المهندس أحمد الطيب بابكر وسلطة الإخوان
أحمل الذكرى من الماضي كما.. يحمل القلب أمانيه الجساما
هات ردّد ذكريات النور في.. فنّك الأسمى ولقّنها الدّواما
ذكريات تبعث المجد كما.. يبعث الحسن إلى القلب الغراما
الشاعر عبدالله البردوني
(1)
ذكرت أيامنا في الإدارة الهندسية بجامعة الخرطوم. حين كان الراحل الدكتور "عبدالنبي علي أحمد" مديرا للإدارة الهندسية ( لاحقا صار سكرتير حزب الأمة إلى رحيله). كان شخصا فاضلا ونبيلا، يختلف عن رئيس الحزب "الصادق المهدي"، أجبر أعداءه قبل أصدقائه على احترام الرجل، وكان مهندسا خبيرا في الهندسة المدنية، وأستاذا مشاركا في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم في تسعينات القرن العشرين. في عهده ازدهرت المشاريع في الإدارة الهندسية، كان رؤساء الإدارات في وزارة التخطيط يستمعون لدفاعه عن المشاريع الهندسية، استماع من يتلقف المعرفة عتيقة من فاه أصحابها، يبدأ بالمقدمة والأهداف والتكلفة. قبل أن تتحول سلطة الإخوان المسلمين في السودان إلى غول شرس، لديه الرغبة في إلغاء إدارة المشتريات بوزارة المالية، وإلغاء وزارة الأشغال، وإلغاء لجان العطاءات المهنية، وتغيرت العملة لتحتفظ السلطة بمال الناس في حسابات إسمية، وتضخّم التمكين لا يخاف حُرمة، ولا يمنعه التباس. و كانت سلطة الإنقاذ تعتقل دكتور "عبد النبي علي أحمد"، كل مرة ولمدة ثلاثة أو أربعة مرات. أحدهم لمدة شهر في بيوت الأشباح، وأخرى في مكاتب جهاز الأمن، ومرة في سجن كسلا، كي تتعثر أسرته الصغيرة ولا تتمكن من زيارته. وصرتُ في كل مرة نائبا له وقائما على أمر الإدارة في غيابه(خادم الفكي)!.
(2)
وذات يوم في العام 1994، أُبلغنا أن وزير التعليم العالي آنذاك دكتور" إبراهيم أحمد عمر" بصدد زيارة تفقدية لمشاريع التنمية بجامعة الخرطوم، والتي هي تحت إشراف الإدارة الهندسية بالجامعة. وقمنا بإعداد تقرير موجز بالوضع الراهن للمشاريع، وموقف الجامعة من دفعات للمقاولين للسيد مدير الجامعة. وكانت الزيارة الأولى للسيد الوزير تختص بمجمع كليات الطب والصيدلة وكلية الصحة.
وقمنا بتجهيز قاعة محاضرات وتشطيبها كاملا، في مشروع مجمّع امتداد كلية الصيدلة. وعقد وزير التعليم العالي اجتماعا بحضور أساتذة كليتي الصيدلة والطب، وبحضور مدير الجامعة بروفيسور "مأمون حميدة" وشخصي ممثلا للإدارة الهندسية. وأوصى الوزير سكرتيره بدفع 50 مليون لشركة دانفوديو، وهي كانت مقاول مشروع امتداد كلية الصيدلة، كمقدم ثان لتكمل إنجازها في الوقت المحدد سابقا، وهو مفاجأة لنا، وكانت الشركة قد فازت بالعطاء وفق مناقصة لجنة العطاءات بالجامعة. ورفض الوزير رأينا بأن دفع مقدم ثان يعد تجاوزا لعقد المقاولة، وقال أنه اتخذ القرار بوصفه وزير التعليم العالي!.
عموما عندما حضرنا لمكاتبنا وجدنا مدير شركة الشرق الأوسط للتشييد، المهندس "أحمد الطيب بابكر" في انتظارنا، وهو الشقيق الأكبر لعضو مركزية الحزب الشيوعي، وشقيق "مختار الطيب بابكر" معتمد الخرطوم أيام حكم نميري. وطمأنته بأن زيارة وزير التعليم العالي لمباني الجامعة بمجمع شمبات، ستكون فرجا، لأن لديه دفعة قبل سنتين بمبلغ 26 مليون جنيه مستحقة الدفع ولم تتمكن الجامعة من دفعها. وكانت شركة الشرق الأوسط للتشييد قد فازت بعطاء تأهيل كلية البيطرة، وهي الآن في منتصف مرحلة التنفيذ:( مبنى إداري من طابقين + مبنى قسم التشريح وهو مكون من سبع طوابق + مبنى المستشفى البيطري ).
*
عند زيارة وزير التعليم العالي دكتور "إبراهيم أحمد عمر" لمجمع شمبات، قمنا بتجهيز قاعة محاضرات في الطابق الأرضي لقسم التشريح قيد الانشاء. وقدمنا للوزير ملخصا بمراحل تنفيذ المشاريع، وذكرنا له دفعة المقاول المتأخرة عامين ولم تدفعها الجامعة. وفاجأنا الوزير بأنه لا يملك شيئا يمنحه المقاول، وسوف يحاول وزارة المالية لتوفير واحد مليون جنيه!!. وكان منزعجا خيب ظنوننا.
(3)
عُدنا بخفي حنين، فقد أعطي الوزير 50 مليون للمقاول الذي ينفذ امتداد كلية الصيدلة وهو لا يستحق، كمقدم ثان في المقاولة خرقا لقوانين المقاولات المعتادة، في حين أن المقاول شركة الشرق الأوسط للتشييد، تقدمت بدفعتها المستحقة قبل سنتين لدى الجامعة تنتظر الدفع، و أن شركة الشرق الأوسط للتشييد تطلب 26 مليون مستحقة، رغم استمرار هبوط سعر الجنيه تباعا, ووعدنا الوزير بمخاطبة وزير المالية!. وتبخر السراب.
عموما ولحسن الحظ أنه في ميعاد المطالبة المستحقة للمقاول و التي كانت تكلفتها 26 مليون جنيه، فإن مهندسنا المقيم في الموقع قد سجل مواد حديد تسليح في الموقع، وأورد سعر الحديد في ذات موعد فاتورة المقاول المقدمة كوثيقة مستندية. وعندما فشلت الجامعة بالوفاء بالتزامها، رأينا أن نقيّم فاتورة المقاول 26 مليون، وتقدمها الجامعة للمقاول عبارة عن مواد حديد تسليح، من التي تم توريدها للموقع في ذات وقت استحقاق المقاول لدفعته، وأوصينا بوقف المشروع. وناقشنا المقاول المهندس "أحمد الطيب بابكر"، ووافق. وكتبنا لمدير الجامعة والسيد الوكيل بطلب الموافقة على الإجراء. وبناء على موافقتهما قمتُ في وقتي الخاص بعمل صياغة للتسوية وأرفقت المستندات الداعمة لها، وبقيت ثلاث بنود لإجراء المفاوضة عليهم في الاجتماع، وبعد موافقة اللجنة التي رأسها السيد وكيل الجامعة، وقّع عليها أعضاء اللجنة، وتم تحديد كمية حديد التسليح الذي سوف تمنح للمقاول شركة الشرق الأوسط للتشييد كتسوية لمستحقاته ( 26 مليون جنيه).
*
انتهى الأمر برضى كل الأطراف على نتيجة وطريقة التسوية، وكنتُ حينها على وشك المغادرة لدولة الإمارات مهاجرا. وسألني المهندس" أحمد الطيب" عن موعد سفري، فكذّبت عليه، لأقطع الطريق على الهدايا التي سوف تخدش التزامي العام، إذ أنني لن أوافق. وقلت له بقي أسبوع، ولكني غادرت بعد التسوية بيومين، ولم أعد للسودان إلا بعد 13 عاما، ورحل المهندس "أحمد الطيب بابكر"، وكانت الإنقاذ تعامله كأنه شيوعي. ألا رحم الله المهندس "أحمد الطيب بابكر " رحمة واسعة، فقد كان وكيلا لوزارة الأشغال في ستينات القرن العشرين. غادر وهو يمثل المقاولين الذين محقت حقوقهم سلطة الإنقاذ.
(4)
نقطف من سِفر مذكرات "إبراهيم منعم منصور" الكاملة شهادته لصالح المهندس "أحمد الطيب بابكر":
صفحة 655
{ صديقي وزميلي - أو في الحقيقة أنا زميله السابق- في عالم المقاولات المهندس "أحمد الطيب بابكر"، ظل يتقدم في كل عطاء يُنشر، رغم أن عددها ظل يتقلص إلى أن توقف.
جاء يوما وفد صيني يطلب منه استئجار معداته في الهندسة والمقاولات، لأن عطاء هام - الذي تقدم له هو أيضا- قد رسا عليهم ، كيف ومن شروط العطاء ذكر عدد وأنواع المعدات التي يملكها المقاول. تبسّم الصينيون كعادتهم متجاهلين السؤال. لم يصله رفض لطلبه، لكن تحت الأمر الواقع والهمس الذي بدأ يسري وسط رجال الأعمال، قام بتأخير معداته.
ذهب وتلاسن مع جهة في وزارة المالية: كيف يمنح عطاء لشركة أجنبية لعمل يمكن أن تقوم به شركة سودانية، وحسب القانون منذ أيام الاستعمار في 1/1/1951 .
شركة لا تملك حتى ( كوريق أو طورية) فقط البسمات المشبوهة.( طيب أرجو أن تدفعوا لي " متأخرات " شركتي لدى الوزارة والتي مرّ عليها أكثر من عام).
اضطر كما حكى لي، أن يشتكي إلى الدكتور "عبدالوهاب عثمان " في وقت ومكان ليسا مناسبين، ولكنه يعترف بأن ( صاحب الحاجة أرعن): الزمان كان بعد صلاة الصبح، والمكان بيت الله في ضاحية الصافية، حيث يسكن الاثنان وحيث مسجد " المسرة" الذي يصليان فيه الفجر.
حزنَ "عبدالوهاب " وسدد له حقوقه. وتوقف بعدها أحمد عن العمل، وظل يؤّجر معداته إلى أن اختاره الله إلى جواره}
عبدالله الشقليني
1أغسطس2020
alshiglini@gmail.com
/////////////////