المغّرب بخط علي بدّو

 


 

 

 

دول مثل المغرب وتونس والجزائر وليبيا ومصر ولبنان وفلسطين وسوريا والعراق واليمن. كلها دول تطفلّت عليها امبراطوريات كانت تأمل في ضمها واستعباد أهلها. وحتى وطننا السودان لم يسلم من استعمار تلك الامبراطوريات. أثر وتأثر بها. لكن لوطننا السودان يدٌ سلفت في المساهمة الإنسانية، فحضارة كوش، شمال السودان وجنوب مصر الحالية، قد دخلت العصر الحديدي، بينما لم تزل مصر في العصر البرونزي!. تركت الامبراطوريات إرثا في العمارة، وبعض تقنيات الزراعة وتجميل الحدائق، وكيفية نقل مياه الري. أورث البلدان التي ذكرنا سبيلا للسياحة وتسويق التاريخ تجاريا. بينما ثقُلت الأعباء على الأجيال القديمة.

*
تميّزت الآثار الرومانية بالحجارة والرخام، وهي من الآثار المعدومة في إفريقيا جنوب الصحراء. فلم يبق من الآثار في ماض مُسجّل بالطين والخشب. إن للمادة الحجرية عنصر البقاء على مرّ التاريخ، إن كانت مكونّة من الحجارة والرخام والفسيفساء. إن المعابد والتماثيل في شمال الوادي وتكوينات الأعمدة والأقواس والجسور والتوابيت. وكانت العمارة اليمنية كذلك سابقة عصور العمارات في الدنيا.
لم تكن الصحراء الكبرى، صحراء منذ القدم، بل غابات زاخرة بالحيوانات من الفيّلة والزراف والنعام والأسود. كانت غابات منذ آلاف وملايين السنين. فقد دامت الديناصورات أكثر من 164 مليون عام . وقد تطور الإنسان منذ عهد قريب، ولكن في آثار ورسومات الكهوف في جبال الصحراء، نجد النعام والزراف ووحيد القرن والفيّلة، فقد كانت التغيرات تلك مصاحبة لوجود الإنسان واستطاع رسمها في حوائط الكهوف.
(2)
في محاضرة لأحد محاضري منتدى السودان الفكري، قد أوضح المحاضر أن هنالك رافدا لنهر النيل يأتي من غرب السودان لمنطقة بعد مدينة الدبّة الحالية، في زمن ماضي.
لم تستطع دولة الفونج التي امتد حكمها أكثر من ثلاثمائة عام، من أن تحفظ لنا أثرا معماريا خالدا عبر العصور. وقد ذكرت كتب التاريخ أن روما زمان الملك نيرون، قد أرسلت بعثة استكشافية توطئة لغزو مملكة الفونج، وتم صرف النظر عن الغزو بسبب عدم جدوى الاستيلاء على تلك البلاد.
*
نحتفظ اليوم ببعثة آثار تقوم بزيارة شمال السودان، تنقب عن غوامض الآثار. انكشف البعض وظلت التربة غامضة ومجهولة بما تكتنز. وسط عدم وجود أثر للبنية التحتية للسياحة. فنجد الإخوان المسلمين، الذين حكموا السودان بعد انقلاب 1989، أنهم قد غيروا من نظرتهم للآثار وقد تطورت نظرتهم، فقد قاموا بالتعاقد مع تركيا الإسلامية لتأهيل مدينة أركويت ودولة قطر لآثار الشمال!. بينما تراجعت السياحة في كل السودان، وتجمع هواة الصيد البري من الدول الإقليمية، لتجريف الحياة البرية في السودان!.
*
عام 1896 يبلغ سكان الخرطوم 250 ألف نسمة، وخمسهم من السودانيين والآخرون من الأتراك والمصريين والسوريين والمغّاربة بين تونسيين وجزائريين ومراكشيين. و20 عائلة فرنسية و15 أسرة إيطالية و40 عائلة نمساوية. و100 عائلة يونانية و20 عائلة روسية وعشرة عائلات من الأرمن. ولك أن تعلم الذي يربطنا بالمغاربة وهجرتهم للسودان.
*
بين تاريخ 1492عند سقوط الأندلس وتاريخ بداية مملكة الفونج 1504 أكثر من سؤال:
ربما يكون سقوط الأندلس من معركة تدمير سوبا وقيام مملكة الفونج اثني عشر سنة صدفة في التاريخ. ونتصوّر هجرة الموحّدون المغّاربة بعد هزيمتهم في الأندلس، من جراء الحرب الصليبية شرقا إلى السودان لم تكن صدفة، بل إلى هزيمتهم في الأندلس، ومن ثمة هجرتهم بسلاحهم ودوافعهم الحربية إلى نصرة الأهالي المسلمين في السودان لينتقموا من علوة المسيحية. ومن هنا يمكننا أن نتصوّر أن مقتلة سوبا( حريق سوبا) :التي تذكرها الأغنية الشعبية (دخلوها وصغيرا حام).لم تتم إلا بنصرة المغّاربة. الذين انتشروا في السودان مستوطنين، ولأنهم غرباء على السودان، لم يتسلّقوا السلطة. انتشروا مستوطنين في مناطق العركيين والخرطوم وغيرها. وهي فرصة للمنقّبين في مجاهل التاريخ لإزاحة الرُكام عن حقائق التاريخ.
(3)
مساحة المغّرب وتشتمل على إقليم الصحراء الغربية (710.850 كيلومترا مربعا). ونظام حكمه ملكي برلماني. يعتمد اقتصاد المغّرب على محصولات الغابات من شجر الزان والأرز والصنوبر، وصيد الأسماك ودباغة الجلود والنسيج والصابون والمطاط والورق، واعتمد على السياحة. المغّرب غنيٌ بمعادن الحديد والفحم الحجري والرصاص والمنجنيز والنحاس والزنك والقصدير والكوبلت. مناطق المغّرب في حدود البحر المتوسط وجبل طارق والبحر الأطلسي. ينقسم جزء من أرضه إلى سلسلة جبال أطلس ( الكبير والمتوسط والصغير).وتنقسم أرضه الأخرى إلى سواحل وصحراء. نال البلد استقلاله عام 1956.
(4)
رواية أحد المغّاربة الذين هاجر أهلهم من المغرب إلى فرنسا ووُلد هناك:
إنها قصة رحلة، عودة إلى الوطن. اسمي علي بدّو، أعيش في فرنسا حيث وُلدت ،لكن أرض أسرتي وأجدادي، وموسيقى اللغة العربية والألوان الفاقعة الأولى وأنوار الطفولة، هي بالنسبة لي المغّرب. لقد جُلت في المغّرب، وسافرت فيه وضحّكت وبكيت وأحببتُ أيضا، لكني أعرف أيضا أن المغّرب يغدو مفاجئة وسرّا غامضا. يتوارى المغّرب عن أنظار عينيّ كما توارى للعديد من الرحّالة قبلي في الصوّر. صوّر المشاهد الخلّابة، صور الأزقّة والمدن القديمة، لقد تجوّلت فيها أنا كذلك، يتبدّى المغّرب كمملكة تقاليد، لكنه أيضا بلد توغّل بكل ثبات في الحداثّة. يراه البعض وأنظارهم سارحة في الأفق البعيد كبلد بحّارة تقصف به المياه، بينما ظن آخرون أنهم وجدوا حقيقة المغّرب في جبال الأطلس ووديّانه. المغّرب بالنسبة لعلماء الجغرافيا القدماء، هو البلد الذي تغرّب فيه الشمس في أقاصي العالم العربي. تضعه الخرائط على مشارف أوروبا وهو إلى ذلك بابٌ مفتوح إلى أغوار القارّة الأفريقية، ماذا لو كان هذا البلد يحمل الدروب كلها الخفيّة. إليكم قصة هذا البحث، إليكم قصة رحلة، فلننطلق معا لاكتشاف المغّرب. المغّرب من أعلى.
بماذا نبدأ؟
لما لا ننطّلق من حيث بدأ كل شيء. بعيدا عن البحر، على جروف مرتفعات زرهون المتاخمة للريف، حيث وُلد المغّرب. في هذه المدينة الصغيرة التي نخالها متشبّثة بالقمم الصخريّة، يشهد كل شيء على وصولنا للدولة المغّربية. تروي مدينة مولاي إدريس قصة تلك الأزمّنة القديمة. كان ذلك في أواخر القرن الثامن الميلادي، عندما جاء هذا السليل للنبيّ الفار من الشرق ومن الاضطهاد، ليجد ملاذا في تلك الأراضي الامازيقيّة النائية. لا تزال مدينة مولاي إدريس حتى اليوم محجّا.

نعبر هذه البوابة لنتأمل ضريح مؤسسي أولى السّلالات والمعاهد والمدارس القرآنية. يقصده البعض للإيمان والتبرّك لولي من سلالة النبي، ويتسلق آخرون جروف مولاي إدريس ليتأملوا السهول، وفي مستوى أدنى مدينة أكثر قدما مليلة، التي عاشت أكثر من عهد، ومحيى نقرأ في أنقاضها ونتصفّح كتابا في هذه المدينة المزدهرة للإمبراطورية الرومانية. عاش الامازيق واليهود والمسيحيون ثم المسلمون، لا زلت استشفّ روعة الأبنية، تلك الأرضية المزيّنة بالفسيفساء، كل منها يروي قصة. هنا أعمال هرقل الاثني عشر، ذلك البطل المغّربي لحدٍما. هرقل البطل النصف إله في ميثولوجيا الإغريق، الذي جاء إلى هذه البقاع، ليهزم الأطلس العملاق والذي فصل نهائيا إفريقيا عن أوروبا. هرقل الذي غيّر كل شيء. في وليلي نفّاجا أيضا. الآلهة هاديانا وهي تستحّم وسط الحوريّات. لا زالت هذه الأنقاض تحكي لنا تراكم المعتقدّات، من آلهة وأساطير إلى بقايا مسيحيّة. وكلها آثار لذلك الرابط العميق بين جذور المغّرب وثقافات بحر المتوسط وحضاراته.

المغّرب راسخ في إفريقيا ولكنه أيضا أوروبي إلى حد كبير، لأن المغّرب بدرجة كبيرة متوسطي في العمق ويشهد كل تاريخه على ذلك، كل السلالات التي تعاقبت عليه، بعد مولاي إدريس وليلي فإن أفضل مكان نصعد فيه الزمن نجده في مكناس وفاس. مكناس منافسة فاس، مدينة أبي. في اللقاءات العائلية يشكل هذا التنافس موضوع نزاع، وتكون كل الذرائع صالحة للجّدل والضحك بين المدينتين الجارتين. الاختلافات في وصفات الطبخ، وفوارق في الطبائع أو التقاليد. مكناس حاضرة امبراطورية، إنها العاصمة السابقة لمملكة امتدت من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر السنغال، وكما أن مدينة فرساي تحكي تاريخ لويس الرابع عشر، فإن مكناس تحكي معاصري مولاي إسماعيل، تتخيّل الماضي في مكناس وتتخيل أبّهة الماضي والقنوات التي كانت تروي الحدائق أو الحمامات. عندما نتخيّل الاسطبلات المنهارة اليوم، كانت قادرة على استيعاب عشرة ألف حصان فيما مضى، كان ذلك بمثابة طور، رأيت هجمّة خيّالة مقبلين على عدو وهمّي، رأيت الفنتازيا، لا تزال فُرق الفرسان تحمل أسماء مجموعات عرقّية قديمة مثل مورو وزعايير والحامدة، هذا الاستعراض للقوة والاندفاع والشجاعة، تلك الجياد التي نخالها مستعّدة للتحليق ألهمّت الفنانين والمستشرقين منهم الرسام الفرنسي ديلاكروا. الفنتازيا ليست الحرب بل لعبة، وهي تُعرف أيضا باسم لعبة البارود، هذه الاستعراضات هي اليوم أكثر من مجرد فلكلور، إنها وسيلة للتحكّم في العنف، ووسيلة للمجاهرة بفخر الانتماء. جزء آخر من التاريخ والجغرافية، حاضرة امبراطورية أخرى فاس، مدينة أمي.

أردت التجوّل في الأزقة الضيّقة في فاس، المدينة القديمة وعرض بعضها خمسين سنتمترا. متاهّة فوضاها ظاهريا فقط، للتنزّه في فاس عليك أن تستسلّم وتنسجم مع عنصر المفاجئة، في قلب المدينة يطالعك جامع القرويين، الذي يأوي واحدة من أعرق وأولى الجامعات في العالم. تحت أسقفه الزمرّدية توجد رائعة من روائع العمارة والزخرفة. يمكن أن تتسع لعشرين ألف مصلّ. جامع القرويين أحد المراكز الفكرية والروحية الرئيسة في الإسلام، تأسس في القرن التاسع على يدي امرأة، هي فاطمة الفهرية. يقال إنها استثمّرت فيها كل ثروتها. المدينة القديمة نظام بيئيّ هشّ. وفي سبيل حمايتها صنّفتها اليونسكو تراثا عالميا. منذ بضع سنوات بدأت المدينة القديمة تنبعث من جديد. فقد رُّممت صروحّها وبيوتها واستعاد سكانها اعتزازهم بالعيش فيها. لقد أُنقذت المدينة القديمة، وقد أُنقذت تقاليدها أيضا. كعمل أولئك الدبّاغين يرقى بعضها لمئات السنين. عملٌ قاس ومُرهّق، والروائح بعيدة عن البيوت السكنية، وقد استخدمت الأصباغ الكيماوية المستحدثة، ولكنها لا ترقى للأصباغ الطبيعية التي تستخرج من نباتات المغّرب أو تربتّه، يظن أولئك الدبّاغون ذكر أجمل ما في الحرف المغّربية، حتى صناعة البوارج وسروج الخيل وصولا إلى المخطوطات النفيسة. ينير هذه المهارات تراثا لا زال حيا حتى اليوم. فاس هي نموذج الحاضرة في المغّرب، حتى أن سكانها يكتفون بأن يقولوا المدينة بالإشارة إلى فاس. إنها صورة مصغّرة من هويّة البلد، أين هويّة المغّرب في النهاية؟، لا شك أيضا في تلك الأرض أيضا مزارع الحبوب التي تشكّل واحدا من كنوز المتوسط الذي كاد المغّرب أن يحتويها. الحبوب هي أساس المطبخ المغّربي، يستخرجون قلب الحبة للدقيق الفاخر للباستيلا، ويهيئون القمح الصلب للكُسكُس. لكل منطقة خضرة، الشعير والقمح بطبيعة الحال، بنوعيه الصلب والليّن هما من المواد الأساسية التي لا غنى عنها لتحقيق الأمن الغذائي. لكنهما وللأسف شديدا التأثر بالتقلبات المناخية، بين سنة جديدة وأخرى سيئة، لا يزال المغّرب يستورّد كميات منها لتغطية احتياجات المغّاربة. ثاني أشهر النباتات بالتأكيد إنها طماطم المغّرب، ما ينبت مخصص بالدرجة الأولى للسوق المحلّية، نجد الباسيلا والعدس والفول، والقرنيات التي شكّلت الغذاء الأساسي للإنسان في هذه البقاع من العالم.

لا غنى عنه أيضا السُكّر، ولا زال يقدّم في المناسبات العامة، إنها طريقة في مشاطرة الفرح، وفي حالة الوفاة فان السُكّر يخفف الألم. يقول المثل ( الما طاب والسُكّر ما صاب) ، مستحيل أن نتخيّل الشراب بالنعناع بدون السُكّر. غير أن هذه الجملة تخفي فلسفة حقيقية، قد نظن أننا نملك كل شيء ،ثم نفقد ما هو أساسي فلا نعود نملك شيئا. في الأرياف فإن المنطّق الذي لا نقدر عليه أنه السوق، السوق الأسبوعي. حتى في زمن الهاتف الجوال والانترنيت، فإن السوق بحد ذاته شبكة التواصل الاجتماعي للحصول على أخبار الأقارب. فنتحدث عن المطر المنتظر والمألوف. المطر إنه أمر حاسم قطعا، في بلد معرض باستمرار للجفاف، فهو الذي يملئ أو يفرّغ الأسواق وهو الذي يقرر القحط والازدهار. في السنوات التي تشحّ فيها الأمطار، تشكل القطعان محميّة الناس، وحفظ المدخرات، لهذا السبب يقال عن الفلاح أنه راع قبل كل شيء، لفترات طويلة خلت، أن تقديم اللحم غير لحم الخراف يعدّ إهانة، لقد تغيّرت الأمور بطبيعة الحال ولكنه أمر لا مفرّ منه للاحتفالات والأعياد، تردت الأمور ولكن لا يزال نصف السكان يعيشون على الزراعة والرعي، لإطعام 35 مليون مغّربي. اترك عالم الأرياف لحياتهم ومفاوضاتهم.

في الطريق ينكشف المغّرب و لا تشكل السهّول الزراعية سوى جزء صغير من البلد، وأرض من الوسط تحتلّها سلسلة جبال طويلة إنها جبال أطلس، وفي الجنوب الصحراء وعلى طولها كجدار المحيط الأطلسي. عبر هذا الطريق تستمّر مدنا أسطورية كأصيلة والرباط والدار البيضاء. المحيط الأطلسي على مد العين للنظر جنوبا، شواطئ من الرمال الناعمة. وبحيرات ومدن مأهوّلة منذ العصر الروماني. وكلها بمثابة آثار خلّفها المؤسسون المغّاربة والإسبان والبرتقاليون والفرنسيون. لطالما كانت المدن القديمة على الواجهة البحرية مهددة، والحق يقال إن العدو يأتي من المحيط. وتحكي أسوار كأسوار أصيلة تلك الساعات في التاريخ التي كان يتعيّن فيها للتاريخ، تأتي باستمرار للتصدي للهجمات القادمة من البحر. كان ذلك جزء من الحياة. أصبحت أصيلة مدينة رسميّة للرسامين، الذين يتخذون كل عام أثناء المهرجان قماش رسم، ويحولونها إلى تحفّة فنية زائلة. ترويض البحر والتعايش معه بهدف التغلب عليه من قبل المغّاربة ومنذ فترة طويلة خلت يسمون المحيط الأطلسي. وهو واجهة على المحيط تمتد 3000 ألف كيلومترا، فلا عجب أن تكون الحياة والتقاليد والحكمة الشعبية وحتى القداسة مرتبطة بالمغّرب مع البحر في غالب الإمكان.

في القرنين الخامس عشر والسادس عشر كانت محاكم التفتيش تدين المغّاربة الذين يسعون إلى تعلّم تقنيات الملاحة والتحكم بها. وما كان محظورا عليهم لأن هذه المعرفة كانت حكرا على المسيحيين وحدهم. اليوم تنقل هذه العملية من جيل إلى آخر، النجارة وبناء السفن التي تزيّنها رسومات ونقوش لحماية السفن من عين الحسد وسوء الحظ. رأيت مدينة الرباط كما لم أرها من قبل، مشيت في الأزقة المصبوغة بالجير الأبيض والأزرق بقصبة البداية، حي استمد اسمه من قبل مدينة قديمة. مشيت بمحاذات الأسوار حتى برج القراصنة، الذي يذكّر بماضي القرصنة في الرباط، أولئك البحّارة الذين كانوا يمخرون عُباب البحر دون خوف، في القرن الثامن عشر يصلون حتى آيسلاندا، وجدت ملاذا في الحديقة الأندلسية كأن الزمان توقف فيها، مدينة القراصنة ماثلة في كتب التاريخ والحكايات. والأذهان فاليوم فإن الرباط عاصمة المغّرب كدولة مستقلة، توجهت إلى قبر أبو الاستقلال المغّربي الملك محمد الخامس، هذا الضريح ذو الرخام الأبيض الذي يأويه هو وولديه، يطلّ على نهر أبي الرقرّاق، أعجبت بصومعة حسّان، في القرن الثاني عشر كان سيدها يعقوب المنصور. كان يتوق إلى أن يجعل منها أكبر مسجد للعالم الإسلامي في الغرب. وحدها المئذنة نجت من الزلزال الرهيب الذي ضرب المنطقة عام 1755. التاريخ الكبير ثم الصغير... قصة. توجّهت بعد ذلك للصلاة على قبور أقربائي في مقبرة الشهداء الكبيرة، المحاذية للمحيط. تغيّرت مدينة طفولتي كثيرا، ولم تعد تلك المدينة الجميلة النائمة التي كنت أقضي فيها أيام العطلة. لقد أصبحت مدينة حديثة، ترى الترماي يربطها بأختها التوأم . أمامنا مدينة سيلا، من بعيد يظهر جسر محمد السادس، إنه أطول جسر معلق في إفريقيا. وهو يفتح الرباط على المغّرب بأسره. يوحي هذا الجسر أكثر ما يوحي به، في طور التغيير نجتاز مرحلة جديدة.

بعيدا عن التصور الساذج عن صورة البلد الجامد في تقاليده. قادنا للمملكة في غمرة التطور، على طريق الدار البيضاء يوجد طريق شاطئ بوزنيقة، حيث نبا أثريا المدينة بيوتا فخمة وضخمة للاستجمام، حلّت هذه الفيلات الكبيرة محل الأكواخ الخشبية التي يرجع تاريخها إلى عهد الحماية، يمكن أن نجد هذه المنازل في شاطئ قريب وهي معرضة للتعرّية ولحركة المد والجزر. المغّرب ورشة كبيرة في الهواء الطلق، ورشة من المساكن والبنى التحتية والمشاريع الكبرى، والرمل مكون أساسي للباطون. فلا بد إذن من الرمل. يصعب التصديق بأن الرمل أصبح منتجا استراتيجيا نادرا ومطلوبا. إن العمل شاق بالنسبة إلى أولئك الذين يجمعون هذه الرمال المشبّعة بالمياه وبالتالي والسيروّز والسردين والناسي والاخطبوط والأسماك المصطادة، نجد أنها في الأطباق في أوروبا حتى جنوب شرق آسيا واليابان، منذ بضع سنوات بدأت مكافحة الاستغلال المفرط والدورات الحيوية وتحسين ظروف العمل على متن السفن، لكن المنافسة قاسية والعالم بأسره يأتي ليصطاد قبالة الشواطئ المغّربية، هذه العولمة نفسها هي التي تأمّن لقمة العيش لصيادي الطحالب والذين يستنفدون في الوقت نفسه مواردها، حتى متى يمكننا أن نرى مثل هذه المشاهد، الطحالب الحمراء ليست ثروة لا يمكن الاستفادة منها بلا حدود، هذه الطحالب التي تجمع وتجفف في الشمس، وتستخدم في الأسمدة وصناعة التجميل وتستخدم في مادة الغراء، وهي مخصّب نباتي تستخدمه الشركات الزراعية النباتية، الطلب عليها شديد، إلا أن القليل من هذه الهبة السماوية، سيعود إلى أولئك الرجال والنساء الذين يجمعون هذه الطحالب بضعة أشهر في السنة، أكملت الاتجاه جنوبا، وشعرت بالرياح التجارية ورأيت الجديد إحدى روائع المحيط الأطلسي، مدينة الصويرة. الصويرة تلك المدينة القائمة بين عالمين، والتي تعيش على إيقاع الموسيقى القناوّية كالانصهار الفاتن للثقافات والايقاعات تتجه نحو الصحراء.

لفترة طويلة خلت كانت قافلة من 10000 بعير تربط الصويرة بتمبكتو، وتدفع بمحطات دفعها حتى سالومي في السنغال. تجوّلت في الملاّح، حي لا يزال يحتفظ بذكرى الثقافة اليهودية البالغة الأهمية في المغّرب، تشهد الجدران والمنازل القرن التاسع والعاشر المجيد، عندما كانت المسميات حينذاك ميجادير، قلب التجارة الدولية. الذهب والأنسجة وريش النعّام لزينة سيدات المجتمع في أوروبا والعبيد أيضا. كانت السلع كما الناس تمر أيضا من هذه الشوارع، وربما من الأبواب لتُرسل إلى الولايات المتحدة أو إيطاليا أو امستردام أو لندن، في تلك الفترة كان اليهود تحت حماية السلطان، وكان تجّار العالم بأسره ممثلين بينهم. تحمل الأحياء اليهودية في سائر أنحاء المغّرب اسم الملاّح نسبة للملح، فقد كان عدد أنشطة التمليح وحفظ الأطعمة حكرا على اليهود المغّاربة، خلال قرون عديدة التصقت تاريخ المغّرب بهذه التجارة، عندما كان الملح ضمن مبادلات المتوسط وصولا إلى جنوب الصحراء الكبرى، الملح مقابل ذهب غانا. أردت أن أرى العمل الشّاق لعمال الملح، هؤلاء الرجال الذين يعملون حفاة حتى لا يتلفوا سدود المستنقعات، أقول في نفسي إن هذه المشقّة المختلفة وجميع هذه الطبقات لا تحكي إلا القصة نفسها، قصة بلد أوجد نفسه عند ملتقى طرق تجارية كبرى.

يشكل الملح بالفعل مرحلة من مراحل هذه الرحلة. هذه المرّة يبتعد البحر الأبيض المتوسط عن حق حقيق. الملح ونسيم الصويرة ينبئان بإفريقيا. أصل بعد اجتياز 2000 كيلو مترا، وللساحل نشعر بنسيم جديد. تركت الصويرة للتوغّل بعيدا في الجنوب إلى أبعد من أغادير نحو الشواطئ لمنطقة سيدي يفني، كان قوس الكزيرة مرة أخرى، القوس الذي نراه لم يعد موجودا فقد قضى عليه التآكل، إن رصّ الخطى ليس بهيّن. خلدت للهدوء والسكينة لمنتزه خنيفيس الوطني، يتلاقى فيه المحيط والصحراء والبحيرات الشاطئية. آلاف الهكتارات البريّة وللحيوانات، إنها طريق لمرور الطيور القواطع لتحاذي المحيط الأطلسي. وتقودها هذا الطريق إلى جنوب إفريقيا. شكّل هذا الساحل أيضا معلما للناس، وشكّل خنيفيس محطة للطيور التي تتبع الشاطئ كي لا تضيع. كانت فرصهما الوحيدة لعبور الصحراء. أكملتُ طريقي حتى العيون، وكنت في ذلك أضع خُطاي من جديد، في خطى التاريخ، فقد انطلقت المسيرة الخضراء من طرفّاية عام 1975، يعرف جميع أطفال المغّرب هذه الحقبة عن ظهر قلب، هذه المسيرة السلمية الكبيرة حملت 350000 مغّربي حتى مشارف الساقية الحمراء، مسيرة حررت تلك الأقاليم الجنوبية من الاحتلال الإسباني. شهدت مدينة العيون في العقود الأخيرة تطورا سريعا، وأصبح المعسكر الصغير الذي يرقى لفترة الاستعمار المركز الحضري الرئيس في النوحي الجنوبية، وازداد عدد بأكثر من الضعف خلال أكثر من أربعين عاما. حول ساحة المشوار الكبيرة توسعت المدينة ببناها التحتيّة ومصارفها ومرافقها الإدارية وشركاتها، كيف يمكن أن نتصور المدينة القائمة في الصحراء، فكرة ليست بالبعيدة عن القوافل البدو، التي انطلقت في السنوات الأخيرة، لا بد من ذكر تبدّل المشاهد، بفعل الزراعة وهندسة جديدة للزراعة في أغادير أو داخلها، وتعتبر الحمضيات كالبرتقال و الليمون اليوسفي من بركات الزراعة الحديثة في المغّرب. تباع بطول فصلي الخريف وفي أوروبا أو كندا أو روسيا. هذه الزراعة المرتكزة على تقنيات فائقة الحداثة تُنبت الطماطم في الصحراء، زرع هذه الأراضي القاحلة أمر مُتطلّب، فمعظم الزراعات في هذه المنطقة في ماء دون تربة طوال السنة، فالمياه المحلاة أو المستجلبة من طبقات جوفيّة حتى عمق ستمائة مترا عمقا. إنها مياه أحفوريّة ترقى لعمق التاريخ الجيولوجي للصحراء الكبرى، مياه لا تتجدد. على مسافة 540 كيلو مترا جنوب العيون أردت أن أزور خليج الداخلة. وغدا وجه آخر من وجوه المغّربية تتغيّر، من كان يمكنه أن يتصور من عدة سنوات خلت، أن نشاهد هذه النظرات التطلعيّة وأن الرياح والبحيرات الشاطئية، ستحوّل الداخلة إلى مركز من مراكز السياحة الأكثر ارتيادا في العالم، لكن الداخلة لا تقتصر على ذلك، تحكي الكاتبة ليلى سليماني عن هذا المكان الفريد قائلة إنه خليج كل الممكنات وانصهار الصحراء والمياه، لما تدخل الأرض في المحيط، وتضيف ليلى سليماني أن تحب الداخلة، يعني أولا وقبل كل شيء أن تسهر على صونها.

تركت الداخلة كي أصعد إلى الجبال، ها قد وصلت إلى الطريق المحاذية للمحيط الأطلسي وسأتخذ وجهة مختلفة جدا، سأعود متوغلا في وديان الأطلس وأدّت خاصرته في إطار بحثي الدائم عن قلب البلد النابض، اتجهت إلى قرية انتودي ثم انفيس في مجرى ذلك النهر على طريق مراكش. الدود قابعة في سفوح المحيط الوعرة واننا نقفز إلى أزمنة سحيقة، نجد هنا آثار وجود البشر. يرقى إلى عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، نقوش صخرية على شكل فيّلة وزرافات ووحيدي القرن وكذلك النعّام، لكن هذه المنطقة هي منطقة أغادير أي مخازن الحبوب الجماعية التي بناها السكان، رأيت واحد منها ابن عيسى وهو متشبث في الصخور على مسافة 30 دقيقة من القرية سائرا على الأقدام. يعود مخزن الغلال إلى القرن الثاني عشر وكانت تحفظ فيه الاحتياطات الغذائية، كالحبوب والجوز والزيتون، وكل ثمين لحمايتها من الغزوات، تلك الغزوات وأعمال السلب والنهب التي كان بمكن أن تحصل في أي لحظة، والتي استمرت حتى مطلع القرن العشرين، مشهد هذه التحصينات يشهد على هشاشة الحياة، في تلك الأزمنة القديمة. عندما كان الناس وممتلكاتهم موضع الاطماع ،للتوجه إلى مراكش تبعت مجرى نهر أنفيس، وديان خضراء استمر فيها حتى اليوم، تنظيم العيش في قرى صغيرة تجمع كل واحدة عائلة أو عشيرة.

لا شيء هنا وليد الصدّفة كما نلاحظ هذا في قرية دوق الخير، تم اختيار الموقع ومواد البناء، واتجاه الواجهات والأزقّة للاحتماء أكثر من الرياح والأمطار والتقلبات الجوية. في لغة اليوم قد نقول إنها نماذج من العمارة البيومناخية، كل شيء هنا يشكّل تحديا للناس، من العبقرية والعمل المضّني لقهر سفوح الجبال وتنظيم الحياة المشتركة. بقاء الفرد مستحيل خارج المجموعة، قد يقول الزائر إن هذه القرى الصغيرة منطوّية على نفسها، لكنها في الواقع مرتبطة بوثيق التحالفات. يساعد الناس بعضهم البعض، يتواصلون ويلتقون خلال الحفلات، في مناسبات الزفاف وفي الأوقات العصيبة كمناسبات الموت. الأسواق هي من أماكن اللقاء المميّزة، وتقضي التقاليد أن يسلّم المرء سلاحه قبل الدخول اليها. إنها أمكنة يسودها السلام بين الأسر والعشائر. كل هذه الحياة في الوديان والجبال مستحيلة لولا الماء، المياه نفيسة لدرجة أنهم يتعلمون هنا أن المطر أساس الحكم. يدين المغّرب في سدوده للملك الحسن الثاني، خيال استراتيجي التزم به منذ أربعين عاما، في وقت لم يكن فيه الاهتمام بإدارة الموارد المائية كبير، أرست هذه المنشآت الكبيرة أساس السياسة المائية. واليوم هنالك ما يقارب مائة وأربعين سدا تموّل المزارعين بالمياه. ومن همّ المياه والانتباه ومنتجات عملية انتاج بعضا من الأحواض الرائعة، يرقى الواحد منها إلى سبعمائة سنة. حوض المنارة يغذّيه نظاما هيدولوروكيا يجلب المياه من الجبال، وعلى مسافة 30 كيلومترا من مراكش، ويتيح ذلك زراعة أشجار الزيتون المحيطة به، للمنارة أساطير لا تحصى وُلدت من هذا المكان، يُحكى أن الملك مولاي إسماعيل أغرق فيه عددا من النساء بعد أن غرر بهنّ، ويزعم آخرون أن تحت المياه كنزا جاء به أبوبكر بن عمر من المشرق. تبقى المنارة مكانا معزولا بعيدا عن جنون وسط مراكش ونزهة للعشاق.

تأسست مراكش في القرن الحادي عشر الميلادي على يد امرأة هي ذينب النفساوية زوجة ملك يوسف بن تاشفين، الذي كان يحلم بالفتوحات، ذهب زوجها ليحارب فاستقرت ذينب النفساوية في بستان النخيل، هذا عند سفح الأطلس وهي التي صممته وأدارت، ما سيصبح بسرعة مدينة مزدهرة. خلف الجدران المنيعة أصبحت مراكش المدينة الامبراطورية تحفّة من عواصم السياحة العالمية، ولكن حتى في قلب أكثر الأماكن ارتيادا بقيت تروح المدينة حية. تبقى ساحة بياجفنة مكانا بقي ترفيها في الهواء الطلق، إنه مكان لازلنا نسمعه وفي نبوغ الرواد والضحك وتنبؤات العرافات. مكان تتجاور فيه الخطابات المقدسة والكلام الدنيوي. احتفظت ساحة جامعة بني ملال بذكرى زمن كان يختلط فيه الواقع بالخيال. لقد صنّفتها منظمة اليونسكو تراثا شفويا للبشرية. روح مراكش هذه يلمسها حتى اليوم حين التجول في حدائق ماجوريل، وهي تحمل اسم الرسام الفرنسي الذي أُغرم بالمغّرب، كان مولعا بعلم النبات فانشأ حديقة تعدّ تحفة فنية حية في قلب المدينة، الأزرق والأحمر لون المدينة، وأعلى صرح فيها صومعة كتبيّة، التي تختلف كل جهة فيها عن الأخرى، على مراكش منذ القرن الثاني عشر. والحق يقال إن الميناء نمت بشكل كبير و لاسيما استيعاب السوّاح، غدى يتوافد عليها حوالي مليوني شخص كل عام فيتضاعف بذلك عدد سكانها. يقصد الكثيرون مدينة مراكش لممارسة رياضة الجولف، ويشكّل ذلك فرصة لاقتصاد المدينة، وفي الوقت نفسه رهانا بيئيا حساسا لأن هذه المدينة القابعة على مشارف الصحراء، تخوض تحدي توفير المياه، فالطلّ في تزايد مستمر، ولا بد من المحافظة على الموارد، وهناك في الآونة الأخيرة محاولات للتحكم به، بعض ميادين الغولف تُسقى بمياه مستعملة. من مراكش إلى تلويد ومنها الى ورززاد، نجتاز وديان الأطلس الكبير وهي جبال فتية. سلسلة جبلية طولها ثمانمائة كيلو متر، ويصل عرضها في بعض الأماكن إلى مائة كيلومتر. توصلنا الطريق هذه المرة إلى عمق أعماق قصة الأطلس، هي قصة ملاذ فبهذه المنطقة سادت الضيافة دائما، إننا هنا في إحدى بطاقات الثقافة والهوية الامازيقية، لغات هذه المناطق معترف بها اليوم وهي تُدرّس. اللون الأخضر مختلف دائما للرجال، إنه مآثر البشر وكدّهم. الفلاحون منسقو حدائق حقيقيون، يتلاعبون بالانحدارات لجلب المياه إلى المزروعات. يزرع الورد في حوض المتوسط منذ العصر البرونزي، فالزهرة الشهيرة تزدهر مرة في المناطق شبه القاحلة.

يتم القطاف عند الفجر عندما تكون الأزهار لا تزال نديّة. ثم تباع الأزهار بالكيلو وتُقطّر في اليوم نفسه، بعض القرى المروية بالتربة المدكوكة هُجرت من قبل شباب سكان الريف، بحثا عن أماكن أخرى، في الطريق إلى ورززاد وبعد عبور ممر تي سي تطالعك هنا تلوويد. خلال عدة قرون كان لا بد من المرور بها من أجل التجارة بين مراكش وإفريقيا الجنوبية.كانت منطقة نقود الكلاوي حاكم مراكش السابق، الكلاوي الذي انتقل لخدمة الفرنسيين والذي دفع غاليا ثمن خيانته، منحه الملك محمد الخامس العفو، لكن القصر هُجر منذ الاستقلال. يزوده لنا أحد الحراس ويحكي كأنه في مشهد الرخام والخرسانة المتفتتة نزل هيمنغواي وبعض الزوار المرموقين. التنزّه هنا يعني التفكير في السلطة، شاء كبار رجال القرن التاسع عشر أن يعيشوا هنا كالسلاطين، لكن سلطتهم كانت عرضة للتفتت على غرار قلاعهم. في تلوويد يحرس اللقلق الأبيض البشر. يعتبر المعتقد الشعبي أن هذا الطائر يجلب الحظ وأنه طائر مقدّس. ترى فيه الأسطورة رجل دين يلبس الجلباب الابيض وبرنسه الأسود. يخبرون الأطفال إن الله قد حوّل الرجل إلى لقلق لأنه تناول طعاما في شهر رمضان المبارك.

في طريقنا إلى ورززاد تظهر آثار قصر بن حدو بعضها تحول إلى خراب، والبعض الآخر رُمم لأغراض سينمائية. ومنذ أن صنّفت اليونسكو الموقع تراثا عالميا. تنتمي هذه الأراضي أيضا إلى حضارات النخيل، وهي على طول زيز أو زائز أو درعة سيدة الأشجار. يمكن أن تنتج كل نخلة من 30 إلى 100 كيلوجرام من التمر بحسب السنين، لكن هذه الشجرة مهددة لأن ثلثي أشجار التمر أبادها مرض البيوض. تشجع الدولة اليوم على زراعة أشجار النخيل الأكثر مقاومة. ولسعادة القرويين للتأكد من الوديان وتوازناتها الاجتماعية تختفي، ولتحقيق ذلك يجب تنمية التعليم بأي ثمن. وفي بلد يعيش 40% منه في الأرياف، يعني ذلك توفير فرص الحصول على التعليم حتى في المناطق المعزولة، تشكل الفتيات اليوم تلميذا من أصل كل اثنين في الابتدائية، ولكن نسبة نادرة منهن يتابعن الدراسة الثانوية، ففي المدرسة وفي القانون أيضا يتقرر تحرر النساء المغربيات. كان أحد الأقوال المأثورة في منطقة طرفاية لم نجد فيها سوى الريح، أي لا شيء، وهذا اللاشيء هو اليوم ثروة، فهو الذي يدير طوربينات الرياح في كل البلاد. يبدو أن الاقتصاد الأخضر ترسّخ في المغّرب. في قلب المناطق الصحراوية وقرب طنجة تكاثرت طوربينات الرياح، وكأنها بساتين نخيل تطل الفضاء وتبصر النور طوربينات أخرى في السنوات القادمة. لكن الصورة الأكثر إثارة للدهشة في هذا الانتقال الطاقي هي محطة نور للطاقة الشمسية قرب ورززاد، نور اسم على مسمى.

بحلول العام 2020 ستنشر محطة نور مراياها على آلاف الهكتارات، على ما يعادل 3500 ملعب كرة قدم، مما يجعل منها أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم، لأن الشمس مصدرا لا ينضب. استغلال أشعة الشمس وتحويل نورها إلى كهرباء، هذا ما سوف يتيح للمغّرب الخروج من الاعتماد على النفط بحلول العام 2030. سيكون نصف الطاقة المنتجة في البلاد طاقة خضراء. بعد محطة نور تبدأ الصحراء. ضخامة الصحراء الكبرى ماثلة هنا في أبواب الغرب، على أبواب مرزوقة. يصل ارتفاع بعضها إلى 250 مترا، في مكان ما شرقا تقع الجزائر. يضع السائحون خطاهم دون أن يدرّوا في الطرقات الخفيّة التي كانت تسلبها القوافل القديمة. كان أولئك الرّجال تجارا، إنما كانوا أيضا في غالب الأحوال علماء، كان يمشي في أعقابهم الأطباء والفقهاء والأدباء. كانوا جميعا يجولون في إفريقيا. وكان التمثيل الثقافي ينتشر معه حتى السنغال، وفي المنطقة الواقعة جنوب نهر النيجر. كانت رؤية تلك الكثبان تعني بالنسبة للمسافرين القادمين من أعماق إفريقيا نهاية رحلة طويلة. كانت مرزوقة تنشد الوصول إلى المغرب، أي إلى عالم آخر كوزموبولتيك، عالم المتوسط. يعيدنا كل شيء في النهاية إلى ذلك البحر المتوسط، وإلى تلك المدينة المتّصلة بإفريقيا وبأوروبا، تلك التي يسمونها طنجة. إلى الرباط وفاس أو مراكش الأقرب إلى إفريقيا. يقع المغّرب عند ملتقى طرق عديدة.

اختفت القوافل، ولكن العديد من الرجال والنساء لا زالوا يحلمون اليوم أيضا ببلوغ البحر الابيض المتوسط. هذا المتوسط التي ترسم أحواله الشاطئ وتنحته. المتوسط الذي أهمل فترة يعود إلى الحياة. الرومان والفينيقيون والعرب، كم من شعب وكم من امبراطورية تأملت هذه الجروف. منذ بضع سنوات بدأ المغاربة أنفسهم يستعيدون شاطئهم المتوسطي. الطبقات الوسطى هي التي تقصد البحر. وفي كل صيف يعود العمال المهاجرون أيضا لأوروبا لقضاء العطلة مع أسرهم. الشاطئ والشمس جعلا من هذه الضفاف المتوسطية ساحلا مشرقا. نلتقي ايضا بالإسبان الذين يأتون كجيران يقضون عطلة نهاية الاسبوع. إنها عودة التاريخ في هذه المنطقة المطبوعة بالمنافسات مع الجار الشمالي. تحت المظلات الشمسية لا تعود الفتوحات شاغلنا. ننسى شيئا فشيئا الفترة التي كان فيها خليج الحسينة موضع الأطماع الأوروبية كافة. وفي داخل البلاد أولدتها هذه القصص المتقاطعة بين الضفتين مدينة زرقاء شفشاون، مدينة بناها المسلمون واليهود الذين طردهم إعادة الفتح المسيحي في إسبانيا في القرن الخامس عشر، رمز قائم بذاته، وشفشاون إلى ذلك معلم من معالم السياحة المغّربية، يمأها الناس ليتأملوا تدرجات ألوانها الزرقاء ويسترسل بعضهم في الجوانب الحالمة التي تربط هذه المنطقة.

تحكي الأسطورة أن المدينة لوّنت بالأزرق على يد اليهود، لون استحضار للون السماء والجنة، بينما يشرح آخرون بشيء من الابتذال أن صبغ المنازل بالجير الأبيض والأزرق هي أفضل طريقة لإبعاد البعوض. شفشاون المتشبّسة بالريف، تلك المنطقة التي دافعت باستمرار عن هويتها، والريف هو موطن عبدالكريم الخطابي، ذلك البطل المغّربي الذي أصبح رمز النضال ضد الاستعمار، كعودة أخرى للتاريخ، يعيش الريف اليوم من الهجرة إلى أوروبا، وأوروبا اليوم نلمسها لمس اليد. في طنجة فيها حركة تفريغ وتحميل للعالم بأسره، وبنوع خاص لأوروبا لأن مصير البلد مبني على علاقاته مع شمال المتوسط. في كل سنة ينتقل مليون ونصف المليون مسافر من قارة إلى أخرى. على أرصفة طنجة. في عشرينات القرن الماضي كان لطنجة دورية، كانت ملتقى المغامرين والجواسيس. لم تفقد الجميلة روحها. فهي ما زالت تجتذب المسافرين والكتاب والرسامين القادمين من الخارج. وتبقى تلك المدينة المتميزة بالاختلاط والتلاقي. بالنسبة للمرشحين للمنفى القادمين من إفريقيا قاطبة لا تزال طنجة بمثابة حلم، كم عدد الذين يتنظرون جبل طارق معرضين حياتهم للموت. والالتقاء في تلك الكنائس التي بقيت مهجورة زمنا طويلا. طنجة مدينة عالمية على صورة المغّرب في النهاية. بلد عند ملتقى كل الطرقات وكل الثقافات والديانات. في الجلابيب الملونة لتلك النساء، رأيت استحضارا لتعايش الثقافات والأخوّة. إسلام المغّرب المنفتح المتسامح. في ساحة التقوى، ساحة مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء، إنه يوم من أهمّ أيام السنة. إنه عيد الأضحى المبارك. العيد الكبير. إنها نهاية الرحلة، لقد وجدت أهلي وأعدت اكتشاف بلدي. ووجدت معنى للتقاليد القديمة. ورأيت المستقبل يرتسم. المغّرب في مختلف وجوهه التي نسجها التاريخ. والتي روت القصة كلها لتصبح مغّربا واحدا. كي نكون معا ونعيش معا في التنوع.

عبدالله الشقليني
15 مايو 2020

alshiglini@gmail.com

 

آراء