المنطق اللولبي (الدائري) لدي النخب العسكرية والمدنية

 


 

 

لم يستوعب بعد قادة الاحزاب السودانية والقادة العسكريين أن الحرب الدائرة قد جعلت من الصعب الرجوع بالعملية السياسية إلى الوراء؛ لقد تجاوزت الوقائع "الاتفاق الاطاري" متناً وشخوصاً، ولم يعد من الممكن الاستمساك ببنود قد تجاوزها بطلان حراك الفاعلين أو اشتراطات قد زالت بسبب اضمحلال نفوذ المشرفين (الاقليميين والدوليين)، ودخول أخرين كانوا من المتربصين. لقد تحطمت الأرجل العسكرية التي كان يتنزه بها الاطاري وبات من الصعب استنقاذه وهو فاقد اصلاً للأهلية والشعبية، فهذا اتفاق فضفاض لم يعالج القضايا الحيوية، كما أنّه لم تكن لديه شعبية وسط الثوريين، إنّما فقط بين شراذم الهبوطيين (جماعة الهبوط الناعم).

اتخذت (قحت) من الدعم السريع رافعة عسكرية وأوهمت قائده بأن دعم العملية السياسية العرجاء يمكن أن تكون له بمثابة طوق نجاةٍ أو سفر الواحٍ تنجيه من لؤم الرياح الهوجاء، فهناك قضايا تلاحقه أينما ولّى وجهه أو يمم مركبه شطر الشاطئ فلا سبيل يومئذ للنجاة. وقد عبّر عن هذه الورطة بقوله، "مضينا الاطاري ورجلينا في رقبتنا"، بمعنى أنه لم يكن لديهم خيار: إمّا الملاحقة الجنائية أو المضي قدماً. بيد أن هذه الحجة واهية لأن الرجل كان لديه طموحه السياسي الشخصي الذي جعله يتخطى تعليمات قائده بل يشاكسه ويناقض خطابه في ذات المناسبة دونما أدنى داع.

أحكم حميتي قبضته على الخرطوم كاملة لكنّه لم يستطع إعلان حكومته لأنه يعلم أن الاطاري الذي تحجج به لم يكن موضع اتفاق بين المواطنين، كما إنّه يعلم أن الاشخاص الذين يسندونه ليس لديهم أي أهلية تقدمهم للجماهير. الأدهى، من إدّعى نصرتهم خذلوه وجبنوا عن مساندته أو إخراج مجرد مسيرة لتأييده ولو أن تكن هزيلة كالآتي أخرجها الشيوعيون ظهيرة استلام هاشم العطا للحكم. وإذ ييأس حميتي من (قحت) فإنّه يلجأ لدعواه بضرورة محاكمة البرهان، وأنا لا أدري أيّ جريمة ارتكبها الأخر لم يكونا فيها شركاء. أنا أتسأل: هل تم محاكمة البشير حتى يحاكم البرهان؟

بلع حميتي الطُعم من الكيزان ومضى نحو حتفه محدثاً محرقةً لن تقتصر على أعضاء أسرته أو أفراد قبيلته، إنّما ستتخطاهم إلى المحيط الولائي فلا توجد حِلة بدارفور اليوم ليس فيها عزاء سيما أن القتلى من الطرفين هما من ذات الإقليم أو من الهامش الذي أرهقته الحروب . علام يتحمس الكل إذاً للقتال؟ لماذا يقتتل أعز الجند والبلاد في حاجة لمن يحمى حماها؟ لأن هناك قيادات إجتماعية تستغل الحمية في غير موضعها كما أن هناك نخباً سياسية تجعل من فكرها مطية لأطماع العسكريين. إن "التمرد" العسكري يرجع بالكيان القهقرى، أمّا التدافع الديمقراطي فيطور الفكر ويقوي اللحمة القومية دون استهتار بأشواق الأغلبية التي تاقت للإسهام الفعلي -ليس الصوري- في حكم البلاد (في هذه الحالة غرب السودان الذي يتجاوز عدد سكانه ٨٠٪؜ من المواطنين).

لقد مر أحد كبار الجنرالات الاكفاء الذين احالتهم الانقاذ للمعاش بجثث الموتى ومناظر الدبابات المحترقة وهو في طريقه إلى مدني فراسلني وهو يعتصر الماً وقال لي: لا أكذب عليك، لقد تألمت جدًّا وأدركت أن هذا المآل سببه إهمال التدريب، ضعف الكفاءة، الفساد، تقنين المحسوبية، تخطي الأطر المؤسسية، إلى أخره. لقد هزم "التمرد" كبرياء المؤسسة العسكرية لكن ذلك لن يثنيها عن حشد عزمها، تجديد إرادتها، واستعادة كرامتها فور التخلص من قيادتها الحالية بفضل "الكتيبة المخلصة" التي ستعزز من فرصة الالتحام مع الجند وتجدد لها ميثاقها مع شعبها الذي ما زال مؤمناً بقدرتها على النهوض رغم ما شابها من ضمور. حينها ستفتقد كل المليشيات فرصتها للمناورة، المخاتلة، أو الابتزاز: إمّا الامتثال لإرادة الشعب دون شروط أو القتال دون رغبة في النصر، بل إمعاناً في الصلف الذي حذرتهم منه سراً وعلانية.

إن الاتفاق السياسي الذي سيتحقق وقتها بين الجماعات كافة (عسكريين ومدنيين، يسار ويمين ووسط، علمانيين واسلاميين، إلى أخره) ستكون ركيزته "الشرعية الثورية" التي تعزل النخب المتعطلة، تعدم تلك المتآمرة على شعبها، تلغي الشروط المجحفة التي حالت دون إشراك القوى الشبابية الثورية، تفسح المجال لأبناء الشعب المتميزين للاسهام في رفعة بلادهم كلٌ حسب قدرته وعطائه، تزيل الفوارق الطبقية والعرقية بين المواطنين، تقنن الدستور الدائم بعد التشاور مع العلماء المختصين وأصحاب المصلحة الحادبين، تؤمم الثروات القومية مثل الذهب والصمغ العربي، تقيم الصناعات الغذائية في غرب السودان وتلك الكيمائية على ساحل البحر الأحمر، تربط الشرق والغرب بخط سكة حديد، تنفتح على الحزام السوداني، تشيد المناطق الحرة، وتلجم حيل التدخل في شؤون الداخل باتباعها منهجية وطنية صارمة.

ختاماً، لا يمكن لهذه الجريمة النّكراء التي روعت المواطنين وافقدتهم سبل العيش الكريم أن تمر دون محاسبة للعسكريين، كما لا يمكن أن تمر دون مساءلة للمدنيين (قحت من باب التدليل وليس الحصر) الذين تعللوا بالاسباب الواهية التي أعاقت بها سبل التوافق بين "كافة الأطراف" لمدة العام والنصف. أمّا الصحفيين المرتشين والصحفيات المرتشيات فيجب أن يُحرموا من القيد الصحفي وأن يعاملوا معاملة "القونات" إذ لا يوجد بينهم فرقٌ إلّا في "الأدوات"، حتى الأخيرة موضع نظر!

لم يجترئ المجرمون في هذا البلد على المقدس إلّا بسبب عدم المساءلة، بل المكافأة على الأفعال المخزية التي يقومون بها. كنت موقناً منذ فترة من أن تغافلنا عمّا يحدث في الهامش وما حدث في دارفور خاصة سيحدث في الخرطوم وقد صرحت بذلك في منابر عديدة، لكنني لم أتوقع أن تنتقل ذات الشخوص من المسرح الدارفوري إلى المسرح الخرطومي. لعلها إرادة الله التي اقتضت أن يذيق الفاعِلَيْن بعضهم بأس بعض وأن يمس المركز بشيئٍ من البأس الذي ظلت تصدره للارياف في الحقب كافة (والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).

لا أشك في أن الجيش في لحظة ما سيتخلص من قيادته الحالية، بيد أنني موقن من أن قيادة الدعم السريع ستمضي في هذا الطريق إلى نهايته المؤلمة. كلما طال أمد الصراع كلما ازدادت احتمالية نشوب الحريق في الهامش - الدارفوري خاصة، ومن ثمّ عظُم الخَطْب الذي قد يعم معظم أنحاء الحزام السوداني. في ما ينشغل الفاعلون الخيرون من المجتمع الإنساني كافة بإطفاء الحريق، لا أستبعد أن تسعى معظم الدول المجاورة لاقتطاع جزءاً من أرض السودان مستفيدةً من الضعف الذي أصاب قوة الطرد المركزية، لا ننسى قوة الجذب التي قد تأتي بالملايين الجائعين من أنحاء الحزام السوداني (النيجر، تشاد، أفريقيا الوسطى، إلى أخره).

mailto:Auwaab@gmail.com

/////////////////////

 

آراء