المناقل 2063

 


 

 

لمن يهمه الأمر سلام
ذهل الناس أمام كارثة فيضان غير مسبوق، في الذاكرة الواعية لأجيالنا المعاصرة، بمشروع الجزيرة. إذ غمر الفيضان أجزاء واسعة من مدينة المناقل والقرى المجاورة الواقعة نحو الشمال والشمال الغربي. وقد أحدث خسائر في الناس وإنهيار مساكنهم وفقدان أمتعتهم. ما ظهر في الوسائط. وما خفي. والحدث مذهل في ذاته. وقد حفزني (أنا الصادق عبدالله عبدالله)، كإختصاصي تنمية، قضيت عقودًُا في الممارسة والتفكير التنموي أن أكتب. وأن تعرض هذه الأفكار والمشروعات للتقييم والتقويم، ومن ثم القبول أو الرفض أو التعديل. ولابد، كمان من التشجيع والدفع إن كان فيها ما ينفع الناس، وليذهب الزبد جفاءاً. ولا بد أن يعتبر هذا التقرير مسودة أولية قابل للتطوير والتحسين حتى يستوي على سوقه.
هذا بحث قصير، يحاول أن يفحص الأسباب الجوهرية (root causes)التي أدت إلى فيضان وغرق قرى المناقل في أغسطس 2022م. كما يخلص إلى مقترحات محددة، يمكن أن تجعل منه مقترح خطة عظمى. وقد يسرت المعرفة المتدفقة هذا البحث. المعرفة التي أتاحتها توثيقات الموثقين عن مشروع الجزيرة (عدد من الكتب المتاحة). أما مصادر الشبكة المفتوحة، بما فيها الدراسة التي أعدت للتعمير 2016 . فهي الفيضان المعرفي بحاله. والنتيجة هي حقائق تذهب الجهل وترفع الشك. فعسى هذا التقرير أن يضعني والقارئ الكريم في عتبة متقدمة مضيئة. وأهم منا الإثنين ليعلم صانع القرار أن المعرفة الحقيقية المثيرة، تجعل توقعات المهندسين، بل وما فوق خيال غير المختص شيء حقيقي، هذا إلا إذا ارتضى مهندس ما ذلك الوصف (الحدث فوق التوقعات). حينها ربما الأوفق أن يتنازل عن صفته المكتسبة، ويقعد بس.
كنت قد كتبت عمودا في صفحتي لمرتين بعنوان لماذا غرقت المناقل؟. ولم اقتنع بالكثير من تعليقات المعلقين، ومنهم المختصين. تبريرات كثيرة، بما في ذلك الرأي الذي يقول بأن حجم الفيضان كان فوق توقعات المهندسين والتي كانت في حدود (25-45 مليون متر مكعب)، حسب إفادة المهندس حسن أبو البشر.
وعدم قناعتي المبدئبة دفعتني لمواصلة البحث والسياحة في المعرفة. فأعدت السؤال كرتين: فما هي يا ترى الأسباب التي أغرقت المناقل؟ وقناعتي ولا تزال أنها لم تكن فوق توقعات المهندسين في وزارة الري والجامعات المنتشرين على طول البلاد وعرضها. بل ربما لم تكن فوق توقعات شخصي الضعيف غير المتخصص في تقنيات الري. قناعتي أن الإهمال واللامبالاة، وكذلك الأخطاء الهندسية، كما يتضح، تفعل أكثر من ذلك. ولعل نتيجة البحث تثبت كل ذلك. ليس فقط قطاع المهندسين. لكن المهندسين عليهم حسن العبارة، الكفيلة بأن ترفع عنهم المسؤولية. وقد قالوا أن عدم التمويل كان عائقاًَ.
مصادر المعلومات:
دلفت إلى مكتبتي التي ترفدني بمعلومات موضوعية غزيرة، جرت على أقلام وأفكار مهندسين وعلماء. فقد شملت مراجعي المتاحة في مكتبتي الصغيرة: كتاب (تجربة حياة في مشروع الجزيرة 1948-1980). المفتش الزراعي يوسف عبدالله الكارب، والذي عمل في فريق إنشاء مشروع المناقل، منذ بداياته. ثم الكتاب المسمى، (تاريخ الزراعة في السودان) لمؤلفه المرحوم حسن متوكل، الوكيل الأسبق لوزارة الزراعة، والمحافظ الأسبق لمشروع الجزيرة. ثم كتاب (ملامح من الجزيرة، المشروع القرية والمجتمع)، للشيح محمد عبدالله الوالي، المعلم والنائب البرلماني وممثل المزارعين. بل كان بين كتبي، كتاب (الجزيرة قصة تنمية في السودان) لأخر مدير لمشروع الجزيرة المستر أرثر جيتسكل، ترجمة الدكتور عوض حسن محمد أحمد. وكتاب مشروع الجزيرة القصة التي بدأت لمؤلفه جلال الدين محمد يوسف. ، الأمين العام بمجلس إدارة مشروع الجزيرة. ثم كتاب (مشروع الجزيرة الاسطورة الحية) للدكتور سليمان سيد أحمد،. ثم كتاب الجزيرة، قصة مشروع ورحلة عمر، مذكرات عمر محمد عبدالله الكارب (نسخة اليكترونية). ثم كتاب الدكتور محمد عبدالقادر أدم المسمى أثر السياسات على المزارعين، الانتاج واستخدام الموارد بمشروع الجزيرة، (رسالة دكتوراة باللغة الانجليزية).
تابعت في الشبكة الدولية التقارير الإعلامية المختفلة، بما في ذلك البث المباشر (اللايفات) لبعض المنفعلين بالحدث. وكان بين تلكم المواد المؤتمر الصحفي لوزير الري المكلف (22 أغسطس 2022). ثم ندوة انعقدت بواسطة مكتب التنسيق الهندسي أبانت بعض الحقائق.
لعله من المنطق أن نتابع وندرس بعض الخلفيات التي تعطينا تبريرا كافياً عن الفيضان الذي حدث هذا العام (2022). فبرغم كثرة الحديث، كان العرض العلمي والمعلومات الوفيرة التي عرضها وزير الري السابق، البرفسور ياسر عباس، كانت متميزة. أضعفها لدى المشاهد الإخراج الفني في الحلقة المنشورة. وبرفسور ياسر هو مهندس مدني حاصل على درجة الاستاذية في مجال هندسة المياه. ولابد أن برفسور ياسر ليس ذلك الذي يفوق الفيضان توقعاته.
مشروع الجزيرة وامتداد المناقل:
تشير الوثائق أن مشروع الجزيرة، تم تأسيسة لري وزراعة مليون هكتار (اثنين وواحد من عشرة مليون فدان. وأنه بتنفيذه قد ضم 114 ألف زارع. ويدير المشروع مجلس إدارة يعينه مجلس الوزراء. ويعمل بالمشروع نحو ستة ألف من الكادر البشري من إدارة الغيط والري والشؤون الهندسية والمحالج والسكك الحديد. إذ وصف مشروع الجزيرة أنه المشروع المروي الأكبر في العالم، وشبكة الري هي الأضخم في مكونات المشروع الأكبر. يقدر الطول الأفقي للقناة الرئيسية ب 323 كيلو متر من سنار وحتى الباقير في مشارف الخرطوم. تخرج القناتان الرئيسيتان عبر خمسة وعشرين باباً من خزان سنار، لتندمجان في قنطرة 57، ثم تخرج من هناك قناتان تتفرعان حيث شيء لهما.
مشروع المناقل جزء لا يتجزأ عن مشروع الجزيرة. فهو فقط يتميز بناحيته الجغرافية. فكل نظم الري، الزراعة، والإدارة كلها تحت مدير واحد ومجلس إدارة واحد، وتتم تنقلات العاملين داخل المشروع بذات النسق. فمشروع المناقل هو الجزء الغربي من مشروع الجزيرة. فكل ما يعني مشروع الجزيرة يعني إمتداد المناقل. وامتداد المناقل يمثل 40% وبقية المشروع تمثل ال60% الباقية. يذكر يوسف الكارب في كتابه المسمى (تجربة حياة في مشروع الجزيرة، أن مشروع المناقل ظل خطة على الورق طيلة فترة الحكم الثنائي. وباكتمال تنفيذ مشروع المناقل بايدي سودانية ارتفعت مساحة مشروع الجزيرة إلى اثنين مليون ومائة الف فدان.
وقد أنشئت وقتها إدارة الري ورئاستها في أربعة وعشرين القرشي. وأرض المناقل، بل أرض الجزيرة، أرض منبسطة (مثل ميدان كرة القدم). كانت أرض المناقل قبل المشروع تزرع بالذرة في الخريف. ولعدم وجود الماء كان السكان في الصيف يتجمعون في قرى صيفية، يتوفر فيها الماء وهي: المناقل، الشكينيبة، معتوق أبوعون، التقلاب. ثم يتفرقون مع نزول المطر. نفذ المشروع في الفترة 1958 ـ 1962، بزراعة 800 ألف فدان. ثم المرحلة الخامسة كانت تتمة خمسين الف فدان.
ولقد صممت قناة الجزيرة الرئيسية لتسع 19 مليون متر مكعب. وقناة المناقل ل11 مليون متر مكعب، ل ويتمدد مجموع قنوات الري لأكثر من 35000 كيلو متر طولي، منها 2300 كيلومتر قنوات رئيسية، 10000 كيلومتر قنوات فرعية. ثم شبكة مصارف تبلغ 2700 كيلومتر. ومن القناة الرئيسية تخرج القنوات الميجر major canals. ويبلغ مجموع القنوات الميجر 643 كيلومتر (ضعف مسافة الخرطوم سنار). من القنوات الميجر، تخرج الترع الفرعية التي مجموع طولها 3229 كيلومتر. يلى الترعة الفرعية قناة ابوعشرين التي توفر الماء للحواشات عبر جداول تسمى أبوستة. ويصل طول أبو عشرين إلى 1400 متر. وتنظم حركة إنسياب الماء بواسطة المهندسين والفنيين في البوابات وخفراء الترع وحتى المزارعين عبر مواقيت زمنية محكمة. ومعادلة الري تحكمها متغيرات عديدة، أطرافها طور العملية الحقلية والنبات داخل الحقل وعملية التبخر حسب الموسم، وغير ذلك. (جلال الدين محمود).
تفيد الدراسات أنه رغم عظم المشروع وإضافة امتداد المناقل بايدي سودانية، لم تزد المساحة التي زرعت فعليا في مشروع الجزيرة طيلة عمره المديد عن 76% . وقد كان المحدد الرئيس هو الري. (سليمان سيد أحمد، مشروع الجزيرة الاسطورة الحية 2002). وهذا لعمري مربط عدم كفاءة عظيم. اي أن المشروع طيلة عمره يعمل بكفاءة أقل ب24% من قدراته. هذا غير ظروف وملابسات عدم كفاءة لاسباب أخرى موسمية وغير موسمية. يعني الأرباح في حق الله. لذلك يكون منطقي أن المشروع ظل يتلاشى بالبطء مع كل عدم كفاءة لاحق( في الزراعة وفي المدخلات وفي النقل وفي الحليج وفي التسويق، وهلم جرا. إذا كان التلاشي بمعدل 1% سنويا، يكون المشروغ في 74 سنة قد تلاشى. طبيعي أن التقادم يقلل الكفاءة. ويرفع التقادم بالابتكار والتجديد وإعادة الإعمار وتغيير الخطط. لكن مثل حدث غرق المناقل سيمسح المشروع من الوجود في وقت أقصر. ولا بواكي للفردوس المفقود.
يتفق أن المحدد الكبير والمهدد ذلك هو الري. والحقيقة بأن شبكة قنوات الري بآلافها المؤلفة من الكيلومترات، التي تدار عبر عدد مذهل من البوابات الكبرى والأبواب الثابتة والمتحركة. وتقدر جملة الأبواب ب28000 باب. مصمم معها مساقط ومنشاءات مداخل ومخارج تبلغ 3500 لتنظيم عملية الري. مع كل هذا الحجم من الفنيات الميكانيكية والهيدرولوجيه والطبوغرافية والموارد البشرية بما لها وما عليها. وقد صممت هذه الشبكة الضخمة وملحقاتها قبل قرن من الزمان، وآخرها، بحسب تأريخ نشاة مشروع المناقل، قد قارب السبعين عاماً. فكم يا ترى حالة الإهلاك السنوي، وما يقابله من إحلال وابدال، بغض النظر عن الحاجة للتطوير بحكم التقدم التكنولوجي وخطط التطوير.
وقد بينت الدراسات أن شبكة ري المشروع تستقبل إطماء سنوي بمعدل 16 مليون متر مكعب. بمعنى أن الطمي لعام واحد يمكن أن يملأ 84% من الترعة الرئيسية من سنار حتى الباقير. لابد من تخيل أنه إذا أخترعنا وسيلة لإبقاء الطمي داخل الترعة الرئيسية لمشروع الجزيرة فستكون الترعة الرئيسية في عام واحد عبارة عن جسر من الطمي الممتد بين سنار والباقير. وإذا لدينا وسيلة لوضع كتلة الإطماء السنوية المتخيلة، كتلة فوق كتلة، فسيرتفع حائط من الطمي بارتفاع مترين، وعرض عشرة أمتار على الأقل سنوياً. فلا بد إذن أن الإطماء هو مشكلة الري الكبرى في الترع وفي المصارف.
فالإطماء حسب دراسة دكتور سليمان سيد أحمد (2002) أنه سبب رئيس للإختناق تحديدأ في امتداد المناقل، وأكثر تحديدا في فرع الكوة، معتوق، الشوال، التحاميد، الكريمت. والإطماء معه آفة أخرى هي الحشائش. والمصيبة الأكبر هي الصيانة التي تتعامل بإزالة الإطماء بحجم الطين المزال، دون التقيد بالأعماق والمناسيب، مما جعل الترع عبارة مجاري مائية غير منتظمة القاع. ليكون ضرر الصيانة أكبر من نفعه.
إن التردي ألذي أصاب المشروع بدءاً، هو بسبب تردي بنيات المشروع التحتية، وأولها بنيات الري، والوحدات الهندسية ووسائل النقل والإتصال. وموضوع الإتصال والذي غير شكل العالم يخبرنا أننا في السودان مصيبتنا أكبر مما نتصور عن أنفسنا. وأرجو أن أفصل في ذلك لاحقا. طبعا إلى جانب تدهور مدخلات أخرى وأولها المورد البشري، الذي يعني (نحن). وأننا لا بد أن نعترف بهذا التدهور الماحق.
الخصائص المناخية لمنطقة المشروع:
جغرافيا يمتد مشروع الجزيرة من الجنوب للشمال لمسافة 300 كيلومتر، من منطقة أمطارها في حدود 400 ملمتر في العام في الجنوب. إلى منطقة معدل أمطارها 200 ملم في العام في أقصى الشمال. أما مشروع امتداد المناقل فينحصر في الجزء الأوسط الغربي للمشروع.
ولعدم توفر محطات رصد، وللأسف، مما قد يعني أن عنصر المطر في المنطقة قد أسقط من معادلة الري. والحديث عن هندسة وحساب. ليس معدل المطر فحسب ، بل معدلات الحرارة وحساب البخر. لكن في حالة التبرير لغرق المناقل تم إدخال معادلة (أمطار سنار مدني الدويم). بأن ذكر لنا في العرض أنه يمكن حساب متوسط معدل الأمطار في منطقة المناقل، عن طريق حساب متوسط من ثلاث محطات هي: الدويم في الغرب (300ملم في العام) وسنار (415 ملم) في الجنوب. وود مدني (240ملم) في الشرق. وبالنسبة لمنطقة المناقل المتوسطة للثلاث محطات المذكورة، يكون متوسط الهطول في المناقل هو 315 ملم في العام. بالطبع ذلك لا يغني من وجود محطة رصد في قمة جبل سقدي، وفي أربعة عشرين القرشي وأخرى وثالثة ورابعة، ولتبقى الحقيقة.
وماذا تعني 315 ملم في العام؟. ببساطة هذا الرقم (315 ملم في العام)، وإرجو أن أراجع إن إخطأت، يعني كمية الماء التي تسقطت خلال عام، على مساحة قدرها متر مربع تساوي 315 لتر في منطقة المناقل. وهكذا فعندما تسمع في أي نشرة أن كمية المطر خلال الأربعة وعشرين ساعة الماضية تساوي 25 ملم؛ فهذا يعني بالضبط 25لتر/ لكل متر مربع. من الأرض. فكمية الماء التي تهطل لكل متر مربع من الأرض في منطقة المناقل خلال عام تساوي 315 ليتر لكل متر مربع. نعم هذه الكمية تسقط خلال عام. وفي عدد من الشهور. توزع على أيام مطيرة، عادة في الفترة يونيو إلى سبتمبر من كل عام. ويذكر في نشرات الطقس اليومية أن أمطار خفيفة بلغت 10 ملم، أو متوسطة 20-30ملم، أو غزيرة وصلت إلى 40ملم أو حتى ارتفعت إلى 100 ملم. وهناك بالطبع منطقة هضبة المناقل المحصورة في مثلث المناقل/ ربك / سنار. فمساحتها تعادل مساحة مشروع المناقل أو أكبر من ذلك.
قد يبدو الرقم 315 لتر لكل متر مربع كبير. ولأضرب مثال في الأيام الممطرة الغزيرة. إذا ترك طشت غسيل في فناء المنزل وهطل المطر ليلا، تجده يمتليء. والمطرة الغزيرة شأنها أن يسيل الماء فيجري للمنخفضات ومنها الخيران والوديان والانهار ومنها البرك. نعم كبير وهي الحقيقة، لكن الأمطار فيه موزعة على فترة تصل إلى ثلاثة أو أربعة اشهر. لكن في حال الفيضان وإنطلاق السيول ستكون المياه مضاعفة لكمية الماء التي هطلت في بقعة واحدة.
للأسف لم تنم ممارسة ولم تنتشر ثقافة قياس المطر في السودان. تركت لأكثر من مائة عام تقاس بواسطة مكاتب الإرصاد التي لم تزد عن عشرين محطة في السودان. ومن حسن تجربتي أني عملت بكادقلي في مشروع التنمية الريفية بجبال النوبة. وكان لدينا مقياس مطر في مشتل برئاسة المشروع، يقرأه العمال ويسجلون النتيجة في دفتر تقريرهم اليومي. وكان يمكن أن تكون في منطقة المناقل أكثر من عشرين محطة قياس مطر. فقياس المطر ليس أكثر من اسطوانة بمساحة مقطع 100 سم مربع (قطرها 11.6 سم). يقرأ الماء مرة خلال 24 ساعة، عادة في الصباح الباكر مع بداية اليوم العملي.. بواسطة اسطوانة زجاجية أو بلاستيكية مدرجة. فعندما يكون الإرتفاع 20 سم للمتر المربع، يعني إن كمية الماء فيه تساوي 20 لتراً، ويعبر عن كمية المطر بـ 20ملم وكأنك أفرغت علبة ماء كبيرة (20 لتر تباع في المحطات) على مساحة قدرها متر مربع. أما حديثاً فهناك أجهزة (في حجم غلاية الماء أو أقل) قراءة ذاتية (أوتوماتيكية) تقرأ وترسل النتيجة لصاحبها يقرأها من ساعة يده أو تلفونه المحمول. ظللنا نتحدث عن المطرة بأنها تقيلة أو خفيفة أو سالت، الأمر الذي يثبت بعد ثقافتنا عن استخدام التقنيات، هذا فضلاً عن بعدها عن استبصار النماذج واستبطان الخطط، والتفكير في الحلول، ودرء المصائب قبل وقوعها.
على كلٍ، من هذه المعادلات البسيطة، يمكن حساب كل الهطول في مشروع المناقل. بل في كل السودان (كم يا ترى كمية الماء الذي يهطل في السودان؟، وهو أحد الدوافع غير المرئية للأطماع في السودان. هل تتخيل قارئ العزيز أن متر الأرض في الدمازين وفي القضارف وفي كادقلي، وفي برام وفي أم دحن وفوربرنقا يستقبل في العام ماء يصل إلى 600 لتر في العام. وهذا ما يفسر تعرض أجزاء واسعة من السودان إلى فيضانات لم نحسن حصادها كما يجب وينبغي.
دعنا ندخل في هذه المغامرة، وليصححنا المختصون. إذا كانت مساحة مدينة المناقل وما حولها فقط تساوي 1010 x كيلومترات مربعة. فإن كمية الماء النازلة فيها بحسب المعدل السنوي المحسوب تساوي 3151000 X 10 X10X 1000 تساوي 31.5 مليون متر مكعب من الماء. وفي وجود طبوغرافيا (سطح الأرض) والقنوات بصورة متعامدة، فتخيل قارئي العزيز، كيف يكون الفيضان في كل منطقة المشروع التي تبلغ مساحتها 800ألف فدان. بل كيف عندما يسيل عليه ماء من (هضبة المناقل) وهي مساحة أخرى مساوية. ببساطة يكون حجم الماء في المشروع كما لو أنه في منطقة في أقصى جنوب النيل الأزرق.
لكن لطفاً من البارئ عز وجل، فماء الأمطار المتساقط يتوزع على الأيام، وتتقاسمة ثلاث عوامل. ما يغوص في الأرض ومنه ما يتبخر. أما يسيل في سطح الارض إلى الأودية فيشكل المجاري ثم البرك. وما أنتم له بخازنين .
كيف يجري الماء الزائد في منطقة المناقل:
من المعلومات الأساسية التي لا يحسب لها كثير حساب هو سطح الأرض في منطقة الجزيرة ككل، وفي منطقة مشروع المناقل تحديداً. إذ تعتبر سنار هي أعلى نقطة في المشروع (430 متر فوق سطح البحر).. ويتساوى ارتفاع مدني والمناقل (412 متر). ثم تنحفض بقية الأرض لتصل إلى 380 متر في الخرطوم. والمذهل الأخر هو الانحدار في كل المسافة بين الخرطوم والمناقل، ولمسافة 130 ميلومتر، لا يتجاوز 25 سم لكل كيلومتر (يا إلهي) يعني يساوي درجة واحدة في سلم عتبة البيت. بكلمات أخرى أن ارتفاع المناقل من الخرطوم تساوي عشرة طوابق فقط من نوع الثلاثة أمتار.
غير أن هناك هضبة جنوبي المناقل والممتدة إلى الغرب من سنار. وبما فيها من نتوءات جبلية تبلغ حتى 600 متر وفيها جبل سقدي وجبل موية. وهذه الهضبة تماثل مساحتها مساحة مشروع المناقل. وبحكم ارتفاعها ينحدر منها ماء الأمطار المتدفق. فالذي يراجع ميلان الأرض في منطقة الجزيرة عموماً والمناقل خصوصاً سيتأكد تماماً أن أرض الجزيرة، عدا هضبة المناقل، مسطحة وبأقل ميل. الجدول أدناه يوضح ميل المدن حتى الخرطوم شمالا وكوستي إلى الجنوب الغربي من المناقل. وأن أفضل ميل مجاور لتوجيه المصارف هو الميل نحو الكوة الذي يبلغ 37 سنتمتر لكل كيلومتر. لذلك تم تصميم مصرف الشوال الذي يصب في النيل الابيض جنوب الكوة. ورغم ذلك فهو ميل ضعيف. فالميل 37 سم ينفع فقط لفناء منزل طول ضلعه 35 متر، الذي به يمكن تصميم شبكة الصرف الصحي للبيت. وبهذه المناسبة، مشكلة الصرف الصحي في الخرطوم وراءها عدم وجود ميل كافي، فتتم مساعدة الصرف الصحي بالضخ. وفي حالات انقطاع الكهرباء يفيض فيملأ الطرقات، كما هو مشاهد.
لذلك بسبب عدم وجود ميل كافي في كل منطقة المناقل، فأن حافة الجدول ابوستة (50 سم) كفيلة بحجز السيل خلفها لمسافة كيلومتر بالتمام والكمال. وهذا ما يفسر أن الغرق في منطقة المناقل وتراكم الماء بارتفاع 70 سم في القرى التي تعرضت للغرق، هو مقابل لارتفاع قنوات الري أبو عشرين والفرعيات. للمتابع نجد إن ممارسة أهلنا المزارعين في زراعة التروس توضح لنا ذلك، أنهم يحجزون الماء خلف جسور ترابية لا تزيد ارتفاعا عن 50 سنتمير. ومن الممارسات التي تثبت تساوي السطح، تلكم الممارسة في مشروع التي تتم بالري الناكوسي (الري عكس الإتجاه). أي ببساطة لا يوجد ميل. ومن ثم يمثل هذا الميل المستحيل تهديداً ماحقاً. وبهذا السطح المنبسط، فإن حواف الترع كبيرها وصغيرها في شبكة ري المشروع تمثل حواجز وجسور أمام الفيضان. ثم هناك طريق الأسفلت نفسه قد مثل عائقاً أمام إنسياب الماء نحو المصارف والتي، بما سبق ذكره لم تعد تؤدي دورها.
المدينة الارتفاع عن سطح البحر البعد بالكيلومترات
عن المناقل الارتفاع بالامتار عن المناقل الانحدار سنتمتر لكل كيلومتر
1 سنار 430 96 18 19
2 المناقل 412 00 00 00
3 مدني 412 60 00 00
4 الحصاصيصا 388 65 -24 37
5 كوستي 386 130 -26 20
6 الكاملين 386 96 -26 27
7 الكوة 384 75 -28 37
8 الدويم 382 78 -30 38
9 القطينة 381 97 -31 32
10 الخرطوم 380 160 -36 23

فماذا حدث بالضبط هذا العام (2022) وتسبب في غرق المناقل؟.
تابعت ما تم بثه في قنوات الإعلام. أولها المؤتمر الصحفي بوكالة سونا لوزير الري بتاريخ 22 أغسطس 2022م GtKJyjZ3Yt4.. والذي قدم تعميمات ومعلومات تفيد عن ما هو دور الوزارة، ونسقها كالجسد الواحد، ومسؤوليتها تجاه الفيضانات التي عمت السودان.
ثم مداولات ندوة اقامها مكتب التنسيق الموحد للمهندسين (على الفيسبوك: مكتب التنسيق الموحد للمهندسين، ندوة بعنوان سيول المناقل بين التنبؤات المناخية والمسؤلية الهندسية، والاضرار والخسائر، 12 سبتمبر 2022م). فرغم كثرة الحديث والمتحدثين، لم تكن التوضيحات كافية بطريقة علمية. أما الخبر اليقين فقد قدمه البروفسور ياسر عباس وزير الري الري السابق. وأهم ما يفهم من عرضه أن شبكة الري قديمة مهترئة. وأن دراسة قد أعدت منذ العام 2016، لغرض صيانة القنوات وإزالة الإطماء من القنوات والمصارف. إلا أنها لم تنفذ.
وقد نفى البرفسور ياسر، وزير الري السابق أن تكون لسد النهضة علاقة بغرق المناقل. فالذي حدث، أن سد النهضة قد حجز المياه خلفه حتى الحادي عشر من شهر اغسطس. بعدها صار الجريان طبيعي. بمعنى أن سد النهضة كسر حدة الفيضان هذا العام، حتى منتصف الموسم.
والفيضان، الذي أغرق منطقة المناقل، هذا العام يعزي إلى سبب رئيس هو هطول أمطار متواترة في منطقة المناقل وما جاورها، فوق المعدلات الطبيعية، تسببت في سيول جارفة flash floods. كما أن ليس لفيضان المناقل هذا العام علاقة بخزان سنار، فجانب إنخفاض مستوى مياه النهر، إذ أن ترعة المناقل تخرج من قنطرة كيلو سبعة وخمسين، شمال سنار، ولا تخرج من الخزان مباشرة وتتجه غربا نحو المناقل، متجاوزة هضبة المناقل العالية من الناحية الشمالية، التي تتراوح بين 600- 400 متر فوق مستوى سطح البحر. وأنه حسب الإفادات أن الترعة كانت مناسيها صفرية. ومن منطقة الهضبة تنبع السيول ويواجهها مصرف الشوال بطول 200 كيلومتر، الذي يلتف حول الهضبة ويتجه نحو الجنوب الغربي.
هذا في وضع كانت فيه أنظم ري ومصارف ري منهارة تماماً بصورة لا تترك مبرراً لأحد. وقد أفاد البرفسور أن مثل هذا الفيضانات تحدث كثيرا في أودية السودان الكثيرة. وأن الوزارة لا تستطيع السيطرة عليها. وقد حدثت هذا العام فيضانات مماثلة في منطقة مشروع الرهد وفي دارفور. ولا تزال الاستفادة من هذه الفيضانات في السودان محدودة. إذ كل ما تستطيعه الوزارة هو أن توفر معلومات للإنذار المبكر من السيول. مع محدودية دقة التنبؤات، إلى جانب ضعف وسائل توصيل المعلومات للجهات المسؤولة والمواطنين. وتحديداً في منطقة المناقل لا يوجد نظام إنذار مبكر. والذي حدث في منطقة المناقل هذا العام لم يحدث من قبل ولسنوات طويلة.
فما حدث هذا العام، هو هطول أمطار غزيرة في المنطقة في أيام 7، 12، 14 ،19 أغسطس على التوالي. ولما لم توجد قياسات للمطر في المنطقة في المنطقة، تمت الاستعانة بقياسات المطر من كل من سنار ومدني والدويم. علما بأن مركز السودان للتنبؤات المناخية قد نشر في منتصف مايو 2022 ، أن توقعات الأمطار في السودان تشير إلى إرتفاع فوق المعدلات الطبيعية. وقد نشر ذلك في نشرة مركز الإيقاد للتنبؤات المناخية منذ مايو الماضي. أكثر من ذلك أن أطلس الإيقاد للمخاطر (الذي أجيز في الخرطوم)، قد حدد تفصيلا مناطق الفيضانات في السودان ومنها هذه المنكوبة تحديدأً. والحدث يفرض مراجعة الأطلس وتحديثه والتفصيل فيه أكثر. خاصة ما يخص إضافة كنتور للخرائط.
التغير المناخي:
ومنذ سنوات بدأ العالم يتحدث عن التغيرات المناخية في العالم. ومؤخراً قد أنجزت بنفسي، ضمن فريق عمل، دراسة إقليمية للتغير المناخي. وقد تأكد لي أن حزام السودان، ومثله القرن الافريقي، ومثله المنطقة العربية، هي بعض أكثر المناطق في العالم المرشحة لآثار تلكم التغيرات. نعم فقد زادت معدلات الأمطار هذا العام في السودان، وزادت معها وتيرة السيول الجارفة من الهضبة. ولابد أن إثر ذلك إنهار مصرف الشوال الواقي، غير المصان منذ سنين أمام السيول، لسؤ حاله. ولقد أفيد بأنه رغم ضيقه أضيف إليه، منذ وقت مضى ماء الصرف من مشروع سكر غرب سنار. هذا وقد أنشئ المصرف بدءاً لحماية منطقة المناقل من الفيضانات المحتملة المفاجئة المندفعة من الهضبة. والذي يصل إلى طول مئتين كيلومتر. لكن هناك معامل آخر، لابد أن يلاحظه المختصون، ومن يراجع خريطة المنطقة ويلاحظ إتجاه المصرف من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي. ثم ينحرف في مسافة ضيقة نسبياً إلى إتجاهه الجديد نحو الجنوب الغربي. وبهذا الجريان مع سؤ حاله، سيكون المجرى عرضة للنحت والهدام في منحناه. وستكون أضعف النقاط هي أماكن الكسور المحتملة.
فقد حدث الكسر، لذلك السبب، ولأسباب أخرى تتعلق بانخفاض حافة جسر المصرف الواقي، وبالأطماء (إرتفاع قاع المصرف) إضافة للمعابر التي أنشئت عليه لتيسير حركة الناس والأنعام وهي تمثل عوائق صلبة. وقد أفيد أيضاً أن بمصرف الشوال نحو من أربعين معبراً، بعض المعابر ينشئها المواطنون لوحدهم، لتيسير حركتهم المباشرة بين جانب المصرف. وقد أشار تقرير البرفسور إلى سؤ المعابر فوق المصرف وفوق ترعة فرع المناقل، بما تسبب في احتباس الماء في المصرف وفي الترع. ذاكراً معبر الدوحة القصيراب الذي به ماسورتين فقط، مع ما بهما من إطماء وحشائش. أما الكارثة الماحقة، قد كانت هي إنشاء طريق اسفلت مدني المناقل فوق الترعة الرئيسية والترع الفرعية الأخرى، بماسورة واحدة (بقطر متر واحد). وفي معبر أم دغينة إلى الجنوب منه بكيلومترات قليلة وحسب تصميمها السابق به خمسة أبواب، قطر الباب منه يبلغ متر على الأقل. وعند رصف طريق الاسفلت فوق الترعة، صمم معبر تحت الاسفلت بباب واحد، مما صنع أختناقاً، ثم كان المعبر هو النقطة الأضعف في الطريق، فانجرف أمام الماء الحاقن في الخافة الجنوبية منه. وقد ذكر أنه لم يكن هناك تنسيق بين مؤسسة الطرق والجسور ووزارة الري عند بناء الطريق. لماذا لم تصعد القضية وقتها لتحل على مستوى أعلي. أو على الاقل يخلي مهندسو الري مسؤوليتهم من هذا الخطأ.
لذلك تعلم وزارة الري، ويعلم المهندسون والذين أفادوا أنهم أقاموا دراسة في العام 2016 (متوفرة في الانترنت)، والتي نتجت عنها توصيات إزالة إطماء وإحلال معابر، فهم يعلمون ويتوقعون الأسوأ. وأنه لم تنفذ الدراسة ببساطة لأنها لم تمول. وقد افاد البرفسور (وزير الري السابق) أن وزارة الري طلبت التمويل من وزارة المالية، لكن لم يمول مشروع إعادة التأهيل الذي اقترحته الدراسة.
كما قد ذكر، وحسب الممارسات الراتبة في حالة تمويل الدراسة ستكون الأولوية لقنوات الري للطلب على ماء الري، وليست الاولوية المصارف. والمؤسف إذا قدمت وزارة الري ميزانية بمائة المائة حسب التكلفة، تتم المصادقة عليها بنسبة مثلاَ 60%، ثم تمول فعلياً بنسبة تقل عن ذلك، لتنحفض إلي 30% مثلاً. بالطبع هذا غير عدم كفاءة التنفيذ، تجعل نسبة التنفيذ متدني. بقى القول عندما لا يعتبر طلب الميزانيات لأغراض فنية، أنّ هذا هو السلوك الذي لا يقيم دولة. لو أن النظم الحاكمة التي أنشات هذا البنيات الضخمة تصرف هكذا، ما كان مثل مشروع الجزيرة يقوم له شأن. وهذا هو من أس سبب الدمار.
النتائج والتوصيات:
بجانب الإطماء، المتراكم، ولسنوات عديدة، افيد في المداخلات أن نظام الصرف يعتبره الكثيرون، ومنهم الممولون والمنفذون، ربما أنه أقل أهمية من الري. ثم بعد ذلك سؤ التصميم الذي ورد (طريق الاسفلت العابر فوق الترعة)، وسؤ المعابر (تصميماً وممارسة)، زاد من مخاطر الفيضان. ثم ماذا بعد؟. قد أفاد البرفسور ياسر، كما أفاد أخرون بأن هناك ممارسات أخرى سالبة. مثل ممارسات خاطئة أهرى تشمل الزراعة من المصرف (موية مجان، وعندما تنقص لابد أن الزارع، سيسحب من الترعة إلى المصرف، عن طريق الكسر أو خلافه. أكثر من كل ذلك السؤ، هو زيادة حجم الوارد في المصرف من جراء قيام مشروع سكر غرب سنار، وإضافة مياه الصرف إلى ذات المصرف القديم الأحدب، والذي تمثل إنحناءته مهدداً لابد أن يحسب ذلك.. مع زيادة الماء وحجم الإطماء. بالطبع هذا خطل هندسي آخر حدث قبل خطل بناء طريق الاسفلت للمناقل. أكثر من ذلك الكسور التي أحدثها (ويحدثها) مواطنون. لعمري إنها جريمة أن يربط مواطناً أو غيره باب ترعة بجرار. هذا وقد افيد أن بعض الكسر إن كان ضرورياً يحدثه المهندسون بحساب، عندما يحتاجون إليه. وهذه هي مسؤلية كبرى وإن صغر الفعل.
نعم كانت أمطار هذا العام 2022 فوق المعدل السنوي، تحديداً أمطار منتصف أغسطس، هطولاً وتكرارأً. وفي حال من تردي القنوات والمصارف، لم يصمد مصرف الشوال الواقي. وقد افاد المهندس ابوالبشر بأن توقعات الجريان في المصرف كانت في حدود قصوى تبلغ 40 مليون متر مكعب، لكن حسب تصريحه بأن الذي حدث فاق التوقعات (أي فاق هذا الرقم). فانهمر الماء إلى داخل منطقة المشروع. تزامن هذا مع كسر أو كسور أحدثها مواطنون، لما رأوا الماء يتزايد. فأحدثوه قبالة مدينة المناقل حماية لمساكنهم. فلم ينجوا ولم تنج المناقل ولا ود الحلاوي ولا قربة الحاجاب ولا غيرها.
تردي قنوات ومصارف الري، وحالة اللامبالاة من الحكومات، وسؤ الممارسات من المواطنين (زراعة المصارف، صناعة الطوب، نزع البوابات وكسر القنوات، رعي الحيوانات ومشيها الدائب على حواف القنوات، نمو وكثافة الحشائش على القنوات. أكثر من ذلك الأخطاء الهندسية البينة، مثل إنشاء طريق الاسفلت دون تنسيق ودون حساب لمسألة الري والصرف، إضافة ماء الصرف من مشروع سكر غرب سنار إلى مصرف الشوال، وانحناءة المصرف، دون تعديل مواصفة المصرف. طبعاَ لا يجدي في هذا الصدد ذكر ذهاب وتفرق خفراء القناطر والبوابات الذين كانوا يتحكمون حسب التوجيهات الإدارية في إنسيابية الري وجريان الماء. ولا يجدي ذكر كل ما أدى إلى إهمال وفقد هذه البنيات لوظائفها. نهضة الأمم لا تتم هكذا. وللأسف هذا حال عبرة لمن يعتبر Perfect Case study.
هذا في الوقت أن علوم التخطيط والإدارة وممارسات الاستثمار، وتقنيات الماء بالتنقيط (لحلاوته وغلاوته ونقطة بتفرق وعلاوته، وصفائه)، تتجاوز الممارسات التقليدية والبنى التحتية القديمة إلى ابتكارات في نظم الري وفي الانتاج وفي تدريب الكادر البشري وفي الاسكان والاستدامة. فمشروع الجزيرة، ومنطقة المناقل تحديدا يمكن أن يخطط لها وتصير معلماً land mark ، ولقد كانت يوماً. وقد سبق أن صممت (بنفسي) مذكرة في مطلع التسعينيات (32 سنة) مشروع للانتاج الحيواني المتكامل للمنطقة المجاورة المسماة العطشانة، والتي قام عليها لاحقاً مشروع سكر النيل الأبيض. أكثر من مئة ألف من الأفدنه يمكنها أن تنتج أعلاف وألبان واجبان ولحوم واسماك. كل ذلك ممكن.
نظرة للمستقبل:
ولقد حدث الذي حدث، فهل هي نهاية الدنيا وقيامة القيامة. والتجربة البشرية من هيروشبما وحتى بنغلاديش التي تغمرها الفيضانات كل عام (وقد زرتها)، وحتى جمهوريات الموز، تقول أن الابتكار والتنمية والرقي ممكن. كما يقول أحد معلمينا: لو توفرت إدارة جيدة. : Under good management. وكذلك لابد من الإرادة الجيدة The good will.
1. بدأت الفكرة بالبحث عن مدى زمني لخطة مستقيلية، ولا بد لاي خطة أن تستشرف مدىً زمني لبناء المناقل وما حولها من السكان. فتداعي في الخاطر مدة الخطة الافريقية 2063 المعلومة. والتي تعني 40 عاماً من الأن. فما هي إذن محاور الفكرة وما هي الأدوات؟. ولابد، إن اتفق على هذا الأمد، أن تقسم هذه الاربعينية إلى آماد قصيرة ومتوسطة وطويلة.
2. كذلك كان التفكير في المعرفة التاريخية والمعرفة الشعبية من دراسات وتقاريروخرائط، تفيد في تجويد التخطيط. فمن الأهمية بمكان البحث عن دراسات قديمة أعطت شأنا لهذه المنطقة. فعلى سبيل المثال عقدت حلقة دراسية للنقل في السودان عام 1968، خرجت برؤي من بينها أن يكون طريقاً قومياً يسمى طريق الانتاج، اشهر محطاته الخرطوم، المناقل، جبل موية ، الدالي المزموم، اقدى وحتى ملكال. ومن المهم تحديث الخرائط والمسميات. وكذلك كانت خطة المخزون الاستراتيجي يوما أن تكون الصوامع الضخمة في جبل موية، في جنوب منطقة هضبة المناقل.
3. التغير المناخي أصبح حقيقة ماثلة، ومؤثرة، في اي عملية تخطيطية. والحاجة في ذلك للمسح، والتخريط وتنبؤات.. ونشر أدوات ومعينات قياس المناخ والمياه.. وتحديث دراسات الارض وطبوغرافيتها. وحساب وتقدير الكؤثراتن لما في ذلك الماء و الهواء والحرارة.
4. ولابد من الوضع في الحسبان أن هناك إحتياجات عاجلة لتخطيط الإسكان، القرى والمدن الصغيرة والكبيرة وخدماتها، الماء والطاقة والصحة والاسواق والصناعات والأنتاج بطرق حديثة مبتكرة. والتعليم والجامعة او الجامعات والكليات التقنية. فحتما أن المنطقة المستهدفة باعادة التعمير لن تكون بذات الخطط والمعايير القديمة.
5. فرصة جديدة لتخطيط القرى والمدن للقرن القادم. وجدت مقترحاً لأحد عن الطوب المضغوط. والقول في هذا أن الأمر يتجاوز مجرد الطوب إلى إساصلاح وتعلية أماكن السكن، وتصميم المباني السكنية والمدراس والمستشفيات وغيرها على أسس جديدة. بل إلى تخطيط المدن. وكيف تستثمر منطقة هضبة (ضهرة) المناقل العالية في الإنشاءات والإسكان. تقنية ومواصفات البناء هي فوق كثير من الخيال المحدود.
6. من خلال ما استعرض في الندوات، ثبت أن هناك نهراً يمتد طوله إلى 200 كيلومتر، يرفده ما يقارب أربعين رافد (خور)، وكم هام ذاك النهر، يسمي مصرف الشوال الواقي. ولابد لهذا النهر (العالي)، لابد أن يخطط له ليستوعب المياه الدافقة من هضبة المناقل، وليكون استثماراً في الري وزراعة الاسماك، وتربية الحيوان وغيرها. ليكون نهر بابعاد (طول وعرض وعمق) جديدة للغاية. هناك التجربة السورية في تطويع نهر العاصي. وليس النهر فقط، لكن بالضرورة صناعة حفائر عملاقة يمكنها استيعاب كافة مياه الفيضان. ولابد أن ماء الصرف بحساب الأمطار، وفوائض القنوات وبحساب طول مصارف الري التي يبلغ طولها الإجمالي2700 كيلومتر، كلها أنهار تتجاوز أطوال الكثر منها العشرين كيلومتر. وكثير منها عبارة عن بحيرات مجيدة.
7. وليتم تنظيم وتطوير صناعة الطوب من الطمي الخيالي، ولتزدهر منه صناعة السيراميك والفخار، وهو أغلى مما نتصور.
8. هذا إلى جانب خصائص أخرى عرفت بها المنطقة في تربية الحيوان وانتاج الغلال والصناعة الغذائية وغيرها.
9. هذه النقاط، لعلها، يمكن تطويرها بالمزيد من الأفكار من خلال استكتاب وحلقات نقاش. ولقد مررت على مجموعات في الاسفير تعنى يتطوير مشروع الجزيرة.
10. ولابد من حساب وتقييم وتصميم كل المدخلات والعمليات والمخرجات بصورة متقنة.
11. ولتنشأ هيئة.. ولتنعقد ورش عمل ومؤتمرات فنية ومؤتمرات مانحين للشأن.
12. مخلصكم الصادق عبدالله عبدالله، إختصاصي تنمية، ومدير التعاون الاقتصادي والتنمية الإجتماعية السابق بمنظمة الايقاد. sadigabdala@gmail.com 249912303136+

sadigabdala@gmail.com

 

آراء