المعارضة السودانية .. تكَّس يرجع

 


 

 



الخطوة التي قام بها النظام السوداني في تقاربه مع دول الخليج وخصوصاً السعودية، ودخوله المباشر والسريع في حلف عاصفة الحزم ضد الحوثيين في اليمن، أربكت حسابات الكثير من المعارضين في الداخل والخارج، وكانت ضربة قاضية على من يعتمدون بشكل كامل، على العامل الخارجي في صراعهم مع المؤتمر الوطني والحكومة السودانية. وقد أتت هذه الخطوة لتفتح باباً طالما أُغلق في وجه النظام السوداني، خاصة عقب أحداث سبتمبر 2013، التي وقف فيها الخليج وإعلامه وربما مخابراته، ضد النظام السوداني بشكل صريح وواضح، حيث فتح ذراعيه للمعارضة في أكثر من مناسبة لترتيب أوضاعها للقيام بالثورة المنشودة على نظام البشير على نسق ما حدث لعدد من دول الربيع العربي. ومثلما كان إعلان باريس وما تلاه من تحركات وصولاً لنداء السودان بأديس أبابا في ديسمبر الماضي، مربكة لحسابات النظام السوداني، والذي كان الإمام الصادق المهدي صاحب سبقفي ترويجها على نطاق الخليج ومصر، فإن زيارة عمر البشير الأخيرة للمملكة العربية السعودية لم تكن مجرد عمرة أو حج لبيت الله الحرام كما في السابق، بل قلب البشير بهذه الزيارة، الطاولة التي حملت أماني بعض المعارضين بانهيار النظام تحت الضغط الاقتصادي، كما أطاحت كذلك، بعلاقات وطيدة مع إيران وصويحباتها من الجماعات التي كانت تتخذ من السودان مستقراً ومتكئاً ومقاما.


المعارضة تخسر جولة
ولنعد ترتيب الأوراق بشكل يجعلها سهلة القراءة، سنبدأ من النظام الذي افترض أن نجاح خطوته تلك في الخارج، سيبني عليها استراتيجيته في التعامل الوضع السياسي في الداخل، ذلك الافتراض الذي ظهر جلياً برفضه الذهاب إلى أديس أبابا للمؤتمر التحضيري بين المعارضة والحكومة والمقرر يومي 29-30 مارس 2015، حسب ما قررت ورتبت الآلية الأفريقية بقيادة إمبيكي،هذا على بالرغم من موافقته قبلاً على المشاركة، بل ربما لا نكون قد جانبنا الصواب إن قلنا، إن المؤتمر الوطني ربما بارك هذا المؤتمر التحضيري إبان زيارة إمبيكي الأخيرة للخرطوم، ولولا ذلك لما تشجع الأخير للمضي قدماً في ترتيبه لهذا المؤتمر، وغني عن القول، إن النظام نفسه، سمح بخروج قيادات المعارضة من صالة مطار الخرطوم، للمشاركة في مؤتمر برلين الذي كانت إحدى مخرجاته، تفويض حزب الأمة والجبهة الثورية للمشاركة باسم المعارضة في أديس أبابا وفي عمليات التفاوض؛ كل ذلك يجعلنا على قناعة بأن المؤتمر الوطني، وجد ضالته في عاصفة الحزم، للخروج من مأزق إمبيكي الذي ربما كان سيصعب عليه أموراً كثيرة، أولها قيام الانتخابات في 13 أبريل 2015.
إن المعارضة بشقيها المسلحة والسلمية، وبعد أن توحدت في نداء السودان، لاحت لها بارقة أمل في أن يرعوي النظام السوداني، ويجنح للسلم وفق شروطها هي، إلا أن النظام السوداني اعتقل قيادات شاركت في توقيع نداء السودان، كما أنه منع العديد من النشاطات التي كانت تصب في إطار الترويج للإعلان السياسي والسلمي المشترك بين قوى مدنية وأخرى تحمل السلاح، ولم يتوقف النظام عن إتهام الإعلان بأنه دعم للحركات المسلحة، بل ظل حريصاً على المواصلة في طريقه نحو إنتخابات اعتبرها المعارضون رفساً لنعمة المصالحة الممكنة من خلال الحوار. ما ظلت تتعامى عنه المعارضة هو هشاشة التحالف بين مكوناتها المختلفة، فالبعض يخفي خنجره تحت إبطه في انتظار لحظة سهو من الآخر ليطعنه نقمة، أو ثاراً من موقف تاريخي أو أيديولجي، ولا يتورع من استلال خنجره هذا، حتى ولو كان ممسكاً بيد أخيه في المعتقل منذ حين،  والبعض الآخر يضمر في نفسه زهواً بإرث تاريخي يظن معه أنه فوق الجميع، ولا يتوانى عن إظهار هذا الزهو وزجرهم به، حتى ولو كان هؤلاء الجميع، يحملونه فوق أكتافهم وبرضاهم وهم مبتسمون.
كما أن من الأشياء التي ظلت تتلكأ فيه المعارضة، بناء تحالف حقيقي بينها والشعب السوداني، بدءاً من تعطُّل عجلة البناء الحزبي في أغلب الأحزاب الكبرى، ووصولاً إلى الإصرار على وضع خطط وخطوط سياسية كأنها سراطٍ يجب أن يلتزمه الشعب دون أن يُشرك في تقويمه، فقد ظلت القوى المعارضة ولأزمان، غائبة عن تطلعات الجماهير ومطالبها، وذلك بوضعها برامج فوقية تعتقد في صحتها، على الرغم من أنها لم تأتِ كمساهمة من القواعد أو بإيعاز منها، بل إننا نكاد نجزم، بأن المعارضة ليس لديها دراسات واقعية وعلمية ومُحدَّثة، لتعلم حقيقة ما يريده الشعب السوداني، وهل السياسات التي تتبعها هذه القوى مرضي عنها من جانب الجماهير، أم أنها محض تهويمات لمجموعات المثقفين وعتاة السياسيين في الأحزاب، ثمَّ، هل الخطاب السياسي والتعبوي للمعارضة، يتماشى مع إرادة الناس وآمالهم، أم أنه خطاب عفا عليه الزمن وأصبح من ذكريات الستينيات والثمانينات؛ وأخيراً، هل لا زال هناك مجال لإقناع السودانيين بأن انتشار الفساد والاستبداد هو عامل مؤثر لدفعهم لاقتلاع النظام، أم أن هناك عوامل أخرى يمكن أن يُبنى عليها لصُنع التأثير المطلوب، خصوصاً في ظل تحول الفساد إلى مزاج عام في المؤسسات والمصالح الرسمية وغير الرسمية، بل في ظل تحوله في بعض الحالات، إلى علاقة تراضي بين الناس والناس؟! وهل يكفي الحديث عن تنامي روح الاستبداد وتمدد نطاق النزاعات والظلم واستطالة أمد السلطة، لكي يقتنع الشعب السوداني بضرورة ذهاب النظام، أم أن الحديث عن هذه المتلازمات أصبح مُضجراً للناس حتى باتوا لا يتوقعون حلولاً لها، بل باتوا يعتبرونه حديثاً ممجوجاً من أناس ممجوجين؟! ولتسأل المعارضة نفسها، ما الذي جعل الشارع يسبقها للخروج بشكل عفويفي سبتمبر، ليُقدِّم الشعب السوداني الشهداء أرتالاً دون وجود مُنظِّمٍ وموجهٍ لحركته، والسؤال الأهم، والذي كلما طُرح أمام القوى المعارضة أشاحت عنه وهو: أين المشكلة في إزالة نظام لم يعد يرغب في وجوده أحد، هل المشكلة في ضعف المعارضة وآلياتها وتكتيكاتها ورؤاها، أم في قوة النظام وحيله وتدبيراته؟!


إيران الحلقة الأضعف  
المسألة الثانية الجديرة بالاعتبار، هي أن النظام لم يعد بمقدوره اللعب على الكثير من الحبال، كما لم يعد بالإمكان كذلك، المراهنة على ضعف وضعه الاقتصادي، فقد وضعته عاصفة الحزم أمام مواجهة مباشرة مع حليفه الإيراني، كما وضعته أمام فتح اقتصادي متوقع من الخليج ودوله البترودولارية، وبالرغم من تصريحات قيادة النظام مؤخراً، والزاعمة بأن علاقته مع إيران كانت عادية ولا تتعدي العلاقات الدبلوماسية، إلا أن الواقع يكذب ذلك الزعم، فحسب العديد من الشواهد فإن قنابل الغاز المسيل للدموع والتي تُضرب بها التظاهرات في السودان إيرانية، وكما جاء في الأخبار من قبل، فإن بوارج حربية إيرانية رست لأكثر من مرة في ميناء بورتسودان، على الرغم من نفي الجيش السوداني لعلاقة ذلك بأي تعاون استراتيجي،بل إنه أعلن في آخر مرةإن زيارة سفينتين إيرانيتين للميناء السوداني عادية. إن تصريحات صدرت في وقت سابق، تؤكد على أن هذا التقارب لم يكن عادياً، فقد أكّد قائد البحرية الإيراني الأدميرال حبيب الله سياري في تصريح لوكالة فارس الرسمية في إيران،نقلته صحيفة الاتحاد الإماراتية، إن توحد إيران والسودان هو لمواجهة ما أسماه «العدو المشترك لهما» وذلك خلال زيارة مسؤول سوداني. وأضاف قائلاً إن "اتحاد وتلاحم إيران والسودان في مواجهة العدو المشترك والقوى الخارجية يحظى بأهمية كبيرة، ومن شأنه الإسهام في هزيمتهم في الميدان". ومن الجانب السوداني صرحالعميد دليل الضو محمد فضل الله، إن زيارته لطهران تأتي في إطار تعزيز العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، مؤكداً التوصل إلى اتفاقيات مع القوة البحرية الإيرانية، للاستفادة من بعض أجهزة ومعدات هذه القوة لضمان الأمن في سواحل السودان. وأشار إلى أنه سيختتم زيارته لطهران بإبرام اتفاقيات متميزة مع سلاح البحر الإيراني بحسب صحيفة الاتحاد الإماراتية الصادرة في 11 مايو 2013. 
وعلى الرغم من منع مرور طائرته فوق الأجواء السعودية في طريقها إلى إيران في أغسطس 2013، زار الرئيس السوداني السعودية في أكتوبر 2014، وجاء في الأخبار أن البشير أكد تحسن علاقات بلاده مع السعودية ومصر بقوله "أحرزنا اختراقاً كبيراً بزيارتنا الأخيرة الناجحة إلى الشقيقة السعودية والشقيقة مصر، وسيتبع ذلك تطورات إيجابية أخرى".  وعلى الرغم من اتهام صحف خليجية وقتها لتصريحات البشير هذه بأنها مجرد مناورات وتاكتيك مفضوح، إلا أن قراءات أخرى عدَّته في إطار البراغماتية التي اتّسم بها النظام السوداني خلال أكثر من عقدين، هذا على الرغم من تصريح البشير لصحيفة الشرق الأوسط في 11 أكتوبر 2014 بأنهم ليس لهم علاقة استراتيجية مع إيران وحيث أضاف: «شرحنا رؤيتنا وحقيقة علاقتنا مع طهران، بأن كل المعلومات التي كانت ترد للقيادة السعودية في هذا الإطار كانت مغلوطة ومصطنعة ومهوّلة ومضخمة، فانهارت بإصدار القرار الأخير بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية والذي اتخذناه كخطوة استراتيجية وليس تمويهاً على الخليجيين».يذكر أن مراكز ثقافية إيرانية في السودان كانت قد أغلقت في سبتمبر 2014 في بادرة أعتبرت بداية لقطع العلاقات أو ربما تجميدها بين البلدين. وفي هذا فمن الواضح أن العلاقة مع إيران كانت تقع بين رأيين داخل النظام السوداني، رأي معها ويرى فيها حماية من محاصرة المجتمع الدولي للنظام، وآخر ضدها حيث يرى أنها غير مفيدة البتة بل إنها ورطة وامتحاناً للنظام واستمراره، وهو الرأي الذي غلب إبان زيارة البشير للسعودية والتي سبقت إعلان موقف السودان الداعم للسعودية في مواجهة مجموعة الحوثيين المدعومة من إيران وحزب الله. غير أن الشاهد في الموضوع إن موقف البشير هذا، يتسق مع محاولة تحلله قبلا،ً من أي إتهامات تتعلق بإقامة علاقات استراتيجية مع إيران، بل أشار إلى أنه ليس هناك فائدة جُنيت من إيران على العكس من السعودية، وذلك في قوله للشرق الأوسط إن السودان تعرض لأزمة اقتصادية ما بعد الانفصال وإن السعودية هي التي وقفت بجانبهم وقال إن السودان لم يتلقَ من إيران أي مساعدات، ولا فلسا واحدا، إذ كانت كلها وعود لم تنفِّذ منها واحداً. 


هل تعتني أفريقيا برجلها المريض
إمبيكي ومجموعته أيضاً يعتبرون في موقف محرج، ليس لكونهم فشلوا في جذب حكومة السودان لطاولة المؤتمر التحضيري الذي أعلنت عنه، بل لكونهم سيفشلون في إقناع الإتحاد الأفريقي بإتخاذ موقف حاسم من تجاهل حكومة السودان له ولقراراته خصوصاً القرار456. ما يدركه القاصي والداني أن الدول الأفريقية، ترى في نظام الخرطوم مرآة تعكس ما تتطلع إليه بعض الأنظمة الأفريقية، فنظام الخرطوم نجح في الاستمرار بنهج غير ديمقراطي لأكثر من 25 عاماً، وهو ما فشل فيه العديد من أرباب الفساد والدكتاتوريات في العالم الأفريقي فيما عدا الرئيس الزمبابوي روبرت موغابي. الدول الأفريقية متنازعة بين حماية سلطاتها المهيمنة، وبين إرضاء المجتمع الدولي الذي يجدون منه الدعم ولكن وفق مطلوبات محددة، أهمها فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، وتحقيق مستوى مقبول من توفير الحقوق للمواطنين، التي ربما لا تكون من بينها أو أولوياتها الحقوق السياسية. الرئيس الجنوب أفريقي السابق ثابو إمبيكي، ووفقاً لمعطيات عديدة، وطيلة عمله في ملف السودان، لم ينجح ولو لمرة واحدة في الوصول إلى مبتغى مهمته الموكلة إليه، وعلى الرغم من ذلك، تصر الدوائر الغربية والإتحاد الأفريقي، على مواصلة عمله الذي ربما لا ولن ينتهي، وفي هذا فقد طالته العديد من الإتهامات التي ربما كانت سبباً من قبل، لأن يستقيل المبعوث الأممي مسعود بدرين من منصبه، هذه الإتهامات تتوزع بين أنه طالما أذعن لما يريده النظام، وفي مرة أخرى بأنه يعتبر مهامه في السودان جرورة لأكل العيش!
نأتي في خاتمة هذا التحليل إلى التذكير بأن النظام السوداني كان على الدوام حريصاً على إرضاء المجتمع الدولي وبأي شكل، فكم من مرّة أذعن النظام السوداني للمجتمع الدولي، وقبل الضغط والتسويات في أمور كانت في السابق خطاً أحمراً للنظام وأيدلوجييه، وكم من مرة كُشفت صفقات كانت قد تمت تحت الطاولات، في وقت كان المجتمع الدولي وأمريكا تحديداً، تُهدد باللكم والركل من فوقها، وكم من زيارات تلتها زيارات، كانت نتائجها غير معروفة ولا معلنة! أما بخصوص إيران، فقد شهد العام المنصرم، تذبذباً في علاقتها مع السودان، بل كان واضحاً أن وزارة خارجية النظام بقيادة علي كرتي، كانت ضد أي تقارب مع إيران بحسبان أنه يضع النظام في خانة الخسارة، هذا على الرغم من وجود قوى داخل النظام كانت تحاول المواصلة في طريق هذا التحالف، والواضح من خلال مجريات الأحداث، أن علي كرتي ووزارته، نجحا في جرِّ النظام نحو الخليج عوضاً عن إيران. هذه القراءة، عجزت بعض القوى السياسية المعارضة عن رؤيتها،فموقف بعضها المبني على تعثُّر علاقات السودان خارجياً لم يكن موفقاً، حيث ثبت أنها وضعت بيضها في مرمى حجارة القوى الخارجية والنظام، بدلاً من أن تضعه في سلال الشعب السوداني. إن على المعارضة الآن أن تقوم بإجراء((تكِّس يرجع)) وهي وضعية الرامي في لعبة ((البِلِّي)) الشعبية الشهيرة، في حال رميه الجُلّة(الضرَّاب) بشكل خطأ من أمام عينه بهدف ضرب البلِّية الصغيرة على خط اللعب بالأرض، وفي ذلك فهي أمام خياران لا ثالث لهما: إما الرجوع للشعب السوداني والجلوس بأدب ومواجهة المعاناة والتواجد أمامه تحت كل الظروف، ومن ثم بناء تحالف حقيقي معه مبني على احترام دوره والإيمان بقوته وقدرته على التغيير، وكذلك بناء تحالف حقيقي بين مكونات هذه القوى تأسيساً على الاحترام المتبادل وكنس آثار الماضي بل محوه، أو التسليم للنظام الحاكم بما يطرحه من تسويات وتسويفات ستطيل أمده، وسيطول معها انتظار التغيير.
baragnz@gmail.com
/////////

 

آراء