المقاومة الوطنيَّة في الأمصار (4/4)
shurkiano@yahoo.co.uk
أما بعد، فبعد حقب عديدة من تداول السُّلطة في الخرطوم، وصلت البلاد إلى ما حالت إليه الأمور من سوء المنقلب، وبُعد الطلب، وذلك بعد أن جاء أهل النفاق الذين احتكروا السُّلطة، وارتأوا الحق على أهوائهم كأنَّما كانوا ينظرون بأقفائهم، واختالوا جهلاً وبطراً لا يرقبون من الله راقبة، ولا يخافون وبال عاقبة. وكان أشد ما أمسى يؤلمنا النِّفاق الذي أخذ يسيطر على كبار القوم في الدولة "الإنقاذيَّة" في ذلك الردح من الزمان، كما كانت التفاهة تؤلمنا. ومن ثمَّ تفشَّت الحروب الأهليَّة، وقُتِل كثراً من النَّاس في الارتكابات الدمويَّة، واستاء الشعب من حماية المسؤولين للموظَّفين الفسدة والفساد، وقطع أرزاق العباد. ولعلَّ الذي أخذ لا يتأثَّر بغلاء الأسعار وسوء أحوال المعيشة هو كل من فارق الأحباب وتوسَّد التراب، أو أولئك التجار الذين أمسوا على شاكلة مسيلمة الكذَّاب، وكل الوزراء وزعماء أحزاب التوالي السِّياسي. إذ أنَّ الفساد يمثِّل بُعبعاً طارداً للاستثمار، إلا المستثمرين الفاسدين أنفسهم. فقد كان كبير أساقفة كانتبري جستن ويلبي – في زيارته لإقليم قوما الموبوءة بوباء الإيبولا في جمهوريَّة الكونغو الدِّيمقراطيَّة في تشرين الأول (أكتوبر) 2019م لمواساة المرضى – صريحاً مع حاكم الإقليم كارلي نزازو كاسيفيتا الذي طلب منه أن يقدِّمه لرجال الأعمال في لندن لإنعاش فرص الاستثمار في الكونغو. هذا، فما كان من كبير الأساقفة إلا أن ردَّ على سائله ببسمة ساخرة قائلاً له إنَّ المستثمرين لسوف يمتنعوا عن ذلك بسبب سيادة الفساد في الكونغو.
ومع ذلك، كان هؤلاء المسؤولون السُّودانيُّون الحمقى يعيشون في نضرة النعيم. لقد تمَّ ذلك كله بفضل خطباء الفتنة الذين أخذوا يبرِّرون لكل ظالم ظلمه، وأمسوا يجعلون دين الله خدمة لأهواء البشر. أفلم يقل الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا (1918-2013م): "لا يدافع عن الفاسد إلا فاسداً، ولا يدافع عن الساقط إلا ساقطاً، ولا يدافع عن الحريَّة إلا الأحرار، ولا يدافع عن الثورة إلا الأبطال.. وكل شخص فينا يعلم عمَّ يدافع." أما فقهاء السلطان هؤلاء فهم أناس عديمي المبادئ، والمبادئ من قيم الإنسان إن هو أراد أن يعيش كريماً عفيفاً، فالإنسان الذي لا يقف على شيء يمكنه أن يقع فريسة لأي شيء (Those who stand for nothing fall for anything)، والمثل هنا، والذي جاء بتصاريف متعدِّدة، يعود إلى أليكسندر هاميلتون وبيتر مارشال وآخرين. ونحن إذ نذكر أقوال أمثال نيسلون مانديلا ومالكوم إكس ومارتن لوثر كنج وغيرهم من الرِّجال الأفاضل، والنِّساء الفواضل حتى يتجدَّد إعجابنا بهم وإكبارنا لهم، واعتبارنا بما تثيره كلماتهم وملاحظاتهم في أنفسنا، لأنَّنا جميعاً نحتاج إليها، ونشفق منها، ونذعن لما أمروا به، ونؤمن بما قالوا فيه. مهما يكن من شأن، ففي نهاية الأمر بات الشعب السُّوداني مستعدَّاً أن يضحِّي بنفسه في سبيل ما يؤمن به، وفي ذلك دفاعاً عن النَّفس والعرض والأرض، وانتصاراً للكرامة الإنسانيَّة، ورفعاً للظلم الطاغي، وخلاصاً للنِّظام الإخواني، الذي طالما تألَّم لذلك أشدَّ الألم، وضاق به أشدَّ الضيق.
ربما تباهى نظام "الإنقاذ" ببعض الإنجازات، ولكن أيَّة إنجازات! بالقياس إلى عمر النظام الذي ناهز ثلاث حقب لم تكن هذه الإنجازات تمثِّل شيئاً، لأنَّ الاستثمار البشري أهم من الاستثمار المادي. وهذه المشاريع التي أُنجِزت تركَّزت في مثلث حمدي، ولئن جاز لها التمدُّد كما هي الحال في بعض الطرق العامة فقد امتدَّت شمالاً لتربط السُّودان بالعالم العربي بعيداً عن عمقه الإفريقي في إريتريا وإثيوبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى، وأوغندا وكينيا قبل انفصال جنوب السُّودان. والقلة القليلة من الطرق التي شُيِّدت لربط السُّودان بأقاليمها الغربيَّة كانت رديئة التشييد، ضعيفة البنية، وسرعان ما جرفتها مياه الأمطار الغزيرة وانهارت كباريها في أوَّل موسم مطير، وذلك لأنَّ المسؤولين اختلسوا ميزانيتها، وجاء التنفيذ بمواصفات غير التي كُتبَت في العقود الموقَّعة. وفي الآن نفسه كان استخصاص الصحة والتعليم وبالاً على المواطنين الفقراء، الذين بالكاد لم يستطيعوا الإنفاق على أفراد أسرهم.
ومع ذلك، أصبحت هذه الصروح التعليميَّة ضعيفة في الإمكانات الماديَّة والتأهيل الأكاديمي بعد أن أمست مكتظة بأعوان النظام أنصاف المتعلِّمين – أو لكي نقول الجهلاء – حتى أصبحت هذه الجامعات والكليَّات تخرِّج طلاباً لا يكادوا ينافسون عالميَّاً كما كان العهد بالتعليم في سنوات مضت. وبرغم مما تمَّ من توسُّع في المجال التَّعليمي، إلا أنَّ العمليَّة التَّعليميَّة ينبغي أن تكون مصاحبة للتنمية في المجال الاقتصادي، وذلك لأنَّ التنمية الاقتصاديَّة غير المصاحبة للتقدُّم التَّعليمي المناسب تصبح دون جدوى، فيما أنَّ التَّعليم الذي لا ترافقه التنمية الماديَّة تقود إلى اليأس والبطالة. وهذا ما حدث في سودان "الإنقاذ". فالإصلاح السِّياسي والفلاح الاجتماعي من الاستحقاقات الرئيسة في الطبيعة البشريَّة، وحين تفشل الحكومة أيَّة حكومة في أن تنهض بشعبها من البقعة التي وضعه فيه التأريخ، فإنَّها لتخاطر بجلب المآسي إلى مواطنيها، بل وجيرانها في شكل آلاف من اللاجئين. وأي علمٍ بات أهل "الإنقاذ" يتحدَّثون عنه على ممر الزَّمان وتعاقب الأيَّام، وقد اتَّسع الخرق في السُلُّم التعليمي، ودخل الكتابة من لا يعرفها البتة، ولله در القائل:
عسَّ الزَّمان فقد أتى بعُجاب
ومحا فنون الفضل والآداب
وأتى بكُتَّاب لو انبسَطَتْ يَدِي
فيهم رددتُهم إلى الكُتَّـــــاب
وبدلاً من تحديث المشاريع القديمة التي قام عليها أساس الاقتصاد السُّوداني منذ عهد الحكم الثنائي (البريطاني-المصري) أقدم الإنقاذيُّون على تدميرها بالتخطيط العشوائي، واختلاس القروض، وإيلاء الجهلاء أمرها، بما في ذلك المشاريع الزراعيَّة. ومن هنا يجدر الحديث عن تأريخ نقابة مزارعي السُّودان المحدودة، فلعلَّه حديث ذو شجون. ففي العام 1904م تحصَّل فاعل الخير الأميريكي ليَّه هنت على فرصة استحواذ 11.000 فداناً على ضفاف النيل في منطقة الزيداب، وكانت خطته تقتضي استيطان الزنوج الأميريكيين على هذه الأراضي، إلا أنَّه فشل في الأمر. إذ أخذت شركة إنكليزيَّة هذا الخيار، وهي الشركة التي وقَّعت اتِّفاقاً مع الحكومة الثنائيَّة العام 1907م، وأقدمت على إجراءات طفيفة لتغيير اسمها، ومن ثمَّ شرعت في إدارة أراضي الجزيرة لصالح مشروع الجزيرة.
إذ يقودنا هذا الأمر إلى تفكير الاستعماريين في الغرب عامة، وكيف راودتهم أنفسهم في استغلال إفريقيا بشريَّاً واقتصاديَّاً. ففي مرتفعات زامبيزي كان المبشِّر المسيحي ديفيد ليفينغستون يركِّز مواعظه حول التجارة والمسيحيَّة كبلسم ناجع لعلاج أمراض إفريقيا، ويوفِّر أرض الميعاد كأسواق غنيَّة لأصحاب المصانع في بريطانيا الصناعيَّة. ولعلَّ مشهد المبشِّرين وهم يوزِّعون بذور القطن في هضاب زامبيزي الخصبة قد أعجب التجار في مدينة مانشيستر البريطانيَّة، مما حدا بأحدهم أن يرسل خمسة جنيهات إسترلينيَّة إلى صحيفة "التايمز" لتقوم هي الأخرى بإرسالها إلى الرَّجل الناكر لذاته والفارس الجحجاح الذي لا يعرف الكلل، أي ليفينغستون. وذهبت الصحيفة إيَّاها في عددها الرَّابع وفي مقالها الافتتاحي أن تعلن أنَّ أكبر خدمة يمكن أن يطلبها العالم من الجنس الزِّنجي هو إنتاج القطن، ومضت الصحيفة مندهشة تتساءل ما إذا كان ممكناً أن يتم استبدال مكان الرِّق من جنوب الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة إلى الأراضي الشاسعة في إفريقيا.
هذا ما كان من أمر السُّودان فيما وصلنا إليه من وضع تعيس. إذاً أين كان يكمن وجه الشبه بين الحال التي سطَّر عنها الشَّاعر العراقي معروف الرصافي (1875-1945م) في قصيدته، وحال السُّودان بعد ثلاث حقب قضاها الشَّعب السُّوداني في عهد "الإنقاذ"؟ إنَّ المقاربة تشي بتماهي الاستعمار مع حكَّام السُّودان اليوم. فقد أنشد الشَّاعر الرصافي قصيدة "يا قوم لا تتكلَّموا" خلال الاحتلال البريطاني لبلده العراق، ولكنه كأنَّما كان ينصحنا باعتبار ما يكون في أيَّام "الإنقاذ" الأخيرة. فماذا قصَّد الرصافي شعراً في أبياته؟ قال الرصافي:
يا قوم لا تتكلَّموا إنَّ الكلام محرَّم
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النُوَّم
وتأخَّروا عن كل ما يقضي بأن تتقدَّموا
ودعوا التفهُّم جانباً فالخير أن لا تفهموا
وتثبَّتوا في جهلكم فالشر أن تتعلَّموا
أما السِّياسة فأتركوا أبداً وإلا تندموا
إنَّ السِّياسة سرِّها لو تعلمون مُطَلسم
وإذا أفضتم من المباح من الحديد فجَمجموا
والعدل لا تتوسَّموا والظلم لا تتجهَّموا
من شاء منكم أن يعيش اليوم وهو مُكرَّمُ
فليُمسِ لا سمعٌ ولا بصرٌ لديه ولا فمُ
لا يستحق كرامة إلا الأصمُّ الأبكمُ
ودَعُوا السَّعادةَ إنَّما هي في الحياة تَوهُمُ
إذاً، علينا – نحن بقيَّة الناس – أن لا نكونوا مجرَّد أناس يقفون على الرَّصيف، ونستلطف الرِّجال البلهاء والنِّساء الكوارث ريثما يغيِّروا العالم من حولنا إلى الأسوأ، لأنَّهم حتماً سيغرقون السفينة. لكن ما الذي يجمع بين الرِّجال الأغبياء والنِّساء المأسويَّات؟ في كل المجالات نجد أنَّ هؤلاء الرِّجال والنِّساء لا يتأثَّرون قيد أنملة بالمعاناة التي يسبِّبونها لغيرهم إلا لو كانت بهم خصاصة، ومن ثمَّ يؤثرون على أنفسهم. وقد أفصح ابن خلدون عن ذلك وأوضح في الأمر حين قال: "لا تولوا أبناء السفلة والسفهاء قيادة الجنود ومناصب القضاء وشؤون العامة، لأنَّهم لو أصبحوا من ذوي المناصب اجتهدوا في ظلم الأبرياء وأبناء الشرفاء، وإذلالهم بشكل متعمِّد، نظراً لشعورهم المستمر بعقدة النقص والدونيَّة التي تلازمهم، وترفض مغادرة نفوسهم، مما يؤدِّي في نهاية المطاف إلى سقوط العروش ونهاية الدول."
خلاصة
لا مريَّة في أنَّ الإنسان مخلوق وفي معيَّته غريزة التملُّك، ومتى ما وجد الفرصة في ذلك، أو تحيَّن الفرص لبلوغ هذا المرام، إلا واستعبد غيره وسخَّره لمصالحه الذاتيَّة الآنيَّة والآجلة. إذ قد يستغل الإنسان شتى السُّبل لإقناع الآخر بأنَّه خُلِق لخدمته وإسعاده، مستغلاً النصوص الدِّينيَّة تارة، والطبقة الاجتماعيَّة تارة أخرى، والفوارق العرقيَّة تارة ثالثة، والقوَّة الماديَّة تارة رابعة لتحقيق هذه المصالح الذاتيَّة. هذه الخلفيَّة هي التي منها نبعت مسألة الرِّق وعلاقاتها في المجتمعات القديمة والحديثة معاً، حتى اقتصر على لون البشرة في إنسان إفريقيا في نهاية المطاف.
ولعلَّ مما سبق من سرد تحليلي وصفي نخلص إلى أنَّ الماضي وأحداثه ظلَّ دائم الحضور في استنبات بذور الماضي، وهو الأكثر حسماً وتحديداً في الظروف الحاليَّة، وذلك لأنَّ فترة زمنيَّة محدَّدة وبعيدة في تأريخ المجتمعات (الإنسانيَّة) البشريَّة تمَّ خلالها تثبيت نظام اجتماعي قميء ومقيت أضرَّ بالقيم الإنسانيَّة، وتوارثته الأجيال عن الأجداد حتى آلت منهم إلى الأحفاد، وأثَّرت في العلائق الثقافيَّة والسِّياسيَّة في إفريقيا، وبخاصة السُّودان. وما المشكلات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة التي عجزت الحكومات السُّودانيَّة المتعاقبة في حلها، أو بالأحرى لنقل تعمَّدت عدم اقتلاعها من جذورها إلا وكان مردُّها ظاهرة الرِّق وعلاقاتها في المجتمع السُّوداني. ففي التقييم السليم للاسترقاق من خلال خطايا الماضي بين حين وحين يمكن أن نفهم دلالات الحاضر ونخطِّط للمستقبل، وفي ذلك حتى يكون جوهراً تعليميَّاً أمثوليَّاً.
وفي هذا النحو نجد أنَّ عمليَّة التحرُّر من أغلال الاسترقاق والظروف ما بعد الاسترقاق قد بدأ على مراحل. فهناك مرحلة الثورات المختلفة والمقاومة المسلَّحة ضد تجار الرَّقيق وملاك العبيد سواء أثناء رحيلهم من منطقة إلى أخرى، أو أثناء إقامتهم في الأرض الجديدة، وهناك مرحلة الاستقلال من الاستعمار الأوروبي والانعتاق من ربقة قيود الاستغلال السِّياسي والاقتصادي، وكذلك شرع المفكِّرون والأدباء والشعراء في مشاركتهم في النضال بأساليبهم الخاصة، حتى اتَّخذ النِّضال أسلوباً أدبيَّاً في أنماط الشعر والنثر والقصة، والمنتديات الفكريَّة والاجتماعيَّة كأحد أساليب المقاومة السريَّة أو الجهريَّة.
مهما يكن من شيء، ففي السُّودان جرت مياه غزيرة تحت الجسر قبل أن يصل به المطاف إلى نظام الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، الذي عُرِف بنظام "الإنقاذ". فقد جاء نظام "الإنقاذ" بسياسة التمكين واستصحبتها بثقافة الإقصاء (Cancel culture, ostracism or shunning). ولعلَّ ثقافة الإقصاء هذه تتميَّز بشيئين: التمحور حول فكرة التطهريَّة، التي لا تقبل الحل الوسط أو التسوية أو التوصُّل إلى تفاهم، واعتبار النفس هي الأنا الأوحد الذي لا يخطئ. كذلك إنَّ ثقافة الإقصاء التي تمسَّك بها أصحاب "الإنقاذ" بقوَّة كانت خليطاً مسكراً بين التديُّن من ناحية، والسُّلطة من ناحية أخرى. ومن تداعيات هذه الثقافة ما أسموه بالفصل من العمل والتخلُّص من مناوئيهم في سبيل بدعة سياسيَّة أسموها "الصالح العام"، وتدمير علائق الصداقة، وحظر حريَّة التعبير بدلاً من إفساح المجال لقوَّة الإقناع وتغيير العقول بالتي هي أحسن، وإفساد الحياة الاجتماعيَّة، وشيوع الاحتجاجات العامة. وفي نهاية الأمر تمَّ وصف الإنسان الضحية بألا إنسان، واعتبروه عنصراً غير مرغوب في المجتمع المثالي الذي باتوا ينشدونه، ومن ثمَّ تمَّ حرمانه من حق الحياة وآدميَّته، وبذلك استحلوا التعذيب والقتل غيلة وأشياءً أخرى. هكذا تبوَّأ أهل "الإنقاذ" مكاناً عليَّاً عن طريق الإساءة إلى الشَّعب السُّوداني النبيل، ثمَّ كانوا – أي رجال "الإنقاذ" ونساؤهم – هم المستفيدين الوحيدين من ثقافة الإقصاء.
والأسوأ في الأمر كان فشل النِّظام "الإنقاذي" في التعامل مع التعدُّديَّة الإثنيَّة والثقافيَّة واللُّغويَّة والدِّينيَّة لمواطني القطر في ربوع السُّودان المتباينة. ولعلَّ هؤلاء السكان المنتشرين في بقاع الوطن المختلفة كانوا قد تجاهلتهم الوفود، ولم تأخذ آراءهم في الحسبان حين سافرت إلى الأمم المتَّحدة عشيَّة الاستقلال لاستجداء المنظَّمة الأمميَّة في سبيل انتزاع الإقرار بالاستفتاء لتأكيد رؤى ورغبات الشَّعب السُّوداني. وكان عليهم أن لا يحقِّروا ذلك الطلب باعتباره من صغار الأمور، فإنَّ أوَّل كل كبير صغير، ومتى شاء الله أن يعظِّم صغيراً عظَّمه، وأن يكثر قليلاً كثَّره. إذ جعل هذا الأمر أي حديث موضوعي عن جغرافية وتأريخ السُّودان مسألة صعبة للغاية لأنَّ أيَّة مقولة في هذا المضمار تعقبها نتائج سياسيَّة كارثيَّة، وبخاصة أنَّ العامل الأكبر يومذاك كان يتمثَّل في الرغبة الطبيعيَّة للشَّعب السُّوداني في ممارسة حق تقرير المصير. هكذا تمَّ غرس بذور المشكل السِّياسي في الواقع السُّوداني، وكانت النتيجة الحتميَّة هي الثورة المسلَّحة في جنوب السُّودان العام 1955م، ولكن استغرقت البذور زمناً قبل أن تنمو في المناطق الرِّيفيَّة الأخرى حتى العام 1983م.
وفي نهاية الأمر أمسى الانتماء السِّياسي هُويَّة قبليَّة لثلاث قبائل – الجعليين والدناقلة والشايقيَّة – هي التي أحكمت قبضتها على السُّلطة السِّياسيَّة والاقتصاديَّة مع طائفة قليلة من المؤلفة قلوبهم من شرائح المجتمع السُّوداني الذين ارتضوا بالفتات والدنيا والدنيَّة. وفي نهاية الأمر استاء الشَّعب السُّوداني من ذلكم النِّظام الذي أخفق في أشد ما يكون الإخفاق في استرضاء الشباب، وتلبية رغباتهم في الإصلاح السِّياسي، والعدالة الاجتماعيَّة، وإيجاد فرص العمل في سبيل محاربة البطالة، وتوفير الخدمات الصحيَّة والتعليميَّة مجاناً، وحيئنذٍ انتفضت الجماهير السُّودانيَّة، ولفظتهم ثمَّ أخلعتهم من السُّلطة.