المهيدي …. ذاكرة القرية المستدامة
د. حامد البشير ابراهيم
10 April, 2012
10 April, 2012
(5)
hamidelbashir@yahoo.com
المهيدي راجل أُمي لم يدخل المدرسة وإن درس قليلاً في المسيد لكنه زول (نَجِيضْ) كما يصفونه ناس القرية والقرى المجاورة . والصادق متعلم درس في المدرسة ثم في المعهد العلمي بالدلنج وأهل البلد يفضلون أن يطلقوا عليه لقب (الفكي الصادق) في دلالة على أنو "متعلم علم دين" ويعرف في ذات الوقت الكثير في (علم الدنيا) ورجل خايف الله و خايف المجتمع: يأكل مع الناس أكلهم ويشرب شرابهم ويلبس هدومهم ويزرع معاهم و لا يلبس المنطلون وما بعمل أي شئ من (لغوسة) المتعلمين من شاكلة التمباك والسجاير والحاجات التانية. هذا النوع من المتعلم، في القناعة الشعبية الراسخة وفي الوعي غير المكتوب في القرية، هو الأكثر إئتماناً على التراث وعلى الثقافة وعلى كل المنظومة القيمية والمعرفية وبالتالي يستحق أن يكون شريكاً أو نائباً للمهيدي في سيرورة تاريخ القرية.
إن المهيدي كثيراً ما يعتز بأن (علمو) هو (علم دنيا) وفوق ذلك هو "علم فاخورة" ــ أي علم شفاهي مكانه الرأس وليس الكراس وإن جميع حساباته اليومية أما عملها بالسبحة التي أيضاً يعمل بها الإستغفار أو عملها (راَسية) (يعني رأسية).
وإن حدود زراعته وزراعة أسرته ـــ وزراعة الآخرين ـــ من قبل سبعين عاماً يعلمها بتاريخ شجيرات اللالوب المتناثرة في الوادي وبأشجار العرد والأبنوس وبالقنطور وقصور التراب التي شيدها النمل، وبالتبلدية التي يسكنها الشيطان الذي ضرب موسى ود العرب سنة 1938 عند المغرب، وأيضاً بمكان تواجد شجرة الصهب الطويلة بجوار خور النعامية والتي طردوا منها البعاتي سنة 1947، وقد طار لتوه أمام أعينهم عندما قرأ عليه الفكي أحمد أبوكرش ــ القادم من دارفور وربما ما بعدها ــ عندما قرأ عليه القافات. ومنذ ذلك الحين أصبح كل من في القرية يعرف ماهي القافات وحزب السيف وحزب البحر والضروريات الأخرى المهمة للحياة مثل "سور المعايش وتساهيل الرزق" (الواقعة ولإيلاف قريش) وكذلك تلك السور التي تجمع بين قلبين (في الحلال) في شأن الله وبإذن الله مثل سورة يوسف عليه السلام وبالأخص الآية: " فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن ... إلخ الآية". وقد قضينا العشرة الثانية من عمرنا نحفظ ونقرأ في هذه السورة وخاصة خلال الفترة الممتدة بين إرسال (الخطاب الأول) وإنتظار الرد عليه. وكنا في سبيل كل ذلك ندفع بالقليل الذي نوفره في صندوق التوفير (حفرة صغيرة في طرف البيت) لندفعه في شكل بياض (عربون) للفكي أحمد أبوكرش الذي كان يقوم بدور الداعم الروحي لوهجنا الرومانسي وكذلك يقوم بعملية الإرشاد النفسي ــ الإجتماعي (counseling) في محاولاته (الصادقة) بإذن الله للجمع بالحلال بين قلبين أضنى أحدهما الحب والهيام في إنتظار رد الطرف الآخر ــ أو هكذا كان يشيع لمن يحاصرونه في الراكوبة الكبيرة في دفوعاته ومسوغاته الدينية للأغراض الدنيوية. في الحقيقة لا أحد يتحدى سلطة الفكي أحمد أبوكرش الروحية.
إنه كان يعملها لله كما أصبح يقال ويردد لاحقاً (هي لله) "سبحان الله نفس كلام الفكي أحمد أبوكرش (1967) أصبح يردده الأفندية في التلفزيون والراديو بعد ثلاثين سنة من ذلك.. واضح أنو الفكي كان رجل صالح... كما ذكر العم ماهل.
ويبدو إننا معشر الشباب وكذلك أؤلئك الذين إرتبطوا مع الفكي أبوكرش بعقودات أخرى للكتابة مثل أن يُسخِر لهم بسطة في الرزق (زيادة السعية وزيادة إنتاج الفول والدخن أو أن تكثر الأبقار والضأن من ولادة الإناث في القطيع). في الحقيقة وللأمانة لقد كنا في حالة رضى وإنبساط من أداء الفكي أحمد أبوكرش الروحي وجهوده لإحداث التغيير في حياة الأفراد يبدو أن الكل من العملاء كان مبسوطاً إلا عمنا ماهل الرزيقي والذي إستكتب الفكي أحمد أبوكرش للرزق الذي تأبي وقد بلغ من العمر ستيناً وكان فقيراً معدماً يمتلك حمارة واحدة مع دحشها (إبنها) الصغير وتعينه على الحياة ــ ما إستطاعت ــ زوجته عائشة التي تعاني من بعض التحدي العقلي ويبدو أنه قد أصابتها العين أما في طفولتها أو عند زواجها وذلك (لجمالها) حيث حقيقة تبدو عليها مسحة جمال غطت عليه تراكمات الفقر وترسبات الحزن من الزمن البعيد. أمها و أبوها كانوا مساكين .. (الفَقُرْ بَخْتِفْ النُورةَ). كان قد
كانت متطلبات الكتابة للرزق من رأس المال الأولي (down payment) عالية وصعبة خاصة للفقير مثل عم ماهل لأنها تشترط مقدم بياض (ناس البنك الأيام ده يسمونه هامش جدية وناس السوق يسمونه عربون) زائداً ذبح ديك يومياً (كل يوم بلون مختلف) لمدة سبعة أيام (إلى أن تخلص كل ألون الديوك في الحقيقة). وفي اليوم السابع والأخير يذبح تيس أبيض أقلها أن يكون رباع (بالغ) (يعني أصبح يعمل إزعاج في زريبة الغنم بالليل)، كما وصفه أستاذ إبراهيم الذي دائماً يسعى لشرح واقع الريف بلغة المدينة وبكلام الأفندية. بالإضافة للديوك والتيس هنالك منصرفات وخدمات غير منظورة مثل خدمات الشاي (سكر زيادة) والقهوة المتواصلة وكورة اللبن وعصيدة الدخن بعد العشاء وهي التي تعين الفكي أحمد على قيام الليل حسب ثقافة رجال الدين. ثم يأتي بعد كل ذلك المكون النقدي للعقد (الكونتراكت). في الحقيقة في ذلك العام (1967) كان العم ماهل قد أضطر أن يستدين قيمة الديوك السبعة والتيس الرباع (البالغ) والمكون النقدي وقدره عشرة جنيهات، بعد أن قرر أن لا تصالح مع الفقر في سانحة وجود الفكي احمد أبوكرش بالقرية والذي صادف أن حرك كل من في القرية حسب أجنداته وطموحاته الحياتية (السري والمعلن منها):
- هناك شباب إستكتبوه ضد السلاح الناري.
- وآخرون إستكتبوه ضد العكاز وذلك من خلال منظومة أو شريحة روحية سحرية (sim card) يحملها الإنسان في شكل حجاب يلبس على الذراع تعرف بإسم "عنقلت" حيث "تتعنقل" أو "تتسمر" معها يد الخصم الضارب في حالة الشَكَلْ والدُواس.
- وآخرون إستكتبوه للنصر في محكمة السنجكاية في نزاع أراضي وصل عامه السابع والثلاثون.
- وجماعة إستكتبته لنجاح الأولاد في المدارس بكتابته لهم آيات الفهم " ففهمناها سليمان ..." وآيات النجاح "إذا جاء نصر الله والفتح".
- وهناك من أستكتبه للبيع والشراء.
- وآخرون أستكتبوه للطب وللسحر.
- وأخرى أستكتبته لزوج نافر.
- وآخر أستكتبه لزوجة طامح.
- وآخر طلب منه أن يكتب له سورة (الجلبة) ليجلب له أبنه التجاني الذي ذهب لدار الغرب (دارفور) (ناجعاً) من قبل ثمانية سنوات وإنقطعت أخباره.
- وآخر إستكتبه لسداد الدين الذي طال أمده.
- وآخر أستكتبه للمراح الذي توقف عن الزيادة.
- وتلك إستكتبته لصد العين والأرواح الشريرة من (كليتيم) (تصغير كلتوم) الذي تمنت أمها أن لا يتزوجها رَجُل مزارع بقول "الله كريم المطرة تجي" لكن يتزوجها موظف يقول: "بس إنتظرني آخر الشهر".
في حين بقيت أنا وآخرين نكثر من قراءة سورة يوسف في دبر كل صلاة وعقب كل رسالة...
... كان ذلك في صيف العام 1967.
للأسف لم أسمع عن شخص واحد في القرية إشتكى من الفكي أحمد أبوكرش أو إنتقد فعالية خدماته سوى العم ماهل الرزيقي. حيث في اليوم الثامن من عملية القضاء على الفقر إلى غير رجعة، ماتت حمارة عمي ماهل الوحيدة (بالنجمة) وهو مرض فيروسي معدي يصيب الحمير (في الصيف). وفي اليوم العاشر مات الدحش الصغير (نتيجة العدوى لتواجده بجوار أمه) وعند حضوره عصراً من السوق محملاً بمتطلبات وجبة العشاء للفكي أحمد صُدم عم ماهل بالمنظر التراجيدي وذرف دمعاً سخياً وما من لحظات حتى وإنهال ضرباً (بعكازته) على الفكي أحمد أبوكرش مردداً بإحتجاج صارخ:
"إنت أنا جبتك تكتب لي للغني تقوم تكتب لي للفَقُرْ"!!.
دا فكي فوراوي ما بخاف من الله والله يا جماعة"
على الطرف الآخر من القرية كان المهيدي يدير حواراً بين زوجين متنافرين، يبدو أن دعوات أحمد أبوكرش قد أثمرت فقط بإدخال الأجاويد وإنتصارهم لصالح قسيمة بت سماعين الأورطة والتي قد بهرت بشهادتها جميع الأجاويد عندما قالت: أنها قد أنجبت أطفالها الثلاثة الآخيرين وهي لا تمتلك غير "عراقي" (ويعني فستاناً) وتوب كِرِب ونعال زيزي .. "ساكتة على خشمي وقلت بت الرجال بتمسك بيتها بالفي وبالمافي" : أكدت قسيمة بنبرة واثقة لجميع الرجال في الجودية الذين أبدوا تعاطفاً معها وإنبهاراً بروحها: فخاطب المهيدي زوجها قائلاً:
أسمع يامحمد دربان (الزوج):
العوين زي الخيل ... بدورن (عايزات) الدُرْبة والإهتمام.
درِّب أم عيالك .... وسوي ليها السمح.
.................
يصلي الظهر
ثم العصر
ثم يفرش... كما في أم دبيكرات (1899)
ملوحاً بالسيف وبالراتب وبالسبحة
...................
إنتهت الدولة .. لكن تبقى الدعوة.
إنشا الله نتلاقى في ساعة خير...
هِنا...
أو هِناك...