النبل السياسي والتبادل السلمي للشعلة! رؤية لمخرج من المأزق ومغادرة للمسرب

 


 

 

 

سقط الوطني و حاضنته و ما عليهم بواكي: فكل فرد -غير نفعي- له عليهم مآخذ؛ و ذا السقوط ما أنجز إلا بفضل صمود جيل جديد صاعد أدرك واقعه المرير و انسداده. فما المطلوب الآن، و كيف السبيل إلى بلوغه دون "شعبوية" أو "ديماغوغية"؟

بالنظر إلى المشهد السياسي الحالي نتبين وجود ثلاث مجموعات ناشطة يشكل تفاعلها البيني - سلبا و ايجابا- الأرضية السياسية الآنية، هذه المجموعات هي أيضا المعطى لمناقشة كل من الواقع الجديد و الواقع المأمول.
فما هي هذه المجموعات؟ و ما هو التفاعل المقصود سلبا و ايجابا بينها؟ و ما هو هذا الواقع الجديد و المأمول؟ و ما المقصود بالنبل السياسي المفضي الى التبادل السلمي للشعلة؟
أما المجموعات آنفة الذكر فهي:
• المجموعة التي هيمنت على المشهد السياسي و عملت على تشكيله و صياغته وفق رؤاها الخاصة فأقصت و مكنت و بعثرت ثم أفسدت و عبثت ثم سقطت.
• المجموعة الثانية و هي كل الآخرين (غير الجيل الجديد الصاعد) ممن ظلّ فاعلا عقب الإستقلال سياسيا و مجتمعيا و ثقافيا و إلى حينه.
• ثم المجموعة الثالثة و هي جيل صاعد لم تتنحَ عنه جينات المجتمع السوداني الراكزة بل ظلت هذه الجينات في تأسل (Atavism) مستمر تبدى في النجدة و العطاء و الغوث من خلال منظمات هذا الجيل التي سمع بها و أحس بوجودها الجميع وقت الحاجة و عند الكوارث. و هذا بلا ريب وعي إجتماعي مجتمعي مقدر.
الآن تغيبُ عن المشهد المجموعة الأولى و تساط الأضواء علي الأخرتين و صار الكل بصدد صياغة و تأسيس ثم تكريس واقع سياسي جديد يرتجى أن يكون سليما معافىً و يصحح أخطاء النخب (يقولون السابقة) و ما أفرزته من إعوجاج أقعد بالسودان و أعاقه عن النهوض و زجّ به في دائرة مغلقة معلوم تتاليها. و يبدو أن النظر يتجه نحو المجموعة الثانية لتتحمل مسؤولية غير تقليدية في هذا الظرف.
و هذه المجموعة الثانية هي مظنة النبل السياسي في هذه اللحظة الفاصلة (watershed) من تاريخ تطورنا السياسي، و سيتمظهر نبلها في جماع ناتج تفاعلها المقصود مع المجموعتين الأخرتين. و ليصبح هذا التفاعل منتجا فيجدر أن يكون وعاؤه هيكل من ثلاثة مستويات (مؤقت و انتقالي و دائم) يبنى عليه صرح وطن نورثه الأجيال دون خوف من لعنة أو ملامة كما ظللنا نلوم في كتاباتنا و ندواتنا من مضوا من نخب الإستقلال.
إن المستويات المنشودة ههنا هي مراحل ثلاثة (مؤقتة و إنتقالية و دائمة) بينها تداخل سلس. و كي لا يُهضمُ الجيل الصاعد حقه في الإعداد و التكوين استعدادا للمرحلة الدائمة (آخرة الثلاث) يتعين أن يكون مدى الفترتين الأوليّتين مدة من أربع سنوات (ثنتان للمؤقتة و ثنتان للإنتقالية) و الثالثة و الأخيرة هي الثمرة المرتجاة من جهد سابقتيها. إنّ ما يهم حقا هو المقصد من وراء كل مرحلة منهم؛ و تكون كالتالي:
1- المرحلة المؤقتة و مدتها سنتان: بمثابة فترة فاصلة (buffer zone) تضع نصب عينيها الجيل الجديد الصاعد (المجموعة الثالثة) و تهدف الى:
a. "كديب" الأرض تأمينا للزرع السياسي الجديد. و لا يعد هذا إقصاء بل هو من باب التفضيل الأيجابي (Affirmative Action) لأجل معادلة الأحوال في الفترة المؤقتة. فضلا عن ذلك، فكيمياء السياسة و الواقع لا يستوعبان قبول مجموعة "سياسية" لفظت لتوها. و في هذا الصدد يتم اتخاذ العديد من الإجراءات العملية (و قد بدأت بالفعل).
b. تأمين البلاد من التفلتات التي قد تنجم عن بعض الجهات التي لم تستوعب أو لا تقبل التغيير.
c. حفظ التوازن بين مكونات الطيف السياسي داخل المجموعة الثالثة.
d. إعداد المسرح لتدريب الجيل الصاعد (apprenticeship) على الممارسة الديمقراطية و يكون ذا التدريب بضمير و موضوعية و دون محاولة لإستقطاب أو تأثير. و اليقين أن وسائط المعرفة و هذا التعرض السائد للثقافات سيمكن الجيل الصاعد من فهم التدريب على أنه أبعد من مجرد الجلوس الى نيللي Nellie) (Sitting by بل سيُعمل فكره و أدوات التفكِير الناقد (critical thinking) و التفكّر (reflection) ليخرج بخلاصاته هو و ليست المملاة.
e. معاونة الجيل الصاعد على تشكيل تيارات ثلاثة تمثل اليمين و الوسط و اليسار و هي التوجهات الرئيسة الملاحظ وجودها في كل مجتمع سياسي حديث بغض النظر عن جغرافيته أو ثقافته أو قيمه. و يمارس هذا الجيل في إطارهذه التيارات الثلاثة الديمقراطية عينها تصويتا و تصعيدا و قبولا و تفهما؛ و ذلك تمهيدا للمرحلة الدائمة فينجو الوطن من أدواء أصابت ما سلف من ديمقراطييات ثلاثة نُهِشنَ وما قال أحدٌ "جر!".
f. النقطتان (d) و (e) لا تتحققان إلا إذا أدرك الجميع أن الجيل الصاعد مدرك و هي مرحلة تسبق بقليل الوعي السياسي، بل و تختلف عنها. فقد كان للتجريف السياسي الذي مورس و لتمييع كل من النشاط الطلابي و العمل النقابي و للتمكين في الخدمتين المدنية و العسكرية أثر بالغ في التنشئة (nurture) السياسية و التي كانت سائدة قبلُ. إذا؛ فعلي الجيل الصاعد أن يتفهم حقيقة وجوده الآن في هذه المرحلة بسسب تلك الظروف الموضوعية. و لربما تكون لغير ذلك محاذيرٌ أقلها بروز لمحاولة القيادة من الخلف (leading from behind) و من ثمّ الرجوع الى حيث منبع الأدواء... و حرب داحس و غبراء... المستقطبون فيها لا يسالون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا...
g. هذا التفاعل -السلبي و الإيجابي- بين المجموعات الثلاثة يفرض عمليا أن يكون مدى الفترة المؤقتة سنتان تبدأ فيها كل الأحزاب - دون تمييز أو إجبار على التكتل (خلا تيارات الجيل الصاعد الثلاثة)- بتهيئة نفسها بادئة في دأبها هذا بورش عمل و سمنارات حول الديمقراطية و الممارسة الديمقراطية، ثمّ الهيكلة و البرامج و التأطير و كسب القواعد.
h. يسيّر المرحلة المؤقتة مجلس عسكري للسيادة و التشريع المؤقت؛ و حكومة مريتوقراطيا (meritocracy) من المدنيين تهتم بالإقتصاد و الخدمات: هيكلة و تنفيذا لتخرج البلد من وهدتها فتقلع.
الخلاف قد يكون واقعا الآن حول معطيات هذه النقطة المتعلقة بقبول صلاحيات لقوات الشعب المسلحة. إلا أن واقع الحال و الممارسة الفعلية أنبأت بأن الركون و اللجوء كانا إلى قوات الشعب المسلحة حين تعسرت الأمور و كانت هي عند حسن الظن بها فأحدثت التغيير الذي تأبى قليلا على أشهر أربع من الحراك الصامد. لربما يتفق الجميع على أن مهام القوات الشعب المسلحة في أصلها غير متعلقة بالسياسة و إدارتها؛ بيد أن الواقع المخالف يتطلب علاجا مخالفا. و في كل الأحوال فالفترة محدودة و الشارع لم يستقل أو يقلع، و إن آوى الى فراشه فعينه ترقب.
2- الفترة الإنتقالية و مدتها سنتان: تشرف على الإنتقال الديمقراطي.
a. يمارس السيادة فيها مجلس إنتقالي مدني بمشاركة من القوات المسلحة.
b. تتحول حكومة المريتوقراطيا (meritocracy) المؤقتة إلى حكومة إنتقالية تنفذ كافة عمليات التحول الديمقراطي إضافة الى مهامها الأخرى.
c. يتكون مجلس تشريعي (مدني) يراقب أداء الحكومة و يعمل على بناء الإطار القانوني للدولة و يضع أسس التحول الديمقراطي و تداول السلطة؛ ثمّ الدستور الدائم و كل ما يتعلق بالإنتخابات و يكون محائدا لا يكرس لإقصاء أحد مستقبلا فيرث جيل الصاعدين بعد ذهابنا مفاتيح لمرارات جديدة.
d. تُجرى في نهاية المرحلة الإنتقالية إنتخابات (بحسب نظام الحكم الذي يقع الإتفاق عليه) و تكون حرة شفافة لا تستثني أحدا و تتوافر فيها كل الفرص بصورة عادلة فيختار الشعب من يراه مناسبا (و للمرء أن يستعرض في ذهنه حظوظ مكونات الطيف في المشهد السياسي آنئذ).
3- المرحلة الدائمة: يتمّ فيها تحصين هذه المرحلة الديمقراطية و إدامتها و لا يكون ذلك فقط بسك القوانين و سنها، إذ أثبتت السنون القريبة أن خرق الديمقراطية (إنقلابات الأحزاب) كان عند كل المنعطف، يطل كلما أوشك حزب على فقد مكاسبه؛ بل إنّ تحصينها سيكون طبيعيا و ذاتيا إذا تُرك المسرح للجيل الصاعد (المجموعة الثالثة) بعد تدريبه الصادق في المرحلتين السابقتين.أما المجموعة الثانية فهى عرضة لواحد من ثلاثة: فعل القدر أو الطبيعة أو العقل!
وفي كل الأحوال... ستنتقل الشعلة... فحبذا لو كان باعث ذلك هو النبل السياسي...
ما أوجد أحد ليخلد في دست الحكم جسما أو أفكارا، و لنا في أهل الثلاثين عبرة...
و إنِّي لأربأ بالنخبة أن تكون كآل بوربون "لا يتعلمون شيئا و لا ينسون شيئا".

د. حسن الزبير
20-4-2019

hassanalzubair@yahoo.com

 

آراء