقالة لإيضاح ما أرمي إليه. قولي: "لابد من مصالحة مع الاسلاميين"، لم يرد في صورة تويت tweet، كما أظهرته قناة الجزيرة، وانما قلته ضمن لقاء في إذاعةPro  106.6FM . وهو لقاء طويل، استغرق قرابة الساعتين. وقد جاء عرضي لفكرة المصالحة عرضا، وكان موجزا، في رد على واحد من أسئلة المذيع المعروف، محمد محمود حسكة، الذي حاورني في البرنامج. قناة الجزيرة التي طيرت تلك العبارة عبر الفضاء لم تتصل بي، قط، لتسألني ماذا أعني بها. وهذا ما ينبغي أن يفعلونه وتفعله، عادة، أي قناة تلفزيونية. اكتفى محررو قناة الجزيرة بتلك العبارة الموجزة، التي يبدو أنها كانت كافية لخدمة أغراض القناة المعروفة. فطاقم الجزيرة يعرفني منذ أن كنت في قطر، ولم أك أبدا من ضيوفهم المفضلين، خاصة فيما يتعلق بتجربة حكم الإسلامويين في السودان. لقد استضافوني بضع مرات في مواضيع ثقافية، وأخرى سياسية ليس من بينها ما يتعلق بتجربة الإسلامويين في الحكم في السودان. فقط، اكتفت قناة الجزيرة، بتلك الجملة المكونة من خمس كلمات.

بمجرد أن قذفت قناة الجزيرة بتلك العبارة في الأسافير، التقط القفاز المغرضون المستعجلون المحليِّون، قليلو الرَّوِيَّة، من محترفي الشيطنة والتخوين. واتجهوا بحماس، منقطع النظير، إلى ما لا يعرفون غيره، وهو محاولة "اغتيال الشخصية"، ببث الأكاذيب وترديدها وكأنها حقائق. وكذلك، تجنب محاولة استجلاء الأمر، أو ترك الآخرين يستجلونه، ويناقشونه بموضوعية. تباروا في الهتر، وكيل الاساءات، وزحموا بذلك وسائل التواصل الاجتماعي، ومختلف المنصات الاليكترونية، فيما يشبه الحملة المنظمة. وأود أن أعيد هنا ما سبق أن ورد على صدر سلسلة مقالاتي، التي حملت، قبل عام، عنوان: "التكلس اليساروي"، حيث قلت: "اليسار السوداني ظل يعمل عبر تاريخه السياسي على صنع قبيلةٍ، وليس حزبًا سياسيًا ديموقراطيًا، حداثويًا، مفكِّرا. لذلك ما أن شاعت مقالتي في الأسافير حتى امتشق صغار فرسان هذه القبيلة سيوفهم وشرعوا في المنافحة بالنصال، دفاعًا عن صنم قبيلتهم وبقرتهم المقدسة. هؤلاء لا يناقشون، لأنهم لا يملكون حصائل معرفية يناقشون بها، وبسبب ذلك ينزلقون تلقائيًا في منزلق الهتر الفج والغوغائية. يريد كل فارس منهم نيل رضا القبيلة، وقد لاحت له فرصةٌ لنيل ذلك الرضا. غير أن هذا لن يخدم قضيتهم، وإنما سيخرجهم تمامًا من ساحة الفعل الفكري المنتج. ولا أرى الآن أي فرق في طريقة مقارعة الرأي المغاير، بين التكفيريين المتأسلمين، وهؤلاء التكفيريين اليسارويين" (انتهى).

كل من شاهد الحلقة التي بثها تلفزيون السودان القومي، في برنامج "حوار البناء الوطني"، مساء السبت 24 يوليو الجاري، يدرك أنني لا يمكن أن أكون طرحت، أو فكرت في طرح، مصالحة مع الإسلاميين، على النحو الذي ذهب إليه هؤلاء المرجفون المغرضون، الغارقون في لجة الثأرات القبلية. كذلك، من يقرأ مقالاتي، التي نشرتها طيلة فترة حكم الإنقاذ، وتحمل منها منصة "سودانايل"، وحدها، قرابة 300 مقالة، لن يجد فيها، قط، أي مهادنة لأفكار الإسلاميين ولا أي تبرير لأفعالهم. لكن الغرض مرض.

 

الوثيقة الدستورية كانت مصالحة مع الانقاذ

إذا أخذنا الفترة الانتقالية الحالية وما يجري فيها، فإن مصطلح "مصالحة" يجري فهمه كشيءٍ غير قائم حاليا. وهذا، من وجهة نظري، مجرد توهُّم عقلي يقفز، ببهلوانية ساذجة، على ما جري ويجري، حقيقةً، في الواقع. ودعونا ننظر إلى المسار التفاوضي الذي أنتج الوثيقة الدستورية، وهي الإطار الحاكم لما ينبغي أن يحدث في الفترة الانتقالية. بنظرة فاحصة محايدة إلى الوثيقة الدستورية، يتضح أنها، وما تأسس عليها من أفعال، لم يكن سوى مصالحة مع امتداد نظام الانقاذ داخل الفترة الانتقالية. هذا الامتداد الإنقاذي داخل الفترة الانتقالية، تمثله قيادات الجيش، والدعم السريع، التي كانت، حتى الأمس القريب، خادمة لحزب المؤتمر الوطني.

هلَّل لهذه الوثيقة المعيبة الثوار، بما فيهم الحزب الشيوعي، الذي شارك في التفاوض الذي أنتجها، حتى النهاية. وقد بوركت الوثيقة الدستورية من قبل الإقليم والمجتمع الدولي والمجتمع السوداني. إذن لقد بدأت المصالحة، فعلا، منذ البداية. ولسوف تتخذ صورة شاملة حين يسمح للإسلامويين بتسجيل حزبهم أو أحزابهم، عقب نهاية الفترة الانتقالية، ليخوضوا الانتخابات، شأنهم شأن غيرهم من القوى السياسية. فلو كانت الثورة مكتملةً حقًا، ومستوفيةً لأشراطها، وكانت لها قيادات تستحق اسمها، لصمدت حتى يعود الجيش والدعم السريع الى ثكناتهم، ويبتعدا تماما عن حقل العمل السياسي، ولوُلِدت، إذن، حكومة مدنية كاملة الدسم. فالقرار الإنقاذي والصوت الإنقاذي هما المسيطران، حاليا على الفترة الانتقالية. وهذا هو سبب "استغاثة" رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، التي أسماها "مبادرة". وقد برز هذا الصوت الإنقاذي المسيطر، كأعلى ما يكون، حين علَّق الفريق أول، شمس الدين الكباشي، على تفاهمات رئيس الوزراء عبد الله حمدوك مع زعيم الحركة الشعبية - شمال، القائد، عبد العزيز الحلو، قائلا إنها: "عطاء من لا يملك لمن لا يستحق". وهذا يعني أن قرار طبيعة الدولة، وهي، فيما يرى الكباشي، "دولة دينية"، يقع حصريا بيد العسكر، وليس بيد رئيس الوزراء.

الذي جرى، عبر المفاوضات الماراثونية، بين قوى الحرية والتغيير، وقيادات الجيش، انتهى، بسبب الصراعات البينية، واللهفة على الكراسي، إلى مصالحة مع نظام الانقاذ، ممثلا في الجيش، وفي شركاته التي تعمل خارج رقابة الدولة. وكذلك، مع قوات الدعم السريع، ومناجمها، وشركاتها، وعلاقاتها الخارجية، التي تجري، هي الأخرى، خارج رقابة الدولة. يضاف إلى ما تقدم، فإن هذه المصالحة القائمة، بنص الوثيقة الدستورية، منحت قيادات العسكر، وهم إنقاذيون حتى مشاش العظم، رئاسة مجلس السيادة في الفترة الأولى. بل، ومنحتهم الأغلبية العددية، بحكم رئاسة المجلس، التي تجعل صوت رئيسه صوتا مُرجٍّحا، عند تعادل الأصوات. يضاف الى ذلك، أيضا، ملأت قوى الحرية والتغيير مقاعد المجلس السيادي بشخصيات باهتة، ما لبثت أن أضحت ألاعيب في أيدي المكون العسكري، في مجلس السيادة. حتى أن بعضها آثر الاستقالة، لهول ما رأى من الضعة والتهميش. وينبغي أن نهمل الدعوات المتكررة من الصحافة الإلكترونية التابعة للمؤتمر الوطني، وفصائل الإسلامويين الأخرى، لقيادات الجيش للقيام بانقلاب والإطاحة بحكومة حمدوك. وهي دعوة ركب مركبها الحزب الشيوعي.

 

الحركات المسلحة "رصيد إسلاموي"

لاحقا، جرى تعديل الوثيقة الدستورية، بناء على اتفاق جوبا، وأضيف إلى المجلس أعضاء جدد يمثلون الحركات المسلحة. فازداد المدنيون، الذين جاءت بهم الثورة إلى المجلس، ضعة على ضعة، وتهميشا على تهميش. وبدأ هؤلاء القادمون الجدد، ساعة أن وصلوا، في الضرب على الحاضنة السياسية، التي أجرت المصالحة مع العسكر. رغم أنها هي التي هيأت لهم هذا المتكأ البارد والشراب. قام السيد جبريل ابراهيم زعيم جبهة العدل والمساواة، وهي جسم عسكري يربطه كثير من المحللين السياسيين بالمؤتمر الشعبي، أول ما وصل، بزيارة لمنزل الدكتور حسن الترابي لتقديم واجب العزاء. ثم ما لبث أن زار الشيخ الطيب الجد، خليفة الشيخ محمد ود بدر في أم ضوا بان، وهو إسلامي معرف منذ عقود. كما ذهب في مارس الماضي، لزيارة الدكتور علي الحاج محمد، الأمين العام للمؤتمر الشعبي بمستشفى يستبشرون بالخرطوم، وهو من الموقوفين بسجن كوبر في البلاغ المتعلق بانقلاب الثلاثين من يونيو 1989. كما قام السيد، جبريل إبراهيم، بزيارة للأستاذ ابراهيم السنوسي، رئيس شورى المؤتمر الشعبي، والمساعد للرئيس السابق. ورغم أن التواصل الاجتماعي بين السودانيين أمر عادي، إلا أن الرسائل السياسية وراء تلك الزيارات، لا يعمى عن دلالاتها إلا ساذج.

الشاهد، أن المصالحة التي فرضتها العجلة، وقصر النظر، وعبادة الكراسي، قائمة، عمليا، منذ أكثر من عامين. ولكن الدونكيشوتيون، الذين يتركون الواقع، ليعيشوا في التجريدات العقلية، وفي الأوهام، وفي العنتريات، وشن الحروب على طواحين الهواء، يخالونها لا تزال شرَا، بعيدًا، قادما. وعليهم، من ثم، أن يمتشقوا سيوفهم الصدئة، ليدرأوا شرها القادم. بإيجاز، المصالحة التي أتحدث عنها ولم أشرح ما أعنيه بها، بعد، ليست مصالحة سياسية، تُدخل الإسلاميين في "مولد" المحاصصات، القائم، حاليا، وإنما هي مصالحة تفاكرية معرفية، توعوية، لا مناص، من أن يكون الفكر الإسلامي الإخواني، طرفا فيها، في منصة للحوار الفكري، تحت مظلة ما شاع وأصبح يُعرف بـ "تجديد الخطاب الديني".

 

الإسلام السياسي لن تقتلعه الإجراءات

لا يمكن أن تقتلع قوى اليسار التي لا تعرف، سوى التعبئة العاطفية الفجة، والحشد الغوغائي، ونهج الثأرات، تغلغل الإسلامويين داخل المجتمع العريض. هذا أمر لا تنجح فيه الإجراءات القانونية والإدارية. وإذا لم يجر استثمار الفترة الانتقالية في حوارات مكثفة حول تجديد الخطاب الديني، وإحداث توافقات حول ديموقراطية الدولة المقبلة، وتعدديتها، وكفالتها التامة لحقوق الإنسان، وفق المعايير الدولية، فإن الردة إلى الوراء حتمية. ولسوف تأتي الردة، بعد نهاية الفترة الانتقالية، عبر صندوق الاقتراع. وما أود أن أختم به هذه المقالة الأولى هو، إنني لم أدع، ولن أدعو، لرفع الحظر عن المؤتمر الوطني، طيلة الفترة الانتقالية. ولم أدع، ولن أدعو، إلى الإفلات من العدالة لأي من رموز الانقاذ الذين يواجهون تهما جنائية، أو تهما بسرقة المال العام، أو استغلالا للنفوذ؛ على أي صورة كان. ما أدعو له، هو ما سأشرح حيثياته فيما هو مقبل من مقالات هذه السلسلة. (يتواصل)

 

elnourh@gmail.com

 

آراء