المناطق الثلاث … مفترق الخيارات … مابين أطماع الحكومة … وتمسك الحركة

 


 

 

 

بقلم/ آدم جمال أحمد – القاهرة

 

  تنتظم الساحة السياسية السودانية هذه الأيام تماوجات هنا وهناك ، هدفها المنشود هو البحث عن السلام ، كخيار هام وعاجل للمرحلة ، يتجاوز عبرها السودانيين ويلات الحرب ، التي إستمرت عقدين من الزمان ، أرهقت كاهل أهل السودان أجمعين في شتى مناحي الحياة العامة .. الأقتصادية والسياسية والاجتماعية .. الأمر الذي جعل السودانيين  يهرولون خلفاً وراء السلام.

لقد ظللنا نتابع باهتمام بالغ مسار مفاوضات السلام في كينيا عبر كل جولاتها ، للوصول إلى الحل السياسى الشامل للأزمة السودانية ، حتى ظهرت إشكالية المناطق الثلاث .. جبال النوبة .. النيل الأزرق .. أبيي ، كواحدة من نقاط الخلاف الرئيسية ، التي تعتبر أصعب عقبة وقاصمة الظهر للأطراف في طريق الإتفاق ، خاصة بعد توقيع إتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية بين الحكومة والحركة الشعبية ، التي نال فيها (أخوتنا) الجنوبيين نصيب الأسد متجاهلين سخط مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق رفقاء الدرب والنضال ، التي جاءت غير ملبية لطموحاتهم ، إلا أن الحقيقة التى لا مراء فيها هي أن النظام يراوغ ويناور بهدف الإفتراس لا التعايش ، والإعتراف بأحقية هذه المناطق.

لعل أخطر ما ورد في الجولة الأخيرة هي مسألة المناطق الثلاث ، الحكومة تغض الطرف الخفي عن منطقة أبيي ، خاصة بعد تصريحات زعيم الحركة الشعبية (قرنق) الأخيرة .. (بالفم المليان) قال: (أن أبيي منطقة جنوبية 100% تابعة لبحر الغزال) ، مما جعلها تلح على التمسك بمنطقتي جبال النوبة أي ما يسمى في عرفها (جنوب كردفان) بعد إستقطعت جزءاً منها ضمن (غرب كردفان) .. وجنوب النيل الأزرق بانضمامهما ضمن الشمال ، بحجة أن شعوبها مسلمين متجاهلة وصف سكان هذه المناطق في يوماً ما (بالكفار) واعلان الجهاد ضدهم (المهزلة الصورية في قاموس التوجه الحضاري) لبناء دولة الأسلام المزعومة .. مما يؤكد أن الأمور لا تحركها القيم والثوابت بقدر ما تحفزها المصالح الذاتية.

والحكومة تحاول جاهدة في المراوغة وتغيير (تكتيكاتها) .. ورؤساء وفودها في المفاوضات بغرض مساومة الحركة الشعبية لكي تتنازل عن المناطق الثلاث .. والمبادئ والأهداف التي حارب من أجلها أبناء هذه المناطق في مقابل التخلي من جانبها عن الجنوب بأكمله للحركة الشعبية ، بعد أن بدأ النظام الحاكم يستشعر كوامن الخطر وفداحته وما وصلت إليه البلاد ، من إنهيار مريع على كافة الأصعدة .. بسبب سوء تصرفاته الهوجاء وسياساته العقيمة بعدم الإعتراف (بالغير أو الآخر) وحقوق الكيانات الأخرى مع إعطائهم الحق في تحديد ورسم مستقبلهم .. بل أصبحوا هم الأوصياء على الأخرين ، مما ينبئ عن حرصه على مصلحته ورؤيته الضيقة بعيداً عن المصلحة القومية العليا للبلاد في سبيل الإنفراد في حكم الشمال والحركة في الجنوب أي تقاسم (الكعكة بين الطرفين) ويصبح بقية الأطراف الأخرى أتباع.

إن خريطة جبال النوبة ومستقبلهم أمر متروك تماماً لأبنائها ، لذلك نود عن نستعرض هنا موقف أبناء جبال النوبة من قبل كافة الأطراف الممثلة لقضية أبناء النوبة وهي .. الحزب القومي السوداني المتحد .. منظمة نوب .. رابطة أبناء جبال النوبة العالمية .. منظمة التضامن .. أبناء جبال النوبة بالداخل ودول المهجر .. وما قدموه من رؤى ومقترحات نشير لذكر بعضهم أمثال الشهيد القائد يوسف كوة والأستاذ/ سليمان موسي رحال وغيرهم .. فيما يتعلق بالحق الثابت لتقرير المصير لجبال النوبة .. مما يؤكده الحق التاريخي والقانوني للشعب الذي يعيش كاقلية في دولة ولكنه يجد نفسه مضطهداً .. وتحت هيمنة وسيطرة طرف آخر (قوميات في الشمال السوداني) .. كالنوبة وسكان جنوب النيل الأزرق (الفونج) ودارفور والبجة .. لهم الحق في المطالبة لتقرير مصيرهم.

ويعتبر تقرير المصير عاملاً قوياً ويعود هذا العامل الثقافي والتاريخي والقانوني لأبناء النوبة والفونج لتجربتهم المريرة .. فيما يختص بالإنتهاكات المتكررة لحقوقهم الإنسانية المسلوبة ، وكذلك وضوح قضيتهم ومطالبهم التي من أجلها حملوا السلاح وحاربوا زهاء العقدين من الزمان ، لا يعقل أن يترك أمر تحديد مصيرهم ومستقبلهم بيد الحكومة أو الحركة الشعبية ..  بالرغم من ثقتنا الكبيرة في الحركة الشعبية وقائدها قرنق ، إلا أن أكبر خطأ إرتكبه أبناء النوبة هو تفويضهم لقرنق في مؤتمر (كاودة) ليتحدث نيابة عنهم ، لكن هذا لا يعني بأن يلتزم أبناء النوبة جانب الصمت ؟ !! .. ويصبحوا (فراجة) حتى يصير الخطر ماثلاً ومن يعتقد ذلك .. بأن النوبة ليس لهم الحق في إختيار مصيرهم ومستقبلهم في هذا المنحنى الخطير من المفاوضات الجارية فهو واهم.

فالنوبة هم الذين يبلوروا أهدافهم فأي تخلي أو مساومة من جانب الحركة مع الحكومة أو تفريط منها .. تعتبر خيانة عظمى .. لمشوار النضال المسلح ، وما تم عليه من إتفاقات بين قيادات النوبة وقيادات الحركة الشعبية وقرنق يعلم ذلك .. في الوقت الذي تخلت عنها كل الفصائل الجنوبية الآخرى وحاولوا شق صف الحركة ونسفها ، لكن أبناء النوبة الوحيدون الذين تمسكوا بثبات وقفوا دفاعاً عن الحركة وأهدافها مما أوصلها إلى ما هي فيها اليوم.

ولذلك لا بد من توجيه خطاب شديد اللهجة لقرنق نحذره فيه من مغبة التخازل أو المساومة بقضية جبال النوبة والنيل الأزرق ، بالرغم أن موقف الحركة حتى الآن من المناطق الثلاث ثابت ورفعت تصور سياسي وإقتصادي واجتماعي رأت فيه كل الجوانب التي تهم هذه المناطق .. وتعتبر هذه الورقة ملبية وترضي طموحات أبناء المناطق الثلاث بإعتبارها من الحلول الناجعة والشاملة ، عكس ورقة الحكومة (الهايفة) والتي لا تساوي مداد الحبر التي كتبت بها!!!.

لا نستطيع التنبؤ بقطع الشك ماذا يحدث في الأيام المقبلة ؟ .. ولكن الإتفاق قادم .. والتخوف بدأ ظهوره بعد إتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية الذي لم يلبي طموحاتنا نحن كنوبة أو أبناء المناطق الثلاث ، رغم أن موقف الحركة الشعبية مازال راسخ وثابت حيال تمسكهم القوي .. بإعتبارها مربط الفرس ، فإذا لم تحل فلا سلام أو توقيع إتفاق نهائي مع الحكومة .. إلا إننا نتوجس خيفة بأنه قد تمارس ضغوط شديدة من (الإيقاد) وشركاء وأصدقاء الإيقاد والمجتمع الدولي على الحركة الشعبية لتقديم تنازلات إسوة بأرتال التنازلات التي قدمتها الحكومة مما تشجع لدعوة الحركة الشعبية للمساومة بقضية جبال النوبة والنيل الأزرق وحينها تعتبر قمة الخيانة من قرنق.

والمبررات التي صاغها وما زال يبشر بها الرئيس البشير .. بأن جبال النوبة والنيل الأزرق جزء من الشمال ولا يمكن (أن نفرط في شبر منها لان أي تفرط فيها تفتح الشهية للمناطق الآخرى في الشرق ودارفور والشمال للمطالبة بالمثل) .. لكننا نعتبر هذه الصرخات هي صرخات شخص (مستغيث) .. و(غريق) يحاول التعلق (بقشة) .. والمثل عندنا (بقول الكلب البعوي لا يعضي) .. فهذه الصيحات ليس لها أي مبرر أو منطق .. كيف يعقل لمناطق حملت السلاح وقادت النضال لأكثر من (18 سنة)، وقدمت دماء وأرواح، وفقدت كل غالي ونفيس، ومورس معها أبشع أنواع التصفية والتطهير العرقي والتشريد لجزء كبير منهم ، وتفريغ بعض المناطق من سكانها أن تساوى بينهم مع (مناطق آخرى) لم تدخل الحرب إلا حديثاً .. ونحن لا نود أن نغيب دورهم أو نقلل من شأن المطالبة بحقوقهم فمن حقهم أن يطالبوا بما يرونه.

لكن لا بد أن نأكد أحقية النوبة في حق تقرير مصيرهم لو منح الجنوب حق تقرير المصير، فليس هنالك ما يمنع ذلك الحق المشروع للنوبة ، فأي إتفاق لم يضمن ذلك قابل للتقويض في أي وقت .. فالنوبة قد خاضوا نضالاً مريراً لسنوات طويلة مع الجنوبين في (خندق واحد) ، لذا فهم يرون أن أي حق يمنح للجنوب لا بد أن يمنح لهم أيضا ً، فيها ينالون الحكم الذاتي الكامل والشامل يحكمون أنفسهم بأنفسهم .. لأن التجارب التاريخية لشعبي جبال النوبة والنيل الأزرق مع حكومات (الخرطوم) على إختلاف ألوانها .. مدنية أم عسكرية .. كلها تجارب سلبية ، ولذلك فإن هذه الشعوب لن تثق في الوعود البراقة (الكاذبة) ولن تقبل بالحلول الوسطية .. إذ إنه لا بد من وجود ضمانات قوية تمنع إستمرارية التهميش والإضطهاد لسكان هذه المناطق .. تكفل لهم حقوقهم الجماعية والتي يجب أن تنال الإحترام والتقدير.

فإن الحقيقة التي نشير إليها هنا بأن شعبي جبال النوبة والنيل الأزرق .. سوف لن يقبلوا بأي شي أقل من حق تقرير المصير أو الحكم الذاتي كضمان لهم .. ولا شك في أنه إذا منح هذا الحق فهناك إحتمال قوي أن يتحقق السلام والوحدة في السودان ، وإلا سوف يستمر أبناء جبال النوبة في حمل السلاح ومواصلة مسيرة النضال المسلح .. إقتداءاً لمقولة المناضل نيلسون مانديلا  .. (لا يوجد ظلم طالما هناك غابة) .. وبعدها نقول للجنوبين (أرضاً سلاح) .. لأن الصراع في جبال النوبة من أجل البقاء .

لذلك نحن أبناء جبال النوبة نود أن نؤكد للجميع بأن النوبة وحدويون ثابتون على هذا المبدأ وصادقو العزم .. وهم يرون أن مصالحهم مقرونة بخلق دولة السودان الجديد ، التي تسودها الديمقراطية العادلة الشاملة يتمتع فيها الجميع بحقوقهم المشروعة ، وأن يحكموا أنفسهم في ظل حكم ذاتي لفترة ست سنوات خلال الفترة الإنتقالية ، وبعدها يخيروا في تقرير مصيرهم وشأن مستقبلهم بالإنضمام لأحد الأطراف (الشمال) .. أو (الجنوب) .. أو السودان الجديد في حالة تصويت كل الأطراف والإجماع على الوحدة .. أو تصبح جبال النوبة دولة لها كيان قائم بذاته في حالة فشل كل الخيارات المطروحة سوف تكون هذه آخر الخيارات .. وجبال النوبة مؤهلة بكل تأكيد بما تزخره من مقومات بشرية ومادية أن تصبح دولة .. لأننا لا نريد أن نقود تجربة إستعماراً جديداً (الجنوب) .. بديلاً للإستعمار الأول (الشمال) من بني جلدتنا ،  لأن ظلم ذوي القربة (أصعب) .. الذين سلبوا كل حقوقنا .. وما زالوا يهرولون خلفنا للإستسلام أو تعويق مسيرة السلام وهذا من نسج ضرب المحال.

 

القاهرة -  25 نوفمبر 2003 م

 

 

آراء