المهندس صلاح محمد محمود

 


 

 


 

 

بصَّرتُ.. ونجَّمت كثيراً 

لكنّي .. لم أقرأ أبداً
فنجاناً يشبهُ فنجانك
لم أعرف أبداً يا ولدي..
أحزاناً تشبهُ أحزانك

نزار قباني

(1)
لم يكن كتابنا عن الراحل "المهندس صلاح محمود"، إلا جزءاً من توثيق لحياة أحد الوطنيين والإداريين والفنيين الأكفاء، من الذين قدموا حياتهم رخيصة من أجل بلادهم، وفي صمت رحلوا. هو فرد، ولكن هناك ثلة من العملة النادرة التي ظلت في الخدمة العامة، رغم التشريد وحياة العسرة والمذّلة التي يعيشها المهنيون خلال عهد سلطة الإخوان المسلمين، بعد أن ضاقت بهم الحياة، ترغيباً من السلطة ليخلوا وظائفهم من أجل التمكين، و بعد أن وجدوا أن الكفاءة حداً لا يستطيعون استبدالها في وقتهم الراهن، فأثقلوا عليهم بالعمل المضنِ ، والدقيق الذي يأخذ الزمن الخاص في رحابه، لأنك في مسئولية، يتعين عليك أن تؤدي الأمانة بقدر من الحرفية الفنية والإدارية والدقة.
فهل سَلموا من تلك القساوة؟

(1)
هو مهندس في فن العمارة، تخرج في قسم العمارة في جامعة الخرطوم، كلية الهندسة والمعمار في مطلع ثمانينات القرن العشرين. كان يعمل في مركز البحوث والاستشارات الصناعية في الخرطوم بحري. وبناء على نشاطه النقابي، تم إحالته للصالح العام. جاء لمكاتبنا في الإدارة الهندسية بجامعة الخرطوم، كان مقرها منزل من بيوت أساتذة الجامعة بجوار مجمع اللغة العربية، ويفتح على شارع الجمهورية.
كان في الإدارة الهندسية نقص في المهندسين، خاصة بعد إحالة المهندس " حسن سيد إمام " والمهندس " قاسم عمر " للصالح العام في 15 يناير 1991. وجاء صلاح يتقدم بأوراقه والمستندات. عرضناها سوياً أنا ودكتور "عبدالنبي علي أحمد" ، وكان حينها مدير الإدارة الهندسية، منتدباً من كلية الهندسة. أجرينا المقابلة وكان" صلاح" كفئاً بكل المقاييس، الفنية والتأهيل والقدرات الشخصية. قال دكتور "عبدالنبي" إن صلاح سوف يعين هنا و سوف يشاركني المسئولية الفنية والإدارية بجانبي والمهندسة "سهام عبدالله عثمان".

(2)
وقفت عقبة في طريقه وهي أن منْ يذهب للصالح العام، لن يُقبل في وظيفة حكومية حسب المنشورات التي أطلقتها سلطة الإخوان المسلمين. قال دكتور "عبدالنبي" مدير الإدارة الهندسية: إننا من المعاينة والخبرة و الشهادات نختاره، ونحول الأمر بتوصيتنا للإدارة، ولتفعل هي ما تشاء.
وتعين المهندس "صلاح محمد محمود" آخر الأمر معنا في الإدارة الهندسية بجامعة الخرطوم في بداية تسعينات القرن العشرين. بدأ معنا مرحلة جديدة، وبرزت أعماله وتلونت بشخصيته الآسرة، والمقنعة، إضافة على الإرث النقابي الذي يحمل، فإنه معماري حاذق. فيه تلك المزاوجة الطبيعية بين العلم والفن، كأن مواهبه الطبيعية صنعت منه المهندس المعماري.

(3)
استمر تطور صراع السلطة مع الذين لم يستجيبوا لدعوات ما يسمونها ( المؤتمرات). اعتقل دكتور "عبد النبي أحمد "مرتين منذ أن تولى مدير الإدارة الهندسية، منذ أوائل العام منتدباً من كلية الهندسة بجامعة الخرطوم1991. مرة كان معتقلاً في بيوت أجهزة الأمن أو ما تسمى ببيوت الأشباح، ومرة أخرى اعتقل في سجن كسلا لمدة أربعة أشهر، بدون أن يوجه إليه أي تهمة، وبلا تحقيق عن أسباب اعتقاله. وبعد انتهاء الاعتقال الثاني، أنهي دكتور " عبد النبي علي أحمد" انتدابه ورجع إلى كلية الهندسة محاضراً كما كان. وتم تعيين الدكتور.... مدير الإدارة الهندسية بالإنابة، وتم تثبيته في الوظيفة بعد أن أنهى دكتور" عبدالنبي " انتدابه للإدارة الهندسية. كنت نائباً لمدير الإدارة الهندسية، إلى أن هاجرت بعد التصديق لي بعطلة ستين يوماً ولم أعد. غادرت في 15 يناير 1996، في قمة الضغط على من تبقى من العاملين في الخدمة العامة، وشوكة السلطة الإخوانية في قمة جبروتها، وعزّتها بإثم السموم التي حولت البلاد قطعاً من الجمر، وخاصة الذين لم يُعرف لهم اتجاه سياسي. وحلّ المهندس " صلاح محمد محمود " في وظيفتي بعد سفري .

(4)
بعد زمان يقارب العام والنص وصلتني رسالته الثانية، بالبريد العادي، لم أزل أحتفظ بها، ونقتطف جزاً منها لا يتعلق بالخصوصية:
{الخرطوم في 8/7/1997
الأخ المحترم ....
لك التحايا والود والسلام وكثير الاحترام. كيف الحال والأحوال والصحة والعمل. آمل أن يكون كله تمام. وتكون المسائل بدأت تتوضح والأقدام بدأت في الرسوخ مع بداية عامك الثاني في دنيا الاغتراب والنضال والبحث عن لقمة العيش خارج الوطن ... آمل صادقاً أن توفق توفيقاً كاملاً في الختام وتبدأ في تحقيق الطموحات والآمال. نحن هنا جميعاً بخير ونجتهد في أن نكون أحسن وسط ظروف غامضة كثيراً وليست خافية عنك، فقد عايشتها كثيراً جداً وصارت أكثر تعقيداً الآن .. نتمنى أن ننجح في مسعانا هذا.
الإدارة الهندسية كجسم ما زالت موجودة، وتخوض صراعاً رهيباً لكي تبقى وتتطور. وآخر الأخبار دكتور.... قدم استقالته من 1/ 7 الجاري وتم قبولها، وذلك بعد كثير من التهريج والاستهبال والاستهتار والعشوائية في الإدارة، وأنا الآن أقوم بالمهام بالإنابة بعد صدور قرار بذلك من إدارة الجامعة و" لحين البت في أمرها" على حد قول خطاب التعيين ". ونحن الآن ننتظر هذا البت!!!....}

(5)
تسلمت الخطاب الخاص، وبعده بعام عرفت أنه سقط عند خروجه من أحد الاجتماعات في مكتبه، وأصيب بغيبوبة دائمة. وقدمت الجامعة عاجلاً تذكرة سفره للمملكة المتحدة حيث يوجد أخيه يعمل طبيباً هناك. أجريت له عملية في رأسه فقد كان به ورماً يتعين إزالته. عاد إلى السودان فاقد للذاكرة تقريباً. انتظر بعض الوقت ورحل إلى الغيبة الكبرى.
علمت بالخبر صاعقا وأنا في دنيا غير التي عهدناها. فقدت صديقاً، كنت أراه رفيق عمر، كأن الطفولة حفرت في ذاكرتينا تشابهاً غريباً. التقينا في دروب وعرة، وأشواك سلطة الإخوان المسلمين تغرز أنيابها في وطن، كان مسرح أحقاد نشأت من: كيف سقط الأمين للتنظيم منتخباً من قبل التنظيم الأسود، في دائرة الصحافة خلال انتخابات الديمقراطية السودانية الثالثة؟.
*
ألا رحمه الله رحمة واسعة، في زمان تذهب للغيبة الكبرى أرتال من المتميزين، دون أن نحس بذلك، تحت ظل أسوداً غطي ملاءة الوطن.

عبدالله الشقليني
25 مايو 2019

alshiglini@gmail.com
////////////////////

 

آراء