النخبة السياسية وإشكاليات التغيير
يقول المفكر الأمريكي صمويل هانتنتون في آخر فقرة في كتابه " النظام السياسي لمجتمعات متغيرة" يقول " إن المجتمع العاجز فعلا ليس المجتمع الذي تهدده الثورة، بل المجتمع غير المؤهل لها، في النظام العادي يتفانى المحافظ في سبيل الاستقرار و استمرارية النظام، فيما يهدد الريدكالي هذين المظهرين بالتغيير المفاجيء و العنيف. لكن ما هو معنى مفهومي المحافظة و الراديكالية في مجتمع تسوده بلبلة كاملة، حيث يجب أيجاد النظام من خلال الفعل الايجابي للإرادة السياسية؟"
هذا السؤال نفسه يجب أن يطرح علي القيادات السياسية السودانية، التي تنظر للبلاد و هي في طريقها للهاوية، و كل منهم يحاول أن يفرض أجندته علي الآخرين في تحدى، كأن الثورة جاءت بهدف وضع الشروط السياسية علي الآخرين، فالثورة في السودان جاءت لتزيل نظام شمولي فرض نفسه بقوة المؤسسات العسكرية التي أسسها بهدف حمايته من الثورة، و سقط و انتصر الثوار الذين دفعوا الضريبة الغالية للتغيير، أرواح العشرات منهم، لكي يحدث التحول الديمقراطي، و تنفرج الحالة الاقتصادية التي كانت فوق طاقة الأغلبية. فجأت الأحزاب لكي تملأ الفراغ السياسي و لكنها كانت هي التي تشكل الفارغ نفسه، حيث لا تملك أي مشروع سياسي متفق عليه. و بدلا أن توقف الغلاء و تدهور الجنيه الذي وجدتهما عليه بعد سقوط النظام، لكنها فشلت في ذلك، و تدهورت الحالة أكثر من 500% مما كانت عليه، أن القيادات التي جاءت لسلطة الفترة الانتقالية ليس لها مشروعا تطبقه، لذلك دب وسطها الخلافات المتواصلة حتى تسببت في حالة شبه إنهيار للدولة بعد ما تدهورت الحالة الأمنية حتى في المدن و العاصمة.
يؤكد علماء الاجتماع أن المجتمع الذي يعاني من ضعف في طبقته الوسطى لن ينجح في عملية التغيير، باعتبار أن الطبقة الوسطى عندما تكون ضعيفة، لا تكون منتجة للمعرفة و الثقافة، و لا تملك تصور لعملية البناء الاجتماعي، إذا هي طبقة مشغولة بحاجاتها الأساسية للمعيشة اليومية، أي أن طاقتها جلها مستوعبة في البحث عن الحاجات الأساسية للمعيشة اليومية، و حتى مؤسساتها العلمية لا تستطيع أن تقدم ما هو المطلوب في عملية التغيير، فالضعف يصبح ظاهرة عامة في المجتمع، فالتحول الديمقراطي يحتاج إلي تغيير فكري و ثقافي، لكنه يغدو عصيا علي نخبة تعاني من الضعف الفكري، لقد اثبتت تجربة ما بعد السقوط هذا الضعف للطبقة الوسطى، حيث حصرت نفسها في محاصصات السلطة مما يؤكد فقرها السياسي. يقول جورج لاكويني في كتابه " العقل السياسي" يقول " يجب أن يحدث تنوير جديد، لينتج وعي جديد، ينبع هذا الوعي الجديد من الرؤية الأخلاقية للديمقراطية، و التي في قلبها الشعور بالغير، أي رؤية العالم من حيث مايراه الآخرون" معلوم من خلال التجربة، أن النخبة السياسية تفتقد للاعتراف بالأخر، لذلك تحاول أملاء شروطها علي الأخر و ليس استيعابه، مما يؤكد إنها لا تدرك الدور المنوط أن تلعبه، و هذا يتماشى مع رغبتها في السلطة التى تغازل الرغبات الخاصة للقيادات، و هؤلاء لضعف المخزون الثقافي الديمقراطي عندهم لذلك ذهب جل أهتمامهم إلي المحاصصات، فالعقلية التي كانت ترفع شعارات الديمقراطية عجزت في التعامل مع فكرة الديمقراطية، لأنها لا تملك المعرفة الكافية للتعامل معها، لذلك تجد الشعارات في اتجاه و السلوك المناقض يذهب في اتجاه معاكس.
فالحالة التي يعيشها السودان حاليا، من تعدد الأزمات و استمراريتها، تؤكد على عجز النخبة السياسية في إيجاد حلول لها، فالعجز هو ناتج عن حالة ضعف الطبقة الوسطى التي يقع عليها عبء الاستنارة في المجتمع، حيث انشغلت الطبقة الوسطى بالقضايا اليومية، و عجزت عن إيجاد حلول لها، أو هي نتيجة لفشل أطروحاتها، و هذا الفشل ينسحب علي جميع مؤسساتها السياسية، إذا كانت أحزاب أو منظمات مجتمع مدني. فالشمولية ليست فقط تتمركز في بنية النظام السابق، و إنتاجه للثقافة الشمولية، بل الأحزاب السودانية بوضعها الحالي هي نفسها منتجة للثقافة الشمولية، إذا كان ذلك يعود لدور الكارزمات الذي يغيب تماما دور المؤسسية في الأحزاب، أو لضيق المواعين الديمقراطية في تلك الأحزاب، لذلك هي عاجزة في إنتاج الثقافة الديمقراطية، و حتى أن النخبة لا تعرف حتى ما هي أدوات الديمقراطية، التي كان يجب الاستعانة بها في معالجة الوضع السياسي القائم في البلاد، هذا التناقض بين الواقع غير الديمقراطي داخل البناءات الحزبية، و بين الشعارات التي تنادي بالديمقراطية، يخلق إنتاج ثقافى متناقض يتسبب في الوعي الزئف لدى قطاع واسع من الجماهير، هو الذي يتحدث عنه الأستاذ عبد العزيز حسين الصاوي بأن مصطلحات الديمقراطية مفرغة من مضامينها الأساسية، لذلك تحولت من دائرة الفكر إلي دائرة الشعارات ذات الفترة الزمنية المؤقتة، لملء فراغ ثقافي و فكري تعاني منه المؤسسات الحزبية لنقص الكادر الذي يشتغل بالعمليات الذهنية، بل تسعى حتى للتضيق علي الآخرين بعدم تجاوز ما هو مطروح في الساحة لخيارات أخرى ربما تكون النخبة السياسية عاجزة عن استيعابها، فهي نخبة محدود المعرفة و الفعل السياسي. أي هي نخبة تحتاج أن تحرر نفسها من اآطار الذي وضعت نفسها فيه و عجزت عن الخروج منه لقصر النظر.
نجد هناك من يتحدث أن النخبة أيضا فشلت في توعية الناس، و ظل الإعلام يلعب أدورا ثانوية في العملية السياسية و الثقافة الديمقراطية، لأنها محاصر من قبل عقليات ماتزال متشعبة بالثقافة الشمولية و غارقة فيها، و الإعلام ليس فاعل في نقل حقائق الواقع المتشظي، بل لا يستطيع أن يخوض في أعماق المشاكل حتى يشير إلي مكامن الضعف في هياكل السلطة الانتقالية، فالقوى السياسية عندما تفشل في خلق تصور عام يتم الاجماع عليه من قبل القوى المختلفة و المتنوعة في الساحة السياسية، يصبح دورها ضعيف في كل القطاعات، لأنها لا تملك الرؤية التي تؤسس عليها إستراتيجية عملها، يصبح كل واحد يجتهد بنفسه، لكن لا يستطيع أن يتجاوز السقوف التي حددتها القوى السياسية الخاملة، فالخمول حالة طبيعية للقوى التي تهمل العمل الفكري، لأنها تفقد بوصلة الاتجاهات.
فالملاحظ في المؤسسات الحزبية أنها لا تفتح داخلها حوارات فكرية، و لا ترغب في الذين يثيرونها، لأنها تفضح مقدرة القيادات في هذه المؤسسات، لذلك ليس غريبا أن ينشق حزب البعث لعدة أحزاب عندما أرادت مجموعة أن تقدم أطروحات فكرية عن الديمقراطية داخل مواعين الحزب، و أيضا مارسها الحزب الشيوعي ضد الدكتور الشفيع خضر و حاتم قطان و زملائهم عندما تبنوا فكرة تقول يجب أن تكون الفلسفة الماركسية واحدة من مرجعياتها الفكرية التي تشميل جميع المرجعيات الإنساني الأخرى و السلام، و أيضا هي التي دفعت حزب المؤتمر الشعبي أن يمنع شباب " الإحياء و التجديد" من قيام ندواتهم داخل دار الحزب، و أيضا هي التي جعلت الميرغني لا يقبل نشاطات المثقفين في الاتحادي الأصل. فالفكر هو القوة الفاعلة و المقنعة في عملية الوعي السياسي، و ترفضها النخبة السياسية التي وصلت الآن لقمة هرم الأحزاب. فالضعف الذي يعتري الأحزاب السودانية جميعا سببه غياب هؤلاء المفكرين. لذلك سوف تتعثر الفترة الانتقالية كثيرا و تظل الآزمات تراوح مكانها إذا لم تتعمق أكثر. نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com