المهندس: حسن سيد إمام

 


 

 

 

alshiglini@gmail.com


أول مرة التقيته كان أواخر عام 1971، كان برفقتي شقيقه وصديقي " فاروق "، كُنا بصدد إبلاغه بنتائج كلية الهندسة والعمارة ، التي غيرت تاريخ أقرب الأصدقاء إلى نفوسنا. صعدنا الدرج إلى مكتبه. كان وجهه مضيئاً ، خفف وطأة الأخبار بهدوء، فهي في نظره خسارة معركة ولم تكن نهاية المطاف.

بعد أيام تقدم الأصدقاء " فاروق " و " سعيد " و"عبد المنعم " و" أحمد" للبعثات إلى جامعات مصر لدارسة الهندسة المدنية، خلافاً لهندسة العمارة. كانوا ثلة من الفنانين ، تماماً كالذين أسسوا فن العمارة. كانوا مثالاً للفنان التشكيلي " لوكر بزير" ، الذي أسس فن العمارة مطلع القرن العشرين.

بعد تخرجنا في جامعة الخرطوم، التقينا بكبير المهندسين بجامعة الخرطوم المخضرم " عبد الوهاب سليمان "،وتم تعييننا مهندسين في وحدة مباني التي تتبع أصولاً لمكتب كبير المهندسين. بضع أيام والتقى جميعنا بمهندسي مكتب كبير المهندسين مُجتمعين في طاولة اجتماعات واحدة. يتصدرها " عبد الوهاب سليمان" ونائبه " حسن سيد إمام " ومقرر التنمية " أحمد المرضي جبارة " من طرف ، ومن الطرف الآخر " بدر الدين " و " سيد " و " سهام " و شخصي. جمعنا السيد كبير المهندسين لإعداد ميزانية التنمية للعام المالي 1977/ 1978. بدأنا جميعاً بوضع التقديرات الأولية بناء على تكلفة المتر المربع للإنشاءات التي تم تصنيفها كمقترحات لميزانية جامعة الخرطوم للعام القادم. واستخدمنا " التقدير التناظري" للتكلفة قيّم البارامترات مثل النطاق والتكلفة والميزانية والفترة الزمنية أو المخاطر ودرجة تعقيد المشروع، واستخدمنا رأي الخبراء.

سبق للدولة أن حددت أن بنود ميزانية التنمية ،تشتمل على المباني، أما الأثاثات والمعدات التي تتطلب عملات صعبة، فلا تدخل ضمن ميزانية التنمية.

لاحظنا المهندس "حسن أمام" بخبرته العالية قليل الحديث، يُلقي بالتوجيهات ويصوّب اتجاه المنهاج .

المهندس " حسن إمام " دائم التواجد بمكتبه. يتحرك للمواقع وفق الضرورات. نحسه في العمل المباشر عند عطلة السيد كبير المهندسين السنوية. كان مكتب إدارة كبير المهندسين في طابق الميزانين، بينما " وحدة المباني " في الطابق الأول لأحد البنايات التي تخُص كلية الهندسة والعمارة.

لم يكن بيننا والمهندس " حسن إمام " رباط فني مُباشر، إلا عندما طلب المهندس " عبد الوهاب سليمان" من الجامعة انتداب لشركة الشرق الأوسط للتشييد التي كان يرأسها المهندس " أحمد الطيب بابكر " الذي كان يشغل في ستينات القرن العشرين وظيفة " وكيل وزارة الأشغال.


(2)
المهندس " حسن إمام " من رعيل الأوائل الذين درسوا الهندسة المدنية، فقد تخرج في جامعة الخرطوم عام 1958. وكانت درجة البكالوريوس في جامعة الخرطوم تمنحها جامعة لندن ، التي نال زمالة المهندسين المدنيين البريطانيين عندما درس في بريطانيا دراسته العُليا. انتقل من وزارة الأشغال إلى مكتب كبير المهندسين بجامعة الخرطوم عام 1963.


(3)
قد يبدو للناظر لأعباء مكتب كبير المهندسين ووحدة المباني بجامعة الخرطوم، أنه مكتب محدود الأعباء، ولكنهُ يندهش حين يعلم أن كمية المباني المسقوفة التي يشرف عليها المكتب :من قاعات محاضرات والمعامل ومكاتب الأساتذة ومباني داخليات الطلاب والطالبات ومنازل أساتذة الجامعة قد بلغت ( 605000 ) متراً مربعاً !. فقد تصاعدت المباني منذ إنشاء كلية غردون التذكارية كمدرسة أولية ،ثم تطورت إلى كلية غردون الجامعية، ثم بلغت " جامعة الخرطوم".


(4)
كانت جامعة الخرطوم منذ إنشائها أوائل القرن العشرين ، عملاً خيرياً تقوم به مؤسسة خيرية بريطانية، تهدف لتغطية تكاليف المؤسسة التي تم إنشاءها تخليداً لغردون باشا. ولكن انقلاب 25 مايو أوقف الدعم المالي التي تقوم به المؤسسة الخيرية البريطانية. وأصبحت الدولة منذ مايو 1970 تنفق عليها الدولة السودانية.
كانت الدولة حتى خلال أعوام الديمقراطية السودانية الثالثة( 1986-1989)، توفر دعماً للطلاب الذين يدرسون خارج السودان على تكلفة ذويهم. تقوم الدولة بالمشاركة في دعم تحويلات أهاليهم، ليتمكنوا من الوفاء بتكاليف معيشة ودراسة أبناءهم وبناتهم خارج السودان.

وبعد انعدام العملة الصعبة من السودان عقب انقلاب 1989، قرر التنظيم الإخواني ما تسمى بثورة التعليم العالي، والتي من ضمنها التوسع في القبول لاستيعاب الطلاب من جميع السودانيين في الخارج. ولحل مشكلات اللغة، تم ابتداع تعريب التعليم العالي، وتسمية ما جرى أنه من التأصيل!. وذهب وزير التعليم العالي السوداني لسوريا وجلب الكتب الدراسية " بالحاويات " من أجل تعريب الجامعات بدون مشورة أحد، علماً بأن الوزير مختص في الدراسات الإسلامية !.
وبما أن جامعة الخرطوم كانت توفر الدراسة والسكن والإعاشة، فقد تقرر تدريجياً تغيير نظام الإعاشة. وذلك بالبدء بتأهيل المطاعم في داخليات الطلاب والطالبات، وتخصيص تذاكر يتم صرفها لطلاب وطالبات الجامعة للتحكم في وجبات الطعام، توطئة لتصبح الإعاشة بمقابل مادي. وتم تحويل السكن لمؤسسة حكومية عامة تسمى " الصندوق القومي لدعم الطلاب "، تقوم بتأجير السكن للطلاب والطالبات، خاصة الذين هم من خارج العاصمة المثلثة. وقامت الدولة بتحرير دعم تعليم طلاب الجامعات ، وأصبحت الدراسة الجامعية بتكلفة حقيقية تتغير مع مر الزمن.
وليكُن القرار منطقياً، بدأ العمل على بناء جامعات في أقاليم السودان. ووصل الأمر أن قامت " لجنة تمويل التعليم العالي " بزيارة "جامعة دار فور"، ووجدت المباني عبارة عن سور وغرفة للحرس الجامعي. وأن إدارة الجامعة هي في الخرطوم. ورغم ذلك تم قبول الطلاب بها!.


(5)
استطاع تنظيم الإخوان المسلمين استمالة كثيراً من الانتهازيين، نظير للفوائد المتبادلة، لأن التنظيم لا يُعقل أن يحكم دولة وهو صاحب أقلية. لذا استمال التنظيم " من يُرجي منهم " ،يمتص التنظيم رحيقهم، ويقتلهم أخيراً بالفقر، كما حدث للسيد" أحمد سليمان" ، الذي هجر الحزب الشيوعي من أجل مِنعة التنظيم، ولم يشفع له كل ذلك. المثل الذي جئنا به، انتشر زمن حكم التركية السابقة، وهو تعيين البعض للضرورة إلى أن يثبت الفرد أنه أكثر إخلاصاً من الأتراك. وهذا ما حدث لمُدير جامعة الخرطوم المُعين في بداية تسعينات القرن العشرين، فقد أوعز له التنظيم بأنهم سيمتحنون إخلاصه، لذا فعل أكثر من المطلوب.


(6)
اجتمع السيد المُدير بنائب رئيس مجلس ثورتهم ، الذي خصص مبلغ (7) مليون جنيه – بسعر عام 1990- ليتم تأهيل مطاعم الطلاب وصيانتها في ظرف (15) يوم !. ولم يستشر المدير أحد، وطلب السيد المدير السيد كبير مهندسي الجامعة، وعرض عليه الموضوع ، وأفاده السيد كبير المهندسين بأن أمر الصيانة هي من مهام " ورشة الصيانة " ويمكن تكليفهم بذلك مع تحديد الأولويات، ولكن (15) يوم ليست كافية، ويتطلب تقدير الكلفة رفع مقاسات كل المطاعم أولاً.
استشار السيد مدير الجامعة أحد المهندسين المقربين، الذي أفاده بأن (150000 - 100000) جنيه هي تكلفة صيانة قاعة الطعام الواحدة، وأن صيانة عدد (7) قاعات طعام سوف تتكلف مليون أو مليون ونصف على أعلى تقدير. هذه المشورة خائبة، لأن في الجامعة قسم " ورشة الصيانة" وتتبع للسيد كبير المهندسين، وهي الجهة الوحيدة لتقدير تكلفة الصيانة.
بدأ السيد المدير يمنّي نفسه بأنه سيتوفر له على أقله (5) مليون جنيه ، وتكفي لشراء سيارة مرسيدس جديدة وصيانة المنزل المُخصص لمدير الجامعة إضافة لصيانة عدد (7) قاعات طعام.


(7)
رأى مدير الجامعة، أن يكون ثورياً أكثر، بأن يقوم باستدعاء ثلاث شركات لتنفيذ الصيانة المطلوبة خلال (15) يوم، بعد أن أفاده مكتب كبير المهندسين باستحالة التنفيذ في المدة المحددة إلا بزيادة التكلفة. و بعد استشارة مهندسه الخاص، رأى أن تقوم تلك الشركات بتقديم أسعار على نظام " أسعار للوحدات " بالمتر المربع أو الطولي، دون النظر في مقاسات قاعات الطعام المطلوب صيانتها.
عند الاجتماع، استدعى السيد المدير مهندسي مكتب كبير المهندسين، وكل من المقاولين الثلاثة ، مع تقدير أسعارهم في مستندات موثقة لضرورة الاجتماع. وحضر أيضاً بعض قياديي إدارة جامعة الخرطوم.
رأس السيد المدير الاجتماع، وكان يعرض أسعار كل واحد من المتقدمين، ويقترح سعر أقل، فيقبله الجميع، لأنهم قد اقترحوا أسعار شبه خيالية. وكانت بنود الصيانة مجملة في المساح، أعمال البلاط الأرضي وفي الحوائط والطلاءات، وصيانة مناضد الطعام، والكاونترات، ودرابزين المداخل وحتى استلام الطعام بواسطة المستخدمين، ويشمل الصيانة أعمال صيانة النوافذ والأبواب والأعمال الكهربائية جميعاً.


(8)
دام الاجتماع ثلاثة ساعات، وبعد تدوين أسعار الوحدات التي اتفق عليها الاجتماع، طلب توقيع المقاولين الثلاثة، وعندما طلب توقيع السيد كبير المهندسين" المهندس حسن سيد إمام"، اعتذر عن التوقيع فليست لديه صلاحية مدير الجامعة في التعيين المباشر، وأن النظام الهندسي لا يبيح التفاوض المباشر بحضور عدد من المقاولين.
قبِل السيد المدير على مضض، وطلب طباعة قوائم للأسعار، وحدد قاعات بعينها لكل مقاول. وتم تجهيز القوائم. وأرسلت للسيد المدير ووقعها، وكذلك المقاولين الثلاثة.
بدأت سلسلة الأعمال، وخصصت ورشة الصيانة بالجامعة فنيي القياس، لضبط الدفعات للمقاولين، تحت إشراف مهندسي مكتب كبير المهندسين بالجامعة.


(9)
تمت الأعمال خلال الموعد المضروب، وأعطيت للمقاولين دفعة مقدمة حسب العقد. وعند تقديم الحساب الختامي، بعد انتهاء الأعمال ومراجعتها وقياسها بواسطة فنيي الجامعة، بلغت الكلفة النهائية لأعمال صيانة عدد (7) قاعات طعام مبلغاً يقارب ( 7) مليون جنيه.
وعندما عُرضت المستندات على السيد المدير ، جنَّ جنونه. ورأى أن السيد كبير المهندسين " حسن سيد إمام" ونائبه " المهندس قاسم عمر" قد تلاعبا في قيمة القياسات، لأن المبلغ حسب رأيه غير معقول.
فماذا يفعل المدير" البروفيسور مدثر التنقاري"؟
أوصى بإحالة المهندس " حسن سيد إمام " ونائبه المهندس "قاسم عمر". وذلك بادعاء أن السيد كبير المهندسين ونائبه رفضا التوقيع على عقد الصيانات، واضطر هو أن يقوم بالعمل الهندسي. وأن السيد كبير المهندسين ونائبه قد تلاعبا في كلفة صيانة القاعات لتوريط السيد المدير، لذلك أوصى بإحالتهما للصالح العام!. واستلما خطاباتهما نهار الخميس 17 يناير 1991 ، فعند الساعة الثالثة من فجر الجمعة شن التحالف حربهم لإخراج العراق من الكويت.


(10)
طلب السيد مدير الجامعة الاجتماع بالقادة الإداريين بالجامعة في قاعة الاجتماعات بمكتبه صباح الجمعة 18 يناير 1991. تحدث السيد المدير عن وجهة نظره، التي أسلفنا ذكرها: من أن السيد كبير المهندسين ونائبه قد تآمرا في قياس القاعات، مما رفع التكلفة إلى (7) مليون جنيه. وأوضح أنه قد عيّن مكتب استشاري خاص- دون أن يذكر أنهم من التنظيم - لعمل قياسات جديدة للأعمال. وأوضح السيد نائب وكيل الجامعة بأنه من المعروف الكتابة لوزارة الأشغال للتدقيق على القياسات.
فرد السيد المدير: لا، وسوف يكون العمل بتوقيع أقدم المهندسين بمكتب كبير المهندسين- وكان شخصي- مع توقيع مدير المكتب الاستشاري الخاص، وتقدم له،على أمل أن تكون تكلفة الصيانة للقاعات مع تجديد المنزل المُخصص لسكن مدير الجامعة وسيارته جميعها سوف تتكلف (7) مليون جنيه حسب رؤاه.


(11)
كتبت الصحافة الطالبية في حوائط " مقهى النشاط" في مجمع الوسط ، أن السيد المدير بصدد رفع يد الدولة عن تكاليف الطعام، في الوقت الذي يشتري سيارة مرسيدس جديدة، ويقوم بإضافات لمنزل الجامعة الذي خصصته للسيد المدير، علماً بأن في المنزل أصلاً (5) غرف وعدد (3) صالات، و غرفة حارس مع منافعها ومطبخ كبير ومخزن وحديقة بمساحة (400) متراً مربعاً. وكتب الصحافي " محمد طه حمد أحمد " عن ذات الموضوع.
وطلب السيد المدير من " حافظ الشيخ "- عميد كلية القانون الذي عينته الإنقاذ من خارج الجامعة لهدم النظام الأكاديمي الصارم- أن يدبر لقاء مع الصحافي " محمد طه محمد أحمد " بمكتبه ليحل اختلاف الرأي!. وتم الأمر، وبعده كتب " محمد طه محمد أحمد " في الصحافة، أنه لم يزل عند رأيه أن السيد مدير الجامعة يقتصد بشأن منصرفات الطلاب، ويتوسع بالإنفاق على شخصه.


(12)
طلب السيد المدير من مكتب كبير المهندسين أن يقدم فاتورة بالأعمال وتكلفتها في المنزل التي خصصته الجامعة لسكن السيد المدير. ولم تشفع كل التفاصيل، خاصة بعد أن تبين أن المقاسات التي تم حسابها عند الصيانة الأولى، كانت أقل كلفة على الجامعة، بعد أن تكلفت الصيانة بعد قياسات المكتب الهندسي الاستشاري( 7.5 ) مليون جنيه، أي بزيادة نصف مليون!. أي أن مكتب كبير المهندسين قد خفف من وطأة التكلفة لأن الأسعار التي وقّع عليها السيد المدير كانت أعلى من أسعار السوق كثيراً. ورأي السيد المدير ضرورة تخفيض الكلفة، واقتضى ذلك ذات الاجتماع بالتراضي للمقاولين الثلاثة، وعُقد الاجتماع وقلت التكلفة قليلاً. وبقي الأمر الخطأ عالقاً، وزادت الكلفة عن (7) مليون !.
*
تم إعفاء مدير الجامعة، وتم تعيين مدير آخر، الذي قام بتحويل المنزل الذي تملكه الجامعة و المخصص لسكن السيد المدير، إلى منزل لضيافة الجامعة، وسكناً مؤقتاً للأساتذة الزائرين، تخفيفاً لتكلفة استئجار فنادق للأساتذة الأجانب.


(13)
لم تعتذر الدولة عن إحالة السيد كبير المهندسين " المهندس حسن سيد إمام " ،أو نائبه " المهندس قاسم عمر " للصالح العام، الذي اختاره لهم مدير الجامعة" بروفيسور مدثر التنقاري"، مثل آلاف مؤلفة من المُحالين للصالح العام بمنهج التمكين الذي أعده " الشاطر " المصري وتم تنفيذه أولاً في السودان، أو برمي أخطاء البعض على آخرين لأنهم وقفوا ضد إلغاء النُظم وضد الفساد!. ولم يتم تحقيق مع السيد مدير الجامعة بطل الموضوع.
تُرى هل كسب " مدثر التنقاري " شيئاً بأن صار مطية في يد سلطة الإخوان؟
ذهب الصحافي " محمد طه محمد أحمد " إلى ربه بعد ذلك بسنوات، إذ تم اقتياده من منزله ليلاً بسيارة أصحابها من ذوي السلطة، لأنها اخترقت حواجز أمنية ليس من المُستطاع في ظروف منع التجوال اختراقها، وتم اغتياله وقطع رأسه!.
ألا رحم المولى المهندس " حسن سيد إمام " بقدر ما قدم طوال تاريخه، فقد اعتاد المهندسون أن تُطمر أعمالهم، لتظهر أعمال السياسيين، وليتها كانت تليق بقامة موطنهم وإرثه.

عبدالله الشقليني
24 ديسمبر 2018

 

آراء